الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطار آخن 2

علي دريوسي

2022 / 9 / 11
الادب والفن


مضت أيام على لقائه الأول معها في القطار، كان يذهب كل يوم بعد انتهاء دوامه باتجاه مقر شركتها الكائن في بناية ضخمة وعالية، وفي كل مرة يعود خائباً إذ لم يجرؤ على دخول البناية والوصول إلى باب شركتها.
عصر يوم جمعة حسم أمره أخيراً، طرق بابها، فُتح الباب، وجد نفسه في مكتبٍ فخم، اللون البني يغطي تفاصيل المكان: طاولة المكتب من الخشب البني، الكراسي، اللوحات، الديكورات والسجادة المفروشة في أرض المكتب. رائحة التبغ تضفي على المكان سحراً استثنائياً. خلف الطاولة جلست السيدة، ما إن رأته حتى نهضت، تقدمت باتجاهه لاستقباله، عانقته، شكرته للمجيء ودعته للجلوس.
- أتشرب القهوة؟
- بكل سرور.
- تستطيع أن تدخّن، فأنا أدخّن في مكتبي، لا أحد يمنعني.
شكرها ومَدّ يده إلى جيب سترته، أوقفته، أوقفت حركة يده، قدّمت له علبة تبغها ماركة "غارغويل"، أشعلت له السيجارة، وذهبت تُعدّ القهوة، سحب أنفاساً متلاحقة من سيجارته ليغطي على قلقه، شعر بنشوة غريبة، شعر بارتياح، جاء فنجان القهوة، تحادثا عن أشياء لا معنى لها، بردت القهوة قليلاً، أخذ الرشفة الأولى، مذاقها غريبٌ طيب، استعذبها، أخذ الرشفة الثانية ولحقها بالثالثة، خفّ توتره حتى تلاشى، ودّ تدخين السّيجارة الثانية، سبقت يدها حركة يديه إلى جيبه وقدّمت له سّيجارة جديدة.
ـ ليس من اللائق في عرف الضيافة أن أجلس خلف المكتب وأنت أمامه، سأعمل استثناءً لهذا اليوم وأجلس قربك، هل تُمانع؟
جلست قبالته، رفعت فستانها إلى ما فوق ركبتيها وطوته على فخذيها وبينهما، أرخت ثقل ظهرها إلى مسند المقعد، باعدت ساقيها، أشعلت سيجارتها واسترخت.
ـ هذا ما ينبغي أن نعمله بعد نهاية أسبوع عمل، علينا بالاسترخاء.
صبّت له فنجان قهوة آخر، دخّنا كلاهما بتتابعٍ، اقترب منها، حذّرته:
ـ لا تقترب، ستحترق!
في ذاك المساء احترقا سويةً على السجّادة الممدودة في أرض مكتبها الذي يكتنفه الغموض.
بعد الحريق غادرَ إلى غرفته الطلابية بابتسامة ورأس مملوء برائحة القهوة وطعم سجائر "غارغويل" والشهوة لحرائقَ قادمة.
**

مرّت عليه عطلة نهاية الأسبوع طويلةً وثقيلة، اشتاق للّون البنّيّ، ما أن عاد إلى عمله في أول أيام الأسبوع حتى حاول جاهداً الاتّصال بها دون جدوى، اتّصل في اليوم الثاني والثالث والرابع والخامس دون جدوى، اتّصل عدة مرات في اليوم الواحد دون جدوى.
عصر يوم الجمعة - وكأنه كلب بافلوف - توجّه إلى حيث مقر عملها، طرق الباب متردداً، فُتِحَ الباب، سمعَ صوتها مُرحِّباً:
ـ خمَّنت أنّك ستأتي في هذا الوقت.
قدّمت سجائرها وطلبت منه أن يهدأ قليلاً، كي تُكمل ما بين يديها من عمل.
بعد بضع دقائق نهضت باتجاهه ويدها اليسرى تخلع سروالها الداخلي، حين اقتربت منه كان سروالها الأسود قد صار بين أصابعها. قرّبته من أنفه وقالت بصوت واثق:
ـ سأكون لك الليل بأكمله إن أحببت، أين ستأخذني؟ كيف ستحرقني؟
وقبل أن يفتح فمه ليتفاعل مع سؤالها أردفت:
ـ دقائق وأعود إليك.
اختفت لوهلة في غرفةٍ جانبية لتخرج مرتديةً فستاناً مريحاً لنزهةٍ ليلية وعلّقت على كتفها حقيبة يدوية أنيقة.
تنزّها في شوارع المدينة المضاءة، سألته إن كان يشعر بالجوع، كانا قد اقتربا في تلك اللحظة من أحد المطاعم اليونانية والتركية المنتشرة في المدينة التي تقدّم وجباتٍ مسائيةً سريعة وثقيلة، دخلا إلى المطعم، لحقهما الجرسون بكأسين من الشاي وتمنى لهما أمسيةً لطيفة.

في ظُلمة شارع، تحت غطاء أشجاره، على الرصيف أشعلا سيجارتين وراحا يدخنان ويمشيان بهدوء، أخرجت من جزدانها قطعتي شوكولاتة وأعطته واحدة وتركت الثانية لها، ثمّ أخرجت علبتين زجاجيتين صغيرتين، قدّمت له واحدة والأخرى لها، لم يسأل، فعل مثلما فعلت، فتح العلبة الصغيرة وشربها دفعةً واحدة ثم مضغ الشوكلاتة خلفها، لم يخطّط لوجهتهما، اللاوعي وحده من قادهما باتجاه سكنه الطلابي، وضع المفتاح في قفل الباب، دخلا إلى السكن، مرت طالبة نصف عارية خرجت لتوها من حمام الشقة المشترك، حيّتهما الصبية ومضت إلى غرفتها، فتح الباب ودخل إلى غرفته الصغيرة كمؤخرة عقرب، غرفة مستطيلة الشكل ضيّقة، غرفة تتسع لينبوعٍ من الجنة، لمكتبة وطاولة للدراسة وسرير فردي وخزانة ملابس وكرسي هزّاز للجلوس.
وضعت حقيبتها جانباً على الطاولة، وجلست على الكرسي، أما هو فجلس على طرف السرير، نظر إلى الزهور في حديقة جسدها، إلى شفتيها المنتبجتين وإلى عينيها المسافرتين بحثاً عن النشوة، لم يقوَ على الكلام، لم يعرف ماذا ينبغي عليه فعله، ماذا يفعل بها أو لها، كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساءً بقليل، لم يسألها عما إذا كانت ستعود إلى شركتها أو بيتها أو إلى غرفة في فندقٍ ما، لكنه سألها:
ـ أتشربين الشاي الأسود؟
ـ معك أشرب كأساً بطيبة خاطر، أعده لنا ريثما أذهب إلى دورة المياه.
تناولت حقيبتها اليدوية وغادرت الغرفة، أصبح الشاي جاهزاً، اِسودّ لونه أكثر، برُدَ قليلاً، عادت المرأة كتفاحةٍ شهيّة بفستان نوم لم يرَ مثيله حتى آنذاك، عادت بخدّين متورّدين، همست:
ـ لا تؤاخذني، فأنا مُنهكة.
جلست إلى الكرسي وباعدت بين ساقيها، همست ثانيةً:
ـ أتطفئ الضوء؟ يكفينا النور القادم من الشارع. ألديك شموع؟
وهو كالأحمق ما زال واقفاً يبحث عن مكانٍ للجلوس، تمتم:
ـ بَرُد الشاي، أأعدّ لكِ كأساً جديداً؟
أجابته وهي تشير إلى السرير:
ـ بدّل ملابسك إن أحببت واجلس هنا، قبالتي.
فعل ما ائتُمر به، وزاد عليه أن ذهب إلى دورة المياه، بل قام بتنظيف أسنانه بالفرشاة والمعجون، غيّر ملابسه الداخلية، رشّ عطراً خفيفاً رخيصاً بعيداً عن جسده، كان قد قرأ في روايةٍ ما أنّ العطر لا ينبغي أن يلامس الجسد، لعلها روايته التي يحلم بكتابتها، مشت سحابة العطر في حركة مغزلية وهو في مركزها يدور معها، يبتسم ويغنّي: "ليالي الأنس في فيينا"... للمغنية المشهورة أسمهان في فيلم "غرام وانتقام".
**








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية


.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-




.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني