الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعني وآليات الاحتجاج في شعر الأبنودي

أمل سالم

2022 / 9 / 13
الادب والفن


إذا افترضنا أنه ليس هناك نظرية عامة للشعر، وأن كل شاعر يحمل نظريته معه، فهذا الافتراض ينطبق في شعر العامية المصرية على عدد من الشعراء من جيل الخمسينيات والستينيات، ويكون الأبنودي على وجه التحديد في طليعة أولئك المعنيين بذلك.

كما نجد أنه من المفيد أن نفرق أولًا بين مفهومين يتم المزج بينهما عن دون دراية أو عمدًا، وهما: مفهوم الشاعر، ومفهوم الشاعر المدرسة، فالشاعر -وباختصار شديد- عند أهل العربية قديمًا هو من يتكلّم بالشعر، أي الكلام الموزون المقفي، وعند المناطقة من يتكلّم بالقياس الشعري، أي أن الشاعر عند العرب هو من يمتلك أدوات الشعر من لغة سليمة وأوزان عروضية تميز قوله عن النثر. غير أنه في حاضرنا أصبحت كلمة الشاعر تطلق جزافًا على كتابات متعددة، تبدأ من الموزون عروضيًا ويمكن الحكم على شاعريته، مرورًا بشعر التفعيلة، منتهيًا بالكتابات النثرية التي تحمل حسًا وأسلوبًا مختلفين عن مثيليهما في النثر الخالص، وأعني بذلك ما أطلق عليه مجازًا "قصيدة النثر".

أما الشاعر المدرسة فهو الشاعر الذي يؤسس لنوع من الكتابة يعتبر جديدًا-أو متميزًا- على معارفنا العربية وإبدعاتنا، كما أن تناوله للموضوعات يختلف اختلافًا كليًا عما سبقه، وقد يقتضي به آخرون فيما بعد، ولذا نجد أن تأثيره واضحًا في أبناء جيله من الشعراء، وغالبًا ما يمتد أثره للأجيال التي تلي جيله. ولعل من أبرز الأمثلة على الشاعر المدرسة محمود سامي البارودي إمام مدرسة الإحياء والبعث، فقد وصفه الدكتور عمر الدسوقي في كتابه قائلًا: "شاعر فارس،يده على الشعر العربي يد من أقاله من عثرته وأنهضه من كبوته وأعاد له ديباجه المشرقة ومعانيه السامية، وكأنما كانت في يده عصا ساحر صيرت الميت حيًا، والضعيف قويًا، والمعدم ثريًا، وكان شعره في العصر الحديث نموذجًا لكل من آتى بعده من شعراء العربية" ، كذلك عبدالرحمن شكري وعباس محمود العقاد زعيما مدرسة الديوان.

وإذا قلنا إن الشعر من حيث اللغة نوعان، هما: الشّعر الفصيح: وهو الشّعر المَكتوب باللّغة العربيّة الفَصيحة. والشّعر العامي: وهو الشّعر المَكتوب أو المنطوق بغير اللّغة العربيّة الفصيحة، وإنّما بِلُغة النّاس العاميّة المُتداوَلة بينهم، أو بلهجة عامية ومحلية، ويمكن أن نجزم أنه من الخطأ الخلط بين الشعر العامي والشعر الشعبي، ذلك أن الشعر الشعبي له شروطٌ محددة وخصائص ينفرد بها عن خصائص الشعر العامي، حيث إن الشرط الوحيد أو المميز للشعر العامي هو أن يكتب باللغة العامية فقط، أما الشعر الشعبي فله العديد من السمات الجوهرية التي تحكم على شعبيته بعيدًا عن السمات الشكلية والمتمثلة في عامية اللغة،
ويشير إلى ذلك الشاعر مسعود شومان فيقول: "من هنا يمكننا أن نقرر بداية أن شعر العامية لم يكن امتدادًا للزجل، أو الشعر الشعبي، ويدعونا إلى هذا القول إن هناك ربطًا متعسفًا يعقد أواصر صلة بين الشعبي والعامي، ويجعل الأخير امتدادًا له، ولعل هذا الربط مصدره هواة رد الأشياء إلى مصدر محدد يعرفونه" .

والزجل هو صورة من صور الشعر الشعبي في مصر، وهو فن مصري أصيل أبدع فيه أساتذة من أمثال: عبد الله النديم، وبيرم التونسي، وقديمًا كانوا يتناظرون به في الأسواق ويقيمون عليه المراهنات، والزجل يماثل في طبيعته الشعر العمودي، فهو يعتمد أيضًا على البيت المكون من شطرين، وعلى نفس أوزان الشعر المعروف، ويلتزم كذلك بالقافية الواحدة، وقد تتعدد في القصيدة الواحدة.

وسواء حاولنا إرجاع شعر العامية المصرية إلى أصل سابق أم اقتنعنا أنه أصل قام بذاته، فالحقيقة أنه يعد بناء جديدًا في المضمون عن مضمون الزجل، وأدى هذا البناء في المضمون إلى اختلاف الشكل، فأضحينا أمام الشكل والمضمون اللذين لم يكونا مألوفين من قبل، واللذين كونا شعر العامية المصرية. حتى أن الدكتور يسري العزب يذهب في كتابه الأدب الشعبي إلى أن شعر العامية في مصر "إنما هو شعر فصيح، وإن خلا من الإعراب، وذلك لأن عامية شعرائنا إن لم تكن عاميتنا المصرية كلها، هي ابنة شرعية للغة العربية الفصحى، لا تصل الاختلافات بينهما في الأصوات وبناء الجملة إلى حد التناقض.

*شعر العامية قبل الأبنودي:
أغلب الظن أن إدخال العامية في الكتابة تطورت عن طريق استماع المصريين للموشحات الأندلسية وفن الزجل الذي كان يجول به الشعراء، وأقدم ما وصل إلينا مما يمكن اعتباره كتابات بالعامية هو مربعات ابن عروس، إلا أن ظهور خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم وإصداره لجريدتي: "التنكيت والتبكيت"، و"اللطائف"، ثم إنشاؤه لمجلة "الأستاذ"، وفيهم جميعًا كان يتخد من اللغة السهلة -وهي الوسيط بين الفصحى والعامية- وسيلة للتواصل مع الجماهير، فقد كان يجمع في كتاباته بين الألفاظ الفصحى والألفاظ العامية، ويناسب بينهما في ترابط وتسلسل محاولاً جعل وصول المعنى إلى القارئ أو المستمع من أيسر السبل، وقد نجح في ذلك، وبذلك أسس النديم لاستخدام المفردات العامية داخل اللغة الفصحى الرصينة، حتى إن شعره كان يتخذ نفس الأسلوب؛ مما حذى به للانتشار والتلاحم المجتمعي. كما أن الشاعر الساخر بيرم التونسى عضد من خلال أعماله الانتقادية من استخدام المفردات العامية المصرية في كتابة الشعر.

كما أن العديد من المطربين والمطربات وعلى رأسهم كوكب الشرق أم كلثوم قد اعتمدوا في أغنياتهم كتابات بيرم التونسي، وقد غنت له أم كلثوم (الورد جميل، الأولة في الغرام، هو صحيح الهوى غلاب،….إلخ)، وكذلك شادية ومحمد الكحلاوي ....، وقد أدى ذلك إلى قبول الجماهير المصرية لهذا النوع من الكتابة، بل ومهد لنقل العامية المصرية إلى الدول العربية الأخرى كلهجة مفهومة ويسهل ترديدها وقبول التحدث بها، وفي هذا تختلف عن عاميات دول أخرى متحدثة باللغة العربية أيضًا.

واستفاد من ذلك أيضًا الشاعر صلاح جاهين، فمع الثالث والعشرين من يوليو قدم شعرًا يتميز بالبساطة والبعد الإنساني؛ مما جعله يلقى قبولًا جماهيريًا، خاصة مع ما تتميز به الرباعيات من فلسفة عالية وإنسانية راقية. فصلاح جاهين قدم يوليو للجماهير، وهي بدورها ردت له الجميل، فقدمته كشاعر رمز لتلك المرحلة، وارتباطه الوثيق بالثالث والعشرين من يوليو كان السبب الرئيسي في ضبابية رؤيته وتعطل مشروعه الشعري بعد حدوث هزيمة السابع والستين وانهيار المشروع القومي آنذاك.

أما فؤاد حداد، فعلى الرغم من غزارة إنتاجه الشعري، إلا أن ما وصل إلى الجماهير وتفاعلت معه هو الشعر الذي يمر عبر التصوف والروحانيات "الحضرة الذكية"، والاحتفاء بالشهر الكريم "المسحراتي".

غير أن جيل الخمسينات في شعر العامية قام بدور مواز ومماثل للدور الذي قام به شعراء الفصحى، فحين كان صلاح عبد الصبور ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب وآخرون يأخذون الشعر من عموده إلى الشعر الحداثي، كان شعراء العامية من الآباء (فؤاد حداد، وفؤاد قاعود، وصلاح جاهين) يأخذون العامية المصرية من التعبير بالزجل إلى شعر العامية المصرية كتيار شعري جديد قائم بذاته وليس له جذور فيما سبق. وبذلك اختصرت العامية المصرية المشوار الطويل الذي قضاه الشعر الفصيح في عموده، وانعكاس هذا الشكل الثابت والمحدد على مضامينه.

غير أن الأبنودي والذي حضر بديوانه الأول "الأرض والعيال" في العام 1964 استفاد من تجربة شعراء التفعيلة خير استفادة، بل وأيضًا من تجربة المزج بين الشعر والنثر في قصيدة النثر، والتي بدأت بوادر ظهورها بصدور مجلة "شعر" في لبنان شتاء 1957.

ويمكن القول إن الأبنودي جاء إلى ساحة العامية المصرية وبها عدد من عمالقة شعراء العامية ذوي الموهبة الفائقة والفارقة كصلاح جاهين وفؤاد حداد، واللذين يعدا من جيل الخمسينيات، وهما من ربطا هذا الشعر بالنضال الوطني لنيل الاستقلال من الاستعمار وتكوين نظم سياسية قائمة على الديمقراطية لتحقيق العدالة الاجتماعية.

وجاء الأبنودي وتكون جيل ساهم في نشر العامية المصرية والارتقاء بها، ومنهم: أحمد فؤاد نجم، ومجدي نجيب، وفؤاد قاعود، وسمير عبد الباقي، وزين العابدين فؤاد، وغيرهم.

ويمكن القول أن عدد شعراء العامية المصرية أصبح بعد ذلك في تنام مستمر، ولكن يبقى أن الشاعر المدرسة مصطلح لا يمكن إطلاقه إلا على عدد قليل من كتاب العامة المصرية كفؤاد حداد والأبنودي، حيث إن كلًا منهما له طبيعته الخاصة، فعلى حين كتب فؤاد حداد العامية الموزونة، والتي تتبع بحور الشعر العربي، كتب أيضًا قصيدة التفعيلة، لكن يذكر للأبنودي الاعتماد على قصيدة التفعيلة العامية، كما يقول الدكتور صلاح فضل: "والواقع أنه أحدث نقلة نوعية في بنية القصيدة العامية، حيث جعلها أشد كثافة وحداثة من ناحية، وأرق حاشية وأبلغ تجسيدًا وتصويرًا من ناحية أخرى" .

ويحسب له أيضًا نشره للعامية المصرية في أرجاء الدول الناطقة باللغة العربية، حيث كتب عددًا من الأغاني التي شاعت فساهمت في ذلك، حيث كان يكلف بكتابة الأغاني للإذاعة المصرية كأغنية "وهيبة"، والتي لاقت رواجًا آنذاك، وكذلك الأغاني التي لاقت رواجًا شعبيًا كـ "عدوية" والتي أجاد الأبنودي التغزل في المرأة فيها:
يا ام الخدود العنابي
يا ام العيون السنجابي
...
والله صورتك بتنفع تزين الجرانين
*المعنيّ في شعر عبد الرحمن الأبنودي:
بالنظر إلى مجمل أعمال الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، والتي بدأ في نشرها من عام 1964 بديوان "الأرض والعيال"، فإننا يمكن أن ننتبه إلى ما يعني به الشاعر في أعماله في أربع نقاط أساسية، وهي:

*أولًا: الزمن كمسرح للنص الشعري:
لا يمكن فصل الدلالة الزمنية عن الدلالة المكانية في النص الشعري، كما أنه في العلوم الطبيعية لا يمكن رسم حدود واضحة الملامح بين الأبعاد المكانية الثلاثة والبعد الزمني، حيث يطلق مصطلح "الزمكان" على الدراسات التي تتناول الأبعاد الأربعة. ويقول الفيلسوف الفرنسي برغسون: "ما من أحد أشعر بالزمن من الشاعر".

والزمن عند الأبنودي مسرحٌ دائمٌ، وحضوره ضروري ليس فقط لتكوين الصورة الشعرية ودلالاتها، بل أيضًا محاولة دائمة لاستحضار الزمن النفسي عند المتلقي أو القارئ. ومن الصعب تتبع جماليات الزمن في النص الشعري لدى الأبنودي في مقال، فهذا يحتاج لدراسات متأنية، وعمومًا فإن أبعاد الزمن التي تعطي جماليات النص لديه متعددة، فها هو يستخدم الليل كمفردة زمنية بثنائية الزمن العام والزمن الخاص، وهو يستخدمه على وتيرة واحدة خلال مشروعه الشعري كله كمرادف لكل ما هو سلبي، وبين الحين والحين يتغزل في جمالياته فيما يعد زمنًا خاصًا:
الليل جدار
إذا يدَّن الديك من عليه يطلع نهار

والليل في شعر الأبنودي غالبًا ما يكون مرادفًا للظلم والاستكانة وجبروت الحاكم والجور، وقد يقلل الشاعر من قيمة الليل في مقابل النهار، وهو اعتقاد مرتبط بطبيعة الفلاح المصري الذي يعمل بالنهار ويعتبر الليل سكنًا له بمجرد حلوله.
الليل صراصير
وطاحون.. وغفير
وطيور سودا تنعق..تنعق
تدمي القمرة بمناقير.. وتطير

ويرتبط الليل مع رمزية الحاكم في البلاد، فترد مفردات: العمدة، والخفير...، وجميعها تمثل السلطة:
طواحين بتدور للعمدة وبس
وضروع الليل حلبت.. حلبت
وسقت مِيّات

وكثيرًا ما نجد النهار مندحرًا أمام الليل، ومتخاذلًا، ويأتي على استحياء باعتبار أن الليل رمزٌ للسواد والظلام، والحصار، وهو الوحش الذي يأكل أحلام البسطاء:
والنهار ..لابس خيوط المغربية
إيد بيوزن بيها هَمُّه
وإيد مخبي فيها شمسه ف حِجر كُمُّه .

ولا تتغير نظرة الشاعر لليل عبر دواوينه، فنجده أيضًا يعمق لهذه الفكرة، بل يمتد الليل ليصبح مرادفًا للموت، أو أن الموت ذاته متجسد في الليل:
في الليل ينام الحمام
وفي القلوب..الهموم
وفي السما ينام الغمام
...
ينام العجز..والإنسانية..والطموح..
والكذب
والحب
والاتنين.

والشتاء أيضًا مرادف لليل في سكونه، ليله طويل، ولا يترك للشمس فرصة أن تشرق كثيرًا، والشتاء وطول الليل دلالة المعاناة والمرارة. ويفرد الشاعر للشتاء أول قصيدة له في ديوان "الفصول"، وهو الديوان الصادر عام 1970 في طبعته الأولى، وهو أول ديوان يصدر للأبنودي عقب هزيمة 1967، ويكفي أن القصائد الخمسة الأولى في هذا الديوان عنونت بالآتي: " الشتا"، و"قصيدة تانية للشتا"، و"أمشير"، و"قصيدة تانية لأمشير"، و"الخماسين"، وفي منتصف الديوان قصيدة مريرة بعنوان: "تحت الليل".

وجميعها تصف القهر والهزيمة والارتداد للداخل، وتصف معاناة الإنسان المصري، ولذا نجد أن مفردات هذا الديوان أكثر ميلًا إلى الخزيان والانكسار والهزيمة، فهو يستحضر الشتاء القارص والقاسي، ويستحضر شهر أمشير (أبو الرياح)، ويستحضر رياح الخماسين التي تأتي على مصر محملة بآلاف الأطنان من الرمال.
ما شفتهمش..الدنيا عتمة وليل
كانت النجوم ..
حجارة تتحدف . وأنا المرجوم
كان العفن داخلي من وداني
الليل منبت في حيطاني

وارتبط الليل أيضًا بالقهر في صورة السجن والسجان تتضح في الأبيات التالية:
بيجي في حين ..
بارد..عريض الكف..خاوي العينين
رجليه تقال يا صحابي ..متسلسلين
...
بارد.. يقش المدينة.. والكورنيش
...
بارد..عريض الكف.. كالسجان

ويشبه الليل كثيرًا العدو، والنهار هو ملاذ الإنسان وملاذ الوطن، ويظهر ذلك واضحًا في أغنية: "موال النهار"، والتي كتبها الأبنودي عقب هزيمة 1967، وغناها عبد الحليم حافظ.
والليل القاسي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالهزيمة، فها هو في ليل مرتبط بالاحتلال، ليل دامس شديد الحلكة بلا قمر، ليل حزين على المستوى المادي (أبو النجوم الدبلانين)، وعلى المستوى المعنوي (أبو الغناوي المجروحين):
عدّى النهار .. والمغربية جايّة
تتخفّى ورا ضهر الشجر
وعشان نتوه في السكة
شالِت من ليالينا القمر

ويجيد الأبنودي التصاعد والانتقال من المستوى المادي إلى المستوى المعنوي، آخذًا القارئ أو المستمع لأغانيه في رحلة شعورية للسيطرة التامة على ذائقته عبر استخدامه لمفردات عامية حياتية قد لا تحمل هذا القدر من الشاعرية عند استخدامها اليومي.
ارسم صورتك بيدي (المادي المستطاع)
عالنسمة اللي تعدي (المادي التخيلي)
عالفجر ابو ضحكة وردي (المعنوي)
عالعمر اللي ورايا (استخدامه لمفردة "ورايا" العامية، والتي تستخدم للدلالة على الماضي، وتستخدم أيضًا للدلالة على المستقبل: ورايا مشاوير).

وفي هذه الأغنية "موال النهار" بالتحديد يتجلى الاحتجاج على الليل ومكوثه في الوطن في أصدق صوره:
أبداً بلدنا ليل نهار
بتحب موّال النهار
لما يعدّي في الدروب
ويغنّي قدّام كل دار
...
كل الدروب واخدة بلدنا للنهار

ولا يخلو استخدام مفردات الليل والشتاء من زرع الأمل، فبين الحين والحين يستخدم الأبنودي هذه المفردات في مواجهة الإنسان المصري ليثبت قدرته على تجاوز محن الظلم والهزيمة والقهر والاستبداد. وهنا يتصاعد الاحتجاج على طول الليل، ويبشر دائمًا بحلول النهار، أو حلول الربيع مقابل الشتاء:
بردَك في كل ما يقسى فوق الأرض
إحنا بنحضن بعض
إحنا عيدان الصبر
نشْع الأرض..
بندفي بعض ببعض كل ما زاد علينا البرد
...
في العتمة خيط الضي..
شباكي رايح جاي..رايح جاي..رايح جايّ
وكذلك:
أنا صدري وسيع
إزرع
تلاقيني ربيع
ترمح فيا المقاليع
تتفجر شرايني..ينابيع

ويختلف إحساس الشاعر بالزمن، لكنه في كل الحالات هو إحساس البسطاء، فالنهار للفلاح المصري الحياة، والليل السكون، لكنه حتى اليوم يختلف باختلاف الحالة الشعرية:
كانت أيام سهلة بتفوت وتمر
الأصحاب مطلوقة في حوش العمر
يتفلَّوا الصبح على الأرزاق
كل نفر على ركن

ويرتبط أحيانًا توقيت غياب الشمس بغياب الحلم والدخول في العتمة، فيستدعي الزمن النفسي للمتلقي، وهو زمن إنساني محض يختلف عن الزمن العام، فها هو حلول المغرب يرتبط بفقدان البصر:
المغرب ع الباب
المغرب أكتر وقت تكون فيه الناس في السوق
جرُّه رحاب على مصطبة "الغزالي":
"أقعد..واسمع:
أنا نضري لما انحاش..مش كنت خلاص؟

*ثانيًا: دلالة المكان الوجدانية:
يتفق شعر الأبنودي كثيرًا مع الشعر العربي القديم في أن المكان يشكل ضاغطًا وجدانيًا بوصفه جزءً من الهوية، ففي حين أن البكاء الطللي يزخم بالعاطفة واستحضار الذكريات، فالمكان في القصيدة عند الأبنودي أيضًا حضور وجداني، حيث يبدأ المكان من وحدته الأساسية (الجدار)، ويتسع خلال مشواره الفني ليصل إلى الوطن، لذا لم يكن مستغربًا اختياره لعنوان ديوانه الأول: "الأرض والعيال":
قلبي اللي كان قرب يموت
لسه بيحلم بالبيوت
زي الخرز
والدرب خيط
حرير.. ولاضم كل حيط
وف كل دار يترش حب الحُب غيط

والمكان عنده حي، ولديه القدرة على الإحساس والتفاعل مع الأحداث، فهو بمثابة الطمأنية وقت الأمن، وهو الخوف وقت الهزيمة والانكسار:
تنطفي لذة ندوق الفرح والأحزان
يمشي ف ميدان المدينة ف بدلة الدَّدبان
ونترعش في الأوض
ونترعش في الجلود

والمكان عنده مشروط بدور معين، وليس مجرد أبعاد ثلاثة، فهو مشروط بمشاركته في الحدث الدرامي عبر القصيدة، ومرتبط دائمًا بحدث وجداني:
شبابيك
إذا اتقفلت
مايبقاش اسمها شبابيك

والمكان أيضًا شريك فعال، ومفعول به بقدر ما هو مفعول بقاطنيه، خيِّر عند سكنه في خير، ومضلل ساعة التضليل:
يا نجم ما تلِمعش للتايهين
ولا للجنين الجىّ في بطون..
غبرا محزونة
وابُرق يابرق وكُل
طروف شيلان الشباب
وتوِّه المينا.

ويحتفي الأبنودي بمفردات المكان المصري، مثل: (القرية-الغيط-الدرب-الدار-الحارة...)، ويحتفي أيضًا بمفردات الجغرافيا المصرية، فنهر النيل حاضرٌ دائم الحضور، وغالبًا ما يقترن ببهجة تجاوز الهزيمة والتخلص من القهر:
إذا يمكن لقيت جدعان تروح النهر..
أروح النهر
أروح..هابكي..وارمي جسمي.. واتمردغ
في ماء النهر
واصرخ في الهوا والريح
وأبكي بُكا ما تعرفوهوش
وانز القهر
...
أنا رايح أبل قميصي مية نهر

وثمة احتجاج يتصاعد أيضًا ضد استكانة المكان واستسلامه، سواء للسلطة وقهرها، أو للطبقية والرأسمالية الاستغلالية، أو تجاه العدو والاحتلال عقب النكسة، أو حتى تجاه الانفتاح الاقتصادي في عصر السادات وتحويل مصر إلى بلد استهلاكي النمط:
يا نجمتي
شفتيش بلد زي البلد دي عمركيش..؟
الموت في تربتها اتشتل.
والسجن قضبان في طريقنا بتتفتل
واللي انقتل
ما بينبكيش..؟
وكذلك:
تقفل بيبان الوطن
وتقول بنفتحها
وترمي مفاتحها
...
ملعون أبو الحواري
أما القري
فدي في بلد تاني
ومجتمع تاني
وداع يا أرض الوطن
تحت الطوفان الجديد

*ثالثًا: الحضور الإنساني وتشكل الأزمة:
والحقيقة أن الإنسان هو هم الأبنودي العام، وأن البسطاء هم همه الخاص، ويتجلى ذلك بوضوح في ديوانه الأول: "الأرض والعيال":
الليل ساعة
دقتها من دق الطواحين
من دق الناس النايمة على التربة
جنب المواعين
جنب جرار الميه النايمة في الطين
وحفيف النخل
حفيف ورقة بين إيد محضر في عيون مساكين
وبخار (الزريبة) الطالع يحكي حكاية
عن عيشة وخضرة وفاطمة وست الكل.

فالإنسان حاضر باسمه في القصيدة، وفي هذا الديوان بالذات يرد عدد كبير من الأسماء، بل وقصائد بأسماء شخوص بعينهم، مثل قصيدتي: "ست الكل"، و"عم جمعة"، وكأن الديوان احتفالية بالإنسان الريفي البسيط، ثم تتصاعد وتيرة الاحتفاء بالإنسان لتصل إلى عناوين الدواوين، مثل: "خطابات حراجي القط"، و"أحمد سماعين".

وتكاد جميع دواوين الأبنودي لا تخلو من أسماء لأشخاص في القصائد، ويستثنى من ذلك ديوان "الفصول"، وهو الديوان الصادر بعد هزيمة 1967، حيث خلت قصائده تمامًا من الأسماء، ما عدا قصيدة: "ولاد شيحة"، حيث ورد بها أسماء من السيرة الهلالية، فيما يمكن تفسيره على أنه اختفاء الشخصية البسيطة تجاه العدوانية التي حاقت بالإنسان في مصر في هذه الفترة، أو يمكن القول انصهار الشخصية المصرية في شخصية الوطن في محاولة تجاوز أزمة الهزيمة والانكسار. وفي: "جوابات حراجي القط" نقل الأبنودي السرد إلى قصيدة العامية المصرية، وأدار باقتدار الحوار بين طرفي المجتمع الرجل والمرأة، الرسائلل المتبادلة بين "حراجي القط"، وزوجته "فاطنة أحمد عبد الغفار"، ولا يمكنني إلا أن أتوقف أمام اسم الشخصيىة المختارة كبطل لهذا الديوان وهو حراجي، فقد كان الإنسان المصري في حالة حرجة تمامًا وهو يحاول الخروج من غياهب الماضي البليد المتمثل في جبلاية الفار والتي يدل اسمها على الضآلة إلى التطور الحضاري والرقي المتمثل في بناء السد العالي حلم النهضة الحضارية في مصر، وهذه الزوجة "فاطنة" هي فاطنة بالفعل للوضع وللخطر المحدق بالإنسان وبالوطن.

وهناك تقدير للمرأة من زوجها الذي يعتبرها شريكة في المصير وليس كائنًا من الدرجة الثانية أو مصنعًا للأطفال فقط:
النسمة تهل علينا أول ما يخش جوابك
...
من يوم ما خدتني وانت مكبرني في عين الناس
وعاملني ست الكل

كما يظهر احتجاج الشخصية على نفسها، كزرع فكرة المثابرة والتعليم عن طريق المحاولة والخطأ.
وماله لما نعافر ياخي
وافرض ما اتعلمتش مش عار

وكذلك احتجاج الشخصية على نفسها في رفض الاستسلام. ويتصاعد الاحتجاج على الظلم إلى أن ترفض الشخصية الاستسلام للقهر المتمثل في عمال التراحيل أو العمالة باليومية، حيث تُنتزع من الشخصية اسمها الحقيقي ليحل محله مسمى "أنفار"، فيما يعتبر ذوبانًا في القهر والاستغلال:
أدعي على أبويا والا ادعي على جبلاية الفار
والا ادعي على اللي علمني كلمة أنفار
أنفار أنفار

*رابعًا:الأحداث وتوهج المطالبة بالحقوق والعدالة:
ما من حدث ذو قيمة وله علاقة بالإنسان عمومًا أو بالشخصية المصرية بالتحديد إلا ونجده في قصائد الأبنودي، ويكون منطلقًا للمطالبة بالقيم السامية كالعدل والحرية وإقامة الديمقراطية. وهنا يحضر الاحتجاج دائمًا على الظلم والعبودية والقهر والسلطة الغاشمة والاستغلال المتمثل في الرأسمالية المتوحشة.

ففي قصيدة أغنية الموت عن الشاعر الأسباني المناضل لوركا:
مليون حداد
الدنيا هنا ما فيهاش غير المليون حداد
بيدقوا قيود لجل الولاد

والإحساس بالقضايا الكبري كالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، ومحاولة الربط بين القضايا الفرعية للوصول إلى أسبابها الحقيقية، فنجد أن الأبنودي ينفعل ويتأثر بأحداث تمر مرور الكرام على آخرين، فمثلما تأثر بغياب لوركا نجده يثور عند غياب ناجي العلي، فيكتب رائعته الموت على الأسفلت، ولا يقتصر الأمر على نعيه فقط، بل يمتد لنعي الإنسان المهان والوطن المحاصر والأرض المغتصبة:
الأرض متغربة...والحلم ملك
خريطة شب الوطن محاصرها سلك
واقف وراها شريد عاقد إيدية
حق الوطن ذالك...للأرض...تلك

**خاتمة:
إن الإضافة التي أضافها الأبنودي لقصيدة العامية المصرية يصعب حصر جوانبها المختلفة، لكن التاريخ سيذكر أنه عبر عن رأيه في تاريخ الوطن الاجتماعي والسياسي والثقافي بما أضاف للشخصية المصرية، بل وساعدها على تجاوز بعضًا من لحظاتها الحرجة.
فشعر الأبنودي ما هو إلا تأريخ نفسي للحياة المصرية، وحياة الفرد المواطن، الذي لا تمر عليه أحداث بلاده مرور الكرام، فيفرح بفرحها، ويتألم بتألمها، ذلك الفرد الموجود داخلنا جميعا، وهو ما ساعد على تقبل أشعار الأبنودي، فما إن تُلقى أو تقرأ إلا تتلقفها ألسن وآذان المتلقين، يرددون بعضها، ويستمتعون بها على اختلاف ذائقتهم النقدية، من الريفي البسيط الذي يدرك جمال ألفاظه إلى المثقف الواعي الذي يدرك المفارقة التي تقبع خلف تلك الألفاظ.

.............
*مراجع:
1-في الأدب الحديث، عمر الدسوقي، دار الفكر العربي، 2000، الجزء الثاني، ص 305.
2-المؤتلف والمختلف، قراءات في شعر العامية المصرية، مسعود شومان، مكتبة الأمل، ط1، 2016، ص37.
3-الأدب الشعبي، يسري العزب.
4-شعر العامية المصرية من السوق إلى المتحف، صلاح فضل، الدار المصرية اللبنانية، ط1، 2019، ص182.
5-ديوان الأرض والعيال، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017، ص9.
6-ديوان الأرض والعيال، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017، ص20.
7-ديوان الأرض والعيال، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017، ص22.
8-ديوان الأرض والعيال، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017، ص31.
9-ديوان الزحمة، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017، ص15.
10-ديوان الفصول، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017 ص45.
11-ديوان الزحمة، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017، ص9.
12-ديوان الزحمة، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017، ص12.
13-ديوان الزحمة، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017، ص68.
14-ديوان أحمد سماعين، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017، ص82.
15-ديوان أحمد سماعين، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017، ص183.
16-ديوان الأرض والعيال، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017، ص9.
17-ديوان الفصول، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017 ص10.
18-ديوان الفصول، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017 ص34.
19-ديوان الفصول، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017 ص38.
20-ديوان الفصول، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017، ص50.
21-ديوان الأرض والعيال، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017، ص104.
22-ديوان المشروع والممنوع، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017، ص34.
23-ديوان الأرض والعيال، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017، ص11.
24-ديوان جوابات حرجي القط، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017.
25-ديوان جوابات حرجي القط، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017.
26-ديوان جوابات حرجي القط، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017.
27-ديوان الأرض والعيال، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017.
28-ديوان الموت على الأسفلت، الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج