الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين في العالم القديم

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2022 / 9 / 10
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الدين هو عبارة عن منظومة تراتبية من المعتقدات والممارسات تتمحور حول، أو توصل إلى، تجربة روحانية سامية. وما من ثقافة مدونة عبر التاريخ البشري لم تمارس شكلًا ما من أشكال الدين.

كان الدين في الأزمان القديمة لا ينفك عن ما نسميها اليوم ’الأسطورة‘ ويتألف من طقوس اعتيادية تُؤدى بالنيابة عن كيانات عليا خارقة للطبيعة يُنسب إليها خلق العالم والأكوان المحيطة وحفظها وتدبير أمورها. كانت كيانات مجسمة وتتصرف على نحو يعكس بشكل وثيق القيم السائدة في الثقافة (كما في مصر) أو تنخرط أحيانًا في أفعال منافية لتلك القيم (كما نرى مع آلهة اليونان). سواء في العالم القديم أو الحديث، سنجد الدين يُعنى أساساً بروحانيات البشر والأرباب والربات، وخلق العالم، ومكان الإنسان في العالم، والحياة بعد الموت، والخلود، وسبل الإفلات من العذاب في الحياة الدنيا أو في الآخرة؛ وسنجد أن كل أمة قد ابتدعت ربها الخاص على صورتها الخاصة وسِحْنة تشبهها. عن ذلك كتب الفيلسوف اليوناني كسـِنوفانيس من كولوفون (570-478 ق.م):

"يتصور العامة آلهتهم تُولد وترتدي الملابس وتصدر الأصوات وتتجسد في هيئاتهم وسحناتهم. لكن لو كان للثيران والخيول والأسود أيدي أو بمقدورها أن ترسم بأياديها وتصنع أشياء كما يفعل الرجال، لكانت الخيول رسمت صور الآلهة على هيئة الحصان والثيران على هيئة شبيهة بالثور، وكل منهما شكل أجساد الآلهة على شاكلته. لهذا تصور الأثيوبيون آلهتهم سود البشرة بأنف أغطس؛ والتراقيون بعيون زرقاء وشعر أحمر."

اعتقد كسـِنوفانيس في وجود "إله واحد، الأعظم بين الآلهة والرجال، لا مثيل ولا شبيه له من البشر في الهيئة أو العقل" لكنه يزال محاط بزمرة من الآلهة. فبمعزل عن رؤى ونبوءات اليهودية، لم يكن التوحيد المطلق يروق لمخيلة القدماء. بل كان معظم الناس، على الأقل إلى حد ما نستطيع قراءته من السجلات المكتوبة والأثرية، يؤمنون بآلهة عديدة، كل منها له نطاق نفوذه الخاص. فكل امرئٍ منهم في حياته الشخصية لا يكتفي بشخص آخر واحد فقط لتلبية كل احتياجاته؛ بل سيضطر إلى التفاعل مع العديد من أنواع البشر المختلفة بغية تحقيق الاكتفاء وتدبر لقمة العيش.

وفي حياتنا اليومية المعاصرة، سيضطر كل واحد منا للتفاعل مع والديه ومدرسيه وأصدقائه وأحبائه ورؤسائه في العمل، ومع الأطباء والعمال في محطات التزود بالوقود ومع السباكين والبيطريين والكثيرين غيرهم. فما من شخص واحد فقط باستطاعته أن يؤدي كل هذه الأدوار أو يلبي كل احتياجات الفرد- تمامًا كما كان الحال في الأزمان القديمة.

بنفس هذه الطريقة، شعر القدماء أن ما من إله واحد كان بمقدوره أن يعتني بكل احتياجات الفرد. وتمامًا مثلما لن يذهب أحد منا إلى السباك بصحبة كلبه المريض، ما كان أحد منهم سيذهب إلى إله الحرب طلباً للعون في مشكلة عاطفية. بل حين يعاني المرء من جرح الفؤاد، كان سيذهب إلى إلهة الحب؛ أما إذا أراد الظفر في ساحة القتال، فما كان عليه سوى أن يستشير إله الحرب.

الآلهة العديدة في أديان القدماء أدت هذه الوظيفة مثل المتخصصين في مجالات تخصصهم المختلفة. وفي بعض الثقافات، كان أحد الأرباب أو الربات يبلغ حدًا من الذيوع والانتشار يتجاوز الفهم الثقافي للتعددية ليجمع من القوة والشمول ما يكاد يحول ثقافة تعدد الآلهة (polytheistic) إلى ثقافة تكبير أحد الآلهة (henotheistic) دون الآخرين.

بينما يعني تعدد الآلهة عبادة العديد من الآلهة، يعني تكبير أحد الآلهة عبادة إله واحد لكن في أشكال متعددة. هذا التحول في الإدراك كان نادرًا للغاية في العالم القديم، وربما يمثل كل من الإلهة إيزيس والإله آمون من مصر القديمة خير مثالين للصعود الكامل لأحد الآلهة من إله وسط عديدين إلى الخالق الأعظم وحافظ الوجود الذي يتجلى في أشكال مختلفة.

كما سبقت الإشارة، كانت كل ثقافة قديمة تمارس شكلاً ما من أشكال الدين، لكننا لا نستطيع أن نحدد على وجه اليقين النقطة التي بدأ عندها الدين. ولا يزال الجدل مستمر حول ما إذا كان الدين في بلاد ما بين الرافدين أعطى الإلهام لدين المصريين من دون حسم منذ أكثر من مئة عام حتى الآن ولا يتوقع أن يُحسم في أي وقت قريب. فالأمر الأكثر ترجيحاً هو أن كل ثقافة طورت اعتقادها الخاص في كيانات خارقة للطبيعة لتفسير ظواهر طبيعية (الليل والنهار، المواسم) أو للمساعدة في إضفاء معنى على حيواتهم وعلى حالة عدم اليقين التي يجد فيها البشر أنفسهم بصفة يومية.

بينما قد توفر محاولة تتبع أصول الدين تمرينًا مثيراً في التبادل الثقافي، إلا أنه من العبث إضاعة الوقت في ذلك، حين يبدو واضحاً للعيان أن الوازع الديني هو ببساطة جزء من الحالة البشرية وأن الثقافات المختلفة في أنحاء مختلفة من العالم قد خلصت بطرقها الخاصة وبشكل منفصل إلى الاستنتاجات نفسها حول معنى الحياة.

الدين في العرق القديمة

كما مع العديد من مظاهر الرقي والابتكارات الثقافية، ذُكرت ’مهد الحضارة‘ العراق القديمة باعتبارها منشأ الدين. لا نعرف بالضبط متى تطور الدين في بلاد ما بين النهرين، لكن تاريخ أولى السجلات المكتوبة للممارسة الدينية يعود إلى 3500 قبل الميلاد من سومر. قضت المعتقدات الدينية العراقية القديمة بكون البشر عمال مشاركون مع الآلهة وعملوا معهم ومن أجلهم لصد شرور قوى الفوضى التي سبق وقيدتها الأرباب العليا في بداية الزمان. فالآلهة قد خلقت النظام من الفوضى، وهو المبدأ الذي توضحه إحدى أشهر الأساطير حول الإله العظيم مردوخ الذي هزم تيامات وقوى الفوضى لكي يخلق العالم. يكتب المؤرخ د. بريندان ناجل:

"رغم انتصار الآلهة المؤكد، ما كان هناك من ضامن ألا تستعيد قوى الفوضى قدرتها وتعبث في خلق الآلهة البديع الصنع. كان الآلهة والبشر على حد سواء منغمسون في نضال أبدي لتحجيم قوى الفوضى، ولكل منهم دوره الذي يؤديه في هذه المعركة الدراماتيكية. وتمثلت المسؤولية على عاتق سكان المدن العراقية القديمة في تزويد الآلهة بكل ما يحتاجون لكي يديروا العالم.

في حقيقة الأمر، قد خُلق البشر من أجل هذا الغرض بالذات: العمل مع الآلهة ومن أجلهم صوب غاية مفيدة للطرفين. وهنا لا يصمد زعم بعض المؤرخين بأن العراقيين القدماء كانوا عبيداً لآلهتهم، لأنه كان واضحاً تماماً أن الناس فهموا موقعهم كعمال مشاركون. وكانت الآلهة تكافئ البشر مقابل خدماتهم عبر الاعتناء باحتياجاتهم اليومية في الحياة (مثل إمدادهم بالبيرة، شراب الآلهة) وتدبير العالم الذي عاشوا فيه. كانت تلك الآلهة تعرف معرفة وثيقة احتياجات الناس لأنها لم تكن من نوعية الكيانات البعيدة التي عاشت في السماوات العلى، بل كانت تسكن بيوتاً على الأرض أقامتها لها أقوامها؛ ومن تلك البيوت شيدت المعابد التي زينت كل مدينة عراقية قديمة.

اعتبرت مجمعات المعابد ذات الزقورة المدرجة بمثابة بيوت الآلهة بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث كان الكهنة والكاهنات يتولون إطعام تماثيلها واستحمامها وإلباسها يومياً تماماً كما يفعل الخدم مع ملكهم أو مليكتهم. وفي حالة مردوخ، على سبيل المثال، كان تمثاله يُحمل خارج المعبد أثناء احتفالات تكريمه ويُطاف به عبر شوارع مدينة بابل حتى يرى جمالها ويستمتع بالهواء الطلق وأشعة الشمس.

كانت إنانا ربة قوية أخرى قُدِّست إلى حد بعيد كإلهة للحب والجنس والحرب، واعتنى كهنتها وكاهناتها بتمثلها ومعبدها بكل تفاني وإخلاص. تعتبر إنانا واحدة من أقدم الأمثلة لشخصية إله الموت والبعث الذي يختفي في العالم السفلي ثم يعود إلى الحياة ليجلب الخصوبة والوفرة إلى الأرض. كان لها شعبية هائلة وانتشرت عبادتها في جميع أنحاء العراق القديمة انطلاقاً من منطقة سومر في الجنوب. ثم تحولت فيما بعد إلى عشتار لدى الأكاديين (ثم الآشوريين)، وعشتروت لدى الفينيقيين، وسوسكا لدى الحيثيين-الحوريين، وارتبطت بأفروديت لدى اليونانيين، وإيزيس لدى المصريين، وفينوس لدى الرومانيين.

كانت المعابد مركز حياة المدينة طوال التاريخ العراقي القديم منذ الامبراطورية الأكادية (حوالي 2334-2150 قبل الميلاد) حتى الآشورية (حوالي 1813-612 قبل الميلاد) فصاعداً. وقد خدم المعبد وظائف متعددة: كان رجال الدين يصرفون الحبوب والبضائع الفائضة للفقراء، وينصحون المحتاجين، ويقدمون الخدمات الطبية، ويرعون الاحتفالات الكبرى تكريماً للآلهة. ورغم اهتمام الآلهة البالغ بالبشر في أثناء حياتهم الدنيا، كانت الحياة الآخرة في العراق القديمة عالماً سفلياً مخيفاً، يقع بين جبلين بعيدين، حيث كانت الأرواح تشرب الماء العفن من البرك وتأكل الوحل من أجل الخلود في ’أرض اللاعودة‘. وكانت هذه النظرة الكئيبة لدارهم الآخرة مختلفة بشكل ملحوظ عن نظرة المصريين وجيرانهم الفرس لدارهم الآخرة.
،،، يتبع،،،،،،،،
______________________
ترجمة: عبد المجيد الشهاوي
رابط المقال الأصلي: https://member.worldhistory.org/trans/ar/1-131/edit/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل دعا نتنياهو إلى إعادة استيطان غزة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. روسيا تكثف الضغط على الجبهات الأوكرانية | #غرفة_الأخبار




.. إيران تهدد.. سنمحو إسرائيل إذا هاجمت أراضينا | #غرفة_الأخبار


.. 200 يوم من الحرب.. حربٌ استغلَّها الاحتلالِ للتصعيدِ بالضفةِ




.. الرئيس أردوغان يشارك في تشييع زعيم طائفة إسماعيل آغا بإسطنبو