الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البن والشاي في المغرب

عذري مازغ

2022 / 9 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في العشق، تحرق خلاياي شحنة الشوق والبعد، ببطء تتناهى كينونتي، دمي دم بحرارته، حرارة بلا شك حين تتدفق لا يكيفها إلا ماء بارد، ماء من تلك الجبال الصامدة الحارة على مستوى السطح، تلك الجبال المكسوة بظل البلوط الأخضر، في تلك الجبال كان بيني وبين المعز علاقة ودية، لم تكن علاقة تنافس، نتقاسم الخبز على قلته، ونتقاسم في أكل ثمار البلوط الأخضر المر بطبيعته، لكن بشكل مميز، كنا نشوي تلك الثمار في الرماد الحار ويتهذب ذوقها، وحين تمده للعناز وهو مهذبا بحرارة النار، تنولد تلك الألفة الغريزية التي تزيدك قيمة بالنسبة للقطيع، تحصل منها على حب غريزي غريب: تعرف العنز ان البلوط الذي تمدها به، طعمه ليس كطعم الذي تلتقطه تحت الشجر فيزداد تعلقها بك برغم أن نياتنا ككائنات بشرية غير حسنة لأنها ببساطة عملية تدجين واستغلال وهذه سنة الله في خلقه: "شا اذيدجان، شا أذيتوهوال" (البعض ينام والبعض يحترق في نومه او ينام وسط الأهوال).
للحيوانات العاشبة فطرة لا توجد عند الحيوانات المفترسة التي تعيش على اللحوم، العاشبة مرهونة بغريزة التعايش: لا تتنافس حول ملكية الارض العاشبة بل ترعى بشكل جماعي وتهاجر بشكل جماعي ايضا حين ينتهي العشب إلى مكان آخر عاشب
الحيوانات اللاحمة مسعورة في الاكل وتعتمد هرمية طبقية، كبار الحجم ياخذون حصة الأسد، ثم بالتسلسل إلى صغار الحجم وهناك بالطبع استثناءات:
الضباع وحدهم يتقاسمون الفريسة بدون سعار
هي ايضا خاصية إنسانية: بسبب من غريزة التعقل والعقل عند الإنسان فهو يوافق بين غريزة الضباع وغريزة الأسود وغريزة القطيع العاشب ويوظفها في أنساق الاجتماع الإنساني: الرأسمالية هي غريزة الأسود، يأكل فيها كبير الحجم ثم متوسطه ثم صغيره.. الاشتراكية هي غريزة الضباع الكل ينهش في الفريسة حسب طاقته، الشيوعية هي غريزة القطيع العاشب، ولأن الإنسان حيوان عاشب ولاحم فهو يتموقع بين كل هذه الغرائز بشكل متفاوت.
يمكن تقسيم الأرض (الكرة الأرضية أقصد) وفقعا لهذه المعادلة، صنف البشر اللاحم يتمركز في منطقة وصنف البشر الضبعي في منطقة أخرى وصنف البشر العاشب في منطقة ثالثة لكن ليس تماما بالمعايير الأيديولوجية القائمة: في كل منطقة عاشبة هناك حيوانات مفترسة.
الخبز والشاي والبن!
سأبدأ بالبن: لا اعرف شيئا عن اكتشافه سوى ان راع ما في بلد ما هو من اكتشفه، والغريب في الأمر انه ليس الراعي هو من اكتشف البن بل قطيع عاشب من العناز والغنم والراعي كان ملاحظا فقط، لن ادخل في التفاصيل فهي شائكة كما الأحاديث حول محمد الرسول وتحتاج إلى فقه التصحيح والصحيح، لكن، ولأجل الاستئناس بالأمر يمكن الحديث عن شجرة أركان وثمارها، فقطيع العنز هو من اكتشف منفعة أركان منذ أزمنة طاعنة في الدهر ولم ينتبه لها الإنسان إلا مؤخرا بأزمنة بعيد من اكتشاف النار: النار هي التي جعلتنا نهذب شجر اركان في المغرب، والنار أيضا هي من هذبت تناول البن.
في البيئة التي عشت فيها لا نعرف من اين أتى البن ويبدو في المخيال الشعبي أنه من إنتاج العطار من خلال علمه الكيميائي، مثلا مسحوق "راس الحانوت"، يبدو من الوهلة الاولى انه مسحوق لثمرة او عشبة ما بينما هو في الحقيقة مزج مساحيق كثيرة في مختبر العطار "الحانوت" (في الدارجة المغربية هو المتجر وليس متجرر بيع الخمور كما في اللغة العربية).
في بيئتي المتخلفة إلى حد ما (وشخصيا لا اعتبره تخلف) كمية البن التي تناولها اقل بكثير من الكمية التي تتناولها الشعوب اللاحمة: ملعقة بن في كأس الشعوب اللاحمة هي نفسها الملعقة التي توضع في إبريق كبير عند الشعوب العاشبة، يلعب الخبز والسكر والماء والحليب عامل توافق يغطي عن قيمة مسحوق البن: في بيئتي هو عامل تغذية نفعية وليس استمتاع بكمية الكافين في الكأس لإذهاب النوم او الهضم او غير ذلك: في بئتي التي ولدت فيها هو عامل تغذية مثله مثل الشاي ولا شك ان ما يزكي هذا هو عملية إغناء إبريق البن عندنا بمعطرات عشبية أخرى بحيث نجد ان هناك خصائص للتداوي بالبن من خلال خلطه بمساحيق أخرى.
نلامس القيمة النفعية والغذائية للبن من خلال أسماء البن في التركيب التحضير في المقاهي المغربية:
"قهوة مفرقا"، تعني كأس بن وكأس حليب بنفس ثمن كأس البن حيث يمكن خلط جزأ من كأس البن مع الحليب لتوفير كمية اكبر تكفي لتناول قطعة خبز جافة او غير جافة
"قهوة نص نص": تعني كأس من البن نصفه بن ونصفه الآخر حليب، هي عملية تحويل كاس البن إلى قيمة نفعية في التغذية اكثر مما يمنحه مثلا كأس بن صافي.
لا احب هنا أن اشير إلى أصناف البن كلها في المقاهي المغربية فبعض اشكالها ترف في المثاقفة في ثقافة الطبخ من قبيل "كريم تيري، كريم إيتاج.. قهوة معصرة، قهوة مروغة (شكل من جعل الحليب يظهر طبقة فقاعية هي في الحقيقة لعبة في التحضير أكثر منها لها ميزة خاصة) وغير ذلك من المصطلحات الترفية (عملت نادل ومرات أخرى مهيئ للقهوة واعرف ان مجموعة من المصطلحات في تسمية البن هي عبارة عن ترف ثقافي لا اكثر، بشكل استطيع غش الزبون في مصطلحاته الترفية دون ان يعرف كتقديم "قهوة نص نص" على أنها "كريم تيري" أو "قهوة احليب" على انها كريم تيري: كريم تيري بالفرنسية هي "قهوة حليب" بالمغربية لكن ترف اللغة بالفرنسية يجعلها شئ غير مفهوم والكثير من الزبناء يعتقدون ان كريم تيري هي قهو نص نص وقليلون يعرفون انها هي نفسها "قهوة حليب" )
الشاي المغربي:
في الأصل الشاي صيني وليس هناك شاي مغربي: التحضير هو المغربي هنا واستطيع القول ان ثقافة الشاي متوسطية اكثر منها ينتمي تحضيرها إلى إقليم معين، خلق الشاي في المغرب ثقافة شعبوية متميزة حيث يلعب عامل تنشيط (animation) في الوسط الاجتماعي الشعبي المغربي، يلعب دورا كبيرا في اللقاءات الاجتماعية، يلطف التناقضات الاجتماعية ويساهم بشكل كبير في مفهوم العار المتجذر في المغرب: مشاركة "الطعام" (باللهجة المغربية) تعني اتقاء الغدر (وربما أيضا يعني الامر نفسه عند الصينيين إذ من خلال أفلام سينيمائهم، مشاركة الشاي تعني نوعا من التشريف كما تقديم الثمر عندنا)، لكن في المغرب تناول الشاي مختلف، مثلا: ظاهرة الشاي الصحراوي في المغرب وغن بدا انه في الصحراء يتم وفقط طقوس معينة إلا انها لا تنحاز عن الطقوس المغربية خصوصا في مفهومها الأخلاقي حول العار الذي يعني المشاركة في "الطعام" الذي يعني في المطاف الأخير شكلا من اشكال الأخوة التي لا تقبل الغدر.
الدعوة إلى شرب الشاي في المغرب ليست كمثل الدعوة إلى شرب بيرة (جعة) في الغرب: الدعوة إلى شرب الشاي في المغرب هي دعوة حميمية وعند الصحراويين اكثر حميمية وهي بذلك تتميز بطقس خاص في التحضير يظهر القيمة المعنوية للأمر من خلال قياس زمن التحضير والإنتظار: اثناء هذا التحضير البطيء تحدث نقاشات معمقة حول قضايا معينة .
هناك طرق سريعة لتحضير الشاي الصحراوي لكن تفتقد إلى القيمة السوسيولوجية وليس صحيح ان الشاي الصحراوي صعب التحضير، إنما قيمته هي في القيمة الاجتماعية من حيث هو عامل لتأليف القلوب، أي انه يلعب دور التأليف والتعاضد في السوسيولوجية الصحراوية، اي ان له قيمة معنوية اجتماعية اكثر من قيمة التحضير نفسها .
سأعود إلى بيئتي السوسيولوجية: الشاي في منطقتي كان من أسايات التغذية، البن ثمنه غالي وبالتالي، يستعمل في الوسط الإجتماعي بكثرة في مغرب شهر رمضان وسأتجاوز تحليل ظاهرة البن في رمضان من غيره من أشهر السنة، إن البن حاضر في طقوس اخرى لكن ليس بنفس كثافة تناول الشاي واعتقد ان محمود درويش حين قال في قصيدته انه يحن إلى خبز أمه وقهوة أمه يستحضر هذه الثقافة السوسيولوجية لتناول القهوة في منزل أمه.
الشاي عندنا كان ثقافة تغذية، نتناوله في الصباح مع الخبز الحافي (خصوصا عند الطبقات المحرومة والفقيرة)، يتناول عند الطبقات الاخرى بخبزيات مدهنة بالسمن أو العسل بشكل أصبح من أساسيات التغذية. حتى الدعوة لشرب الشاي في المغرب، عند الطبقات الشعبية، هي تعبير عن كرم لذوي الحاجات: هو اقل ما يمكن ان يضحي به الفقير في تكريمك بالضيافة وقد يضحي في الامر برغم ان قيمة الشاي، من الناحية العملية هي لا شيء. قيمتها في طابعها السوسيوثقافي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئاسيات موريتانيا: ما هي حظوظ الرئيس في الفوز بولاية ثانية؟


.. ليبيا: خطوة إلى الوراء بعد اجتماع تونس الثلاثي المغاربي؟




.. تونس: ما دواعي قرار منع تغطية قضية أمن الدولة؟


.. بيرام الداه اعبيد: ترشّح الغزواني لرئاسيات موريتانيا -ترشّح




.. بعد هدوء استمر لأيام.. الحوثيون يعودون لاستهداف خطوط الملاحة