الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعدد أشكال القص في مجموعة - شبابيك الجيران حكايات من أوطان جريحة- عبد الغني سلامة

رائد الحواري

2022 / 9 / 15
الادب والفن


تعدد أشكال القص في مجموعة
" شبابيك الجيران
حكايات من أوطان جريحة"
عبد الغني سلامة
مجموع مكونة من عشرة قصص، تتناول مواضيع متنوعة، منها ما هو (شخصي) وأخرى عامة، منها ما جاء بصيغة أنا القاص، ومنها من جاء من خلال القص الخارجي، ومنها من جاء كقصة واقعية، منها من جاء يحمل الرمز، وبعضها جاء بخيال علمي.
بالنسبة لحجم القصص منها من جاءت بصفحتي، ومنها بأكثر من عشرين صفحة، لكن كانت لغة القص سلسة وسهلة التناول، وهذا سهل على القارئ تناولها على جلسة واحدة.
سنحاول التوقف قليلا عند ما جاء في المجموعة، ونبدأ بالقصة الأولى "مجرد صدفة" وهي قصة اجتماعية، قدمت بطريقة سلسة، الشخصيات مكونة من المرأة التي يقابها القاص أمام إحدى المؤسسات، والجميل في هذه القصة النهاية المفتوحة، لكن القاص يقرر تكملة الدور الذي تقمصه، والمتمثلب شخصية مقاتل من أيام بيروت.
أما في قصة "كيس زبالة" فهو يبين عقم النظام الرسمي العربي، وبلادة الموظفين الذين لا يحسنون القيام بمهامهم الوظيفة، ولا يعرفون واجبهم أو دورهم الوظيفي، ولا يحسنون تقيم الوضع، ولا إيصال المعلومة بشكل صحيح وسليم، وهذا ما يؤدي إلى خراب الوطن وقتل المواطن، ونلاحظ أن هناك تتابع وتكامل وتواصل في الأحداث، وهذا جعل فكرة القصة (المجنونة) وغير المنطقية تصل إلى القارئ، ويقتنع أنها تحدث في ظل واقع رسمي متخالف، وفي ظل وجود رجال أمن على شاكلة من جاءوا في القصة.
أما في قصة "من يجرأ على شتم الرئيس" فقد قدمت فكرة مذهلة، تبين تناقض مهام الدولة، ورجالها المتنفذين، فالزوجة التي أخبرت الأجهزة الأمنية عن زوجها الذي يتحرش بابنته الطفلة، لا تلاقي أي استجابة، أو أي دعم من المؤسسات الأمنية أو الحقوقية أو الاجتماعية، في المقابل عندما يسب الزوج المتحرش بابنته الرئيس تقوم الدنيا عليه، ويتم جلبه وتصفيته جسديا، هذا التفاوت/التناقض في سلوك الدولة والأجهزة الأمنية فيها، يبين عقم طريقة التفكير الرسمية، وكيف أنها لا تهتم بأحوال المواطن، بقدر اهتمامها الشكلي بالرئيس، فعندما حذفت البنت كل التسجيل المتعلق بالتحرش بها، وركزت على مقطع سب الرئيس، أراد به القاص التأكد مرة أخرى على أن الدولة/المؤسسات الأمنية لا تهتم بأمن المواطن، وإنما تهتم بمكانة/هيبة/سمعة/سطوة/قدسية الرئيس.
وفي قصة العنوان "شبابيك الجيران"، تتحدث عن المشاكل النفسية التي يعانيها سكان العمارات، الذين يفتقدون للعلاقات الاجتماعية، بحيث يصاب السكن بحالة من التخيل/الوهم، ويروا أشياء لا تحدث، غيدا المرأة العجوز التي تراقب شبابك العمارة المقابلة لشقتهاـ تأخذ في رسم/تخيل مشاهد لناس مختلفين، فترى الشاب العاشق لزوجته، وهناك المرأة العجوز وزوجها، وهناك الأسرة التي تمارس حياتها بصورة طبيعية/عادية، تقرر "غيداء" التعرف عن قرب على هؤلاء الناس، فتذهب إلى العمارة المقابلة لشقتها، وتقرع الباب لكنها لا تجد ردا من داخل الشقة، وعندما تسأل أحد الأشخاص عن سبب عدم الاستجابة، يرد عليها "هذه العمارة خالية من السكان، بل إنها مهجورة منذ أكثر من ثلاثين سنة، ولا أحد يجرؤ على شرائها، أو الاستئجار بها، ويُقال أنها مليئة بالأشباح، والأرواح الهائمة، والأوهام المبعثرة، والأحلام المؤجلة.." فهذه الإجابة تأخذ القارئ إلى حالتين، الأولى تتمثل بموت الحياة الاجتماعية في العمارات/الشقق السكنية، والثانية أن من يسكنون العمارات/الشقق يعانون من أمراض نفسية، تتمثل في تخيل/توهم أحداث وأشخاص غير موجودين في الواقع/ في الحياة.
يستخدم القاص الخيال العلمي في "قصة هابيل @قابيل. كوم" حيث يتناول حال الأرض بعد الحرب النووية وما استخدم فيها من تكنلوجيا قاتلة ومدمرة، حيث قضت على العديد من الناس ولم يبقى على الأرض سوى: " ستة وثلاثون ألف إنسان من بقي على قيد الحياة، حسب آخر إحصاءات "منظمة الأمم الناجية".. موزعون على عشرين دولة في ثلاث قارات (آسيا، أفريقيا، أستراليا).. الأمريكيتان وأوروبا صارت من إرث البشرية المنسي،" ولم يقتصر الأمر على هذا التناقص الهائل، بل استمر بفضل أدوات قتل حديثة على شكل هاتف محمول، بحيث لم يبقى على سطح الأرض سوى: " في العام 2122 كان كل من بقي على قيد الحياة لا يتجاوز الثلاثين شخصا.. أربعة صينيين، وثلاثة هنود، وخمسة من شرق المتوسط، اثنان من جنوب أفريقيا، وتسعة يقطنون في رواندا وأوغندا والكونغو، وسبعة أستراليين.. وقد عادوا إلى زمن الصيد وجني الثمار.." بعدها القاص يسلط الضوء على أحد الأماكن في الهضبة الأثيوبية، حيث يتواجد: " ستة رجال وامرأة واحدة، اسمها "لوسي".. المشكلة أن هؤلاء الستة ينتمون لأديان وطوائف واثنيات على بعد خطوة من الانقراض.. بوذي، وهندوسي، ومسلم، ومسيحي، ويهودي، والسادس كان ملحدا.. والمرأة ستكون على دين من سيظفر بها.. وستنجب له ذرية صالحة، ستكون امتدادا لإثنية من سيتزوج بها.. " إلى هنا كانت الحياة (عادية) طبيعية، فهناك (تعايش) بين هؤلاء الرجال والمرأة وكانوا :" على مدار أسبوع، كان الستة قد تناوبوا في السر على معاشرة "لوسي" " لكن يحدث الصراع بين هؤلاء على من سيضفر بالمرأة "لوسي" الوحيدة على الأرض، فيتم قتل الملحد، ثم يقتل الهندوسي والبوذي نفسيهما أثناء صراعهما، بعدها تهرب لوسي الحامل بطفلين في البراري، ويأخذ الثلاثة المتبقين، اليهودي والمسيحي والمسلم في البحث عنها، فقد فقدوا المرأة التي كانوا يأخذون حاجتهم منها ومن جسدها، ودون أن تبدي أي تذمر، لكنهم بمحاولتهم الاستحواذ عليها بشكل شخصي فقدوا ثلاث منهم، والبقية لم يعرف كيف انتهت حياتهم، " أما الرجال الثلاثة، فلا أحد يعلم إذا كانوا قد قتلوا بعضهم بعضا، أو إذا ماتوا جوعا وعطشا.. أو إذا بقي أحدهم حيا.." وهي هربت بحملها، هكذا انهي القاص القصة، حيث أعاد الأرض إلى ما كانت عليه، أعادها إلى زمن هابيل وقابيل. أرض خربة وخالية.
في قصة "أبو الكلاب" يجمع القاص زمنين، زمن الأمين والمأمون، وزمن المالكي، ويحدد المكان، بغداد، بعد أن استباحها الأمريكان والفرس، تبدأ القصة بمدخل من كتاب الجاحظ "الحيوان، ما هو متعلق بالكلاب، ثم تفتح على مشهد المنادي في بغداد وهو يبين ما جاء في وصية هارون الرشيد، يتناقل القاص بين زمن بغداد أيام النزاع بين الأمين والمأمون، وبين ما يجري فيها بعد أن استباحها عملاء الأمريكان والفرس، بحيث يركز على الظلم والجور الذي وقع على الناس، فرغم أن أدوات التخريب والقتل مختلفة، في عصر الأمين والمأمون كان الأخوة هو الأداة، والآن في عهد المالكي، العملاء/أداة الغرب والفرس، من يقومون بالقتل والتخريب. سنحاول أخذ مشاهد من القصة لتبيان جمالية التقديم الذي استخدمه القاص: "رأت الملثم وكلبيه، هذه المرة كان يمشي مسرعا، دون أي حذر، تفقد الجثث كعادته، وسلب منها ما وجده صالحا للسلب، وقبل أن يغادر، لمح ضوءا خافتا من خلف شباك بعيد، فأطلق عليه النار.. كانت طمأنينة زينب تقف إلى يسارها، وعلى يمينها يقف الأمل، فقتلا على الفور، تكوما فوق بعضهما البعض، مثل كيسين من التبن.." نلاحظ أن القاص يجمع بين الواقع والرمز، لكن فكرة القتل/الخراب حاضرة، ثم يأخذنا إلى زمن المأمون:"كل ذلك والمأمون في مرو لا يصل إليه شيئا عن أحوال بغداد، وما يجري فيها من ذبح وسلب ونهب، وأخيراً، لما وصلته الأخبار على حقيقتها، ويقال إن الذي أبلغه بها ولي عهده علي الرضا، فأعلمه بما فيه الناس من فتنة وبلاء وسوء حال، وأن الفضل بن سهل يغشّه، ويحجب عنه الأخبار، وأنه من كاد لهرثمة، وأمر بقتله. فغضب المأمون، وأمر الجيش بالتحرك نحو بغداد،" رغم أن السرد (تاريخ) إلا أن القاص قدمه بصورة أدبية، تخدم فكرة القصة، بحيث يشعر القارئ أنه أمام قصة (تاريخية) واقعية عصرية، يقدمنا من مشهد آخر عما جرى في بغداد زمن صراع الأخوة على الخلافة وحكم والبلاد: "دخل جيش المأمون بغداد، فقتلوا كل من بطريقهم، حتى وصلوا قصر الخليفة الأمين، فأعدموه، ثم قتلوا الفضل بن الربيع، ثم قتلوا حراس القصر، ثم انتشروا في الأسواق، ونهبوها، وظلوا على هذا الحال أياما ثلاثة، حتى دانت لهم بغداد، والعراق كله، وبايع الناس المأمون من جديد، وصار الخليفة الأوحد، بيد أنه عاد يحكم من خراسان".
بعدها يأخذنا إلى ما يجري في بغداد الآن: "فقد صار له جيشا من الكلاب يربو على الألفين.. ثم ضم إليه مساعدين، دربهم على سوق الكلاب، وكيفية إخضاعها، وصار يرسلهم في مجموعات، بعد أن يسمع الأخبار، ويعرف مواقع الانفجارات، يعطيهم بعض ما سلبوا، ويستأثر لنفسه بالباقي.. " نلاحظ أن هناك توازن بين حجم الخرب الذي أصاب بغداد في الزمانين، زمن العباسي والزمن الحاضر، فالقتل والذبح والجوع والخوف كلها كانت متفشية في بغداد.
لكن القاص يتجاوز (شكل) فصل الزمانين والذي جاء من خلال ترقيم كل زمن على حدة، ليتحدث عن المشهدين في مقطع واحد، وهذا يعد نقلة نوعية في القصة حيث جمع القاص الحدثين معا، "هكذا كان حال بغداد وهي تئن تحت الحصار، جموع من الجوعى تقاتل بعضها، لم يعد فيها مواطنون وسلاب، صاروا كلهم سلابا.. حتى الكلاب لم تعد تجد ما يقيم أودها.. صارت بغداد مثل بقرة شاحبة هزيلة، وتكاد تموت جوعا، ومع ذلك، هناك إصرار على حلبها..
في تلك المحنة، شوهد أبو الكلاب وهو يفجر سيارة مركونة في أول شارع الخلفاء، قرب سوق الشورجة، وبعدها أطلق كلابه لتلتهم الجثث.
ومع كل ذلك، كان خطيب الجمعة يحث المصلين على الصبر، ويدعوهم لنصرة الخليفة.. لكنهم كانوا منقسمين، بعضهم يؤيد الأمين، ويدعو له بالثبات، وبعضهم يؤيد المأمون ويدعو له بالنصر.. وأكثرهم يكتم رأيه، فلا تعلم في أي صف هم.. ولكل جماعة خطباؤها وفقهاؤها.. "
" وقبل مغيب الشمس، كانت الغلبة لجيش المأمون، لكن الجثث كانت تملأ الشوارع والأزقة والساحات، ورائحة الدم، وروائح الـماء الآسن في البرك الموحلة تزكم سماء المدينة..
وصل الجيش ومن انضم إليهم قصر الأمين، يهللون ويكبرون، ويحمدون الله على نصره المبين.
أما أبو الكلاب وقطعانه، فكانوا ينتظرون مغيب الشمس ليبدأوا حفلة عشائهم الدسمة.."
القاص يعرف أنه يقدم مادة/أحداث قاسية ومؤلمة، لهذا كان لا بد من أيجاد (مخفف) يزيل شيئا مما جاء في القصة من قسوة، لهذا جعل نهاية القصة بهذا الشكل: "مرَّ شهران كاملان ولم يحدث أي تفجير في بغداد، بدأ أبو الكلاب يشعر بالقلق، فمن أين سيطعم كلابه.. أمر معاونيه بتفجير بعض الأماكن المزدحمة، لكن عدد الضحايا لم يعد يكفي جيش الكلاب.. جاعت الكلاب، ونحفت، وصارت أكثر شراسة.. أخذت تنبح وتعوي، وقد أصابها الجنون.. وعندما دخل عليها أبو الكلاب، لم تتردد عن مهاجمته، تجمعت عليه، ونهشت رأسه أول الأمر، وأبقت على عينيه تلمعان بالفزع والدهشة، ثم التهمت باقي جسده، ولم تبقِ منه سوى البصطار..
تقاتل معاونو أبي الكلاب على تركته، فاتفقوا أن يأخذ كل واحد منهم نصيبه من الكلاب، ويرحل إلى منطقته.. منهم من استقر في الأعظمية، ومنهم من سكن الكاظمية، وآخر في حي الأمين، وآخر في الكرادة.. ثم ظهر آخرون في البصرة، وفي الموصل، وفي الأنبار، وبعقوبة.. ثم ظهر غيرهم في الرقة، وفي إدلب، وفي صنعاء، وطرابلس، والرياض، وسيناء.. وصلوا حتى صعيد مصر.." النهاية العادلة "لأبو الكلاب" تفرح القارئ، وهي جاءت متماثلة مع النهايات التي تحملها الحكايات/القصص الشعبية، لكن استمرار أعوان "أبو الكلاب" وانتشارهم في البلاد يزيد من خطورتهم، ويجعل المناطق التي وصلوا إليها خراب، وأهلها أموات. قصية "حين غابت الشمس" القصة الثانية تأتي بصيغة أنا القاص، تصور هذه القصة فكرة عن العالم بعد الحرب النووية الثالثة، فكرة (خيال علمي) لما سيكون عليه الناس والأرض، والتي تتحدث عن فقدان الإحساس بالوقت/بالزمن عند القاص وعند الآخرين: "قال بصوت مضطرب: ماذا تقصد؟ أجبته بهدوء: أقصد هل الوقت صباحا أم ليلا؟ قال ببساطة لا أعرف.. قلت له ممتعضا: على كل حال شكرا لك، ونهارك سعيد.. مرَّ عشرات المشاة من أمامي، أوقفت معظمهم، وأعدت عليهم طرح الأسئلة نفسها، وكنت أتلقى الإجابات الغريبة نفسها.. هل أنا مجنون؟ وهؤلاء العقلاء يدارون جنوني ..." ولم يقتصر الأمر على عدم معرفة الناس بالوقت، بل وصل التيه إلى المكان والزمن الوجود: "أنا أصلا لا أعرف نفسي، ولا أعرف في أي زمن أعيش، ولا في أي مكان أنا فيه الآن.." وهذا ما جعل القصة (مغلة) على القارئ، فما هو هذا المكان ومن هؤلاء الناس الذين لا يعرفون الوقت؟، من هنا جاء فك معضلة الأحداث وكيف أصبح الناس بلا وعي وبلا بصر، من خلال الشيخ الذي يكشف للقاص ما حدث: "قبل ثلاثين سنة تقريبا، حدثت سلسلة تفجيرات نووية، مات من جرائها أغلب الناس، ثم غطت سحابة سوداء كل الأرض حتى حجبت الشمس كليا، ومنذ ذلك الوقت دخلنا في حقبة شديدة الظلمة، حتى أن من نجا من الموت، إما فقد بصره، أو لم يعد يرى شيئا بسبب شدة العتمة.." ولم يقتصر الأمر على الحرب وما أحدثته من خراب، بل جاء العامل البشري، الحاكم/الملك ليزيد ويؤكد على ما حدث من خلال تعميق حالة العمى عند الناس، فأراد التخلص من كل ما هو متعلق بالتكنلوجيا/بالعلم التي أوصلت الناس إلى الجرب نووية: "منع الملك أي محاولة لاستعادة الحضارة، أو أي شكل منها، واستعان بحاشية اختارها بعناية، جمع كل القساوسة والمشايخ والأحبار والسحرة والمداوين بالأعشاب، وأمرهم إقناع الناس أن الكهرباء والتكنولوجيا هي سبب نهاية العالم، وسبب الكارثة التي حلت بنا، وأن العلماء هم المجرمون الذين جلبوا للأرض الدمار، وللإنسان الشقاء والعذاب.. ومن بعدها، أصدر فرمانا يجرّم أي محاولة لاستعادة الكهرباء، أو حتى إشعال أي نار، " يمكن أن نجد (مبررا) للملك، لكنه يتمادى أكثر في حكمه، فما يعانيه الناس من (عمى) ليس ناتج عن الحرب، بل هو حالة (مصطنعة) أوجدها الملك وجنوده، الشيخ يكشف لنا حقيقة لا يعرفها إلا هو: "إليك المفاجأة.. ما لا يعرفه الناس أنهم في الحقيقة ليسوا عميان.. هم فقط لا يرون بسبب شدة الظلام، ولكن لو أشعلت نارا سترى أن حدقات عيونهم ستتسع على الفور، وسيشاهدون كل ما يحيطون بها.. وذلك أعظم أسرار الدولة، التي تحاول بشتى السبل إخفاءه عن الناس.. "، رغم قسوة القصة وما تحمله من (عمى) وتيه إلا أن القاص جعل نهايتها، فكرة الخلاص من العمى، تأتي بصورة مذهلة، تجمع بين المنطق/الواقع وبين الرمز: " إذا أردت أن تعيد عصر النور، وأن تشاهد زرقة السماء المثيرة من جديد، عليك أن تجد مخزن الكتب الخاصة بمكتبة البلدية، ستجد آلاف الكتب المكدسة التي لم تصلها يد النظام، وحين تجدها ضع في كل بيت كتابا، وفي كل شارع، وكل ميدان عام، ثم ابدأ بإشعالها.. " هذا الخاتمة التي تجمع بين رمزية نور الكتب والقيمة المعرفة التي فيها، وبين أنها مكونة من ورق/(مواد) قابلة للاشتعال، يمثل مزج رمزي ومادي في الوقت ذاته، وهذا ما محى قسوة القصة، وحررها من (العمى) الذي جاءت فيه.
قصة "مجرد برغي" تتحدث أيضا عن (خطورة) التكنلوجيا وكيف أنها ستكون أحدى وسائل خراب الأرض وقتل الناس: "فالناس متلهفون لسماع أي نبأ عن ذلك القمر المنفلت، والذي سيدمر الأرض ربما،" يكثر الحديث عن خطورة هذه القمر ومن قام بإرساله للفضاء، والجهة المسؤولة عنه، إلى أن يخبرنا القاص أن هذه الخلل ناتج عن أحد العاملين في المحطة، والذي لم يضع البرغي الأخير في "القمر" كما تعلمون يوجد ما يزيد عن الخمسمائة برغي على القمر، وربما أكون، ولست متأكدا تماما أنني لم أعاير البرغي الأخير، فقد أصابني التعب، وكنت أريد إنهاء العمل بسرعة.
- ولماذا كنت مستعجلا؟
- كانت حفلة عيد ميلاد ابني، وقد وعدته بالحضور، ولم أشأ خذلانه. وقلت في نفسي، إنه "مجرد برغي" وهنا يتم تنفيد كل الأقوال والتحليلات التي تحدثت عن عدائية الدول، وعدائية جهات تخريبية تسعى للتدمير والقتل.
لكن خطورة سقوط القمر تبقى قائمة، توضح المذيعة ما يمكن أن يحدثه سقوط القمر:
"يبدأ الانهيار بكرة ثلج صغيرة، أو بكتلة جليدية لا يتجاوز وزنها وزن رجل متوسط السمنة، تنتهي خلال دقائق بانهيار الجبل كله"... مع توالي سلسلة اصطدامات الأقمار الصناعية، ستنعكس أصداؤها على الأرض، وبسرعة البرق.. وأهم وأخطر نتائجها توقف الاتصالات اللاسلكية، وانقطاع الإنترنت عن معظم خوادمها في العديد من البلدان.. " وبما أن الحضارة العصرية تعتمد على النت وتكنولوجيا المعلومات فقد أصاب الأرض الخراب بعد أن تم تدمير وسائل الاتصال، وانتهت الأرض والناس إلى هذه النتيجة: "ومع تعطل شبكات الإنترنت، كانت عشرات حوادث التصادم بين الطائرات قد وقعت في عشرات المطارات، وفي الأجواء، كما انحرفت عشرات القطارات عن سككها، منها من انقلب على جانبه، ومنها من تصادم، وفي النتيجة قتل عشرات الآلاف في تلك الحوادث المروعة.. كما تعطلت إشارات المرور في كبريات المدن العالمية متسببة بذلك بآلاف حوادث السيارات، والدهس..
في أعالي البحار، وفي أهم الموانئ تعثرت حركة البواخر، وتعطلت إمدادات الغذاء والمواد التموينية، بل وجميع أنواع البضائع، ما أدى إلى ندرتها في الأسواق، وبالتالي ارتفاع أسعارها إلى حد الجنون.. وشيئا فشيئا بدأت المواد المخزنة بالنضوب، وبدأ الناس يشعرون بالقلق وبالجوع.." هذه نهاية مفجعة للأرض وللناس، تجعل القارئ يتسأل: ماذا أراد القاص بهذه النهاية؟، هل أراد القول أن خطأ تكنولوجي/فني صغير يمكن أن يؤدي إلى تدمير هائل وكبير؟، وهذا يأخذنا إلى سؤال آخر: هل قصد بهذه النهاية القول: أن التكنولوجيا خطر على لأرض وعلى الناس، ويجب الحد من الاعتماد عليها ؟، أم أراد القول أن على الفني/العامل أن يقوم بواجبه/بمهنته على أكمل وجه، حتى لا يحدث ما لا تحمد عقباه؟.
في قصة "لعبة شطرنج" تجمع بين الرمز "لعبة الشطرنج" والحقيقة، فأحيانا يقدم القاص الأحداث على أنها رقعة شطرنج، وأحيانا يشعرنا أننا أمام حرب حقيقة، لكن في المحصلة تبين القصة قذارة الحرب، وأن الخاسر فيها كل من يقوم بها، من الوزير وحتى الجندي، والمنتصر الوحيد فيها هم الملوك فقط: " في اليوم الثالث كان جميع الجنود، البيض والسود، قد لقوا حتفهم، باستثناء الجنديين العالقين.. كما ماتت الأحصنة كلها، والفيلة، وظلت قلعة يتيمة مهجورة لكل ملك، يحاصرها الوزير المضاد.. وبعد مفاوضات سرية بين الملكين تصالحا على أن يضحّي كل ملكٍ بوزيره." هذا حال الحرب وحال من يشعلها وحال من يشارك فيها.
قصة "أكون موازية" تتحدث عن رحالة مجموعة من الأشخاص من بلدان مختلفة إلى الفضاء، وبعد أن يعبروا الفضاء وتدور مركبتهم دوراتها السريعة، يكتشفون أنها عادوا إلى الأرض، لكن في زمن غير زمنهم، فكل واحدا منهم عاد إلى منطقته، لكن في زمن غير الزمن الذي كان فيه، فعلى سبيل المثل "غزوان" وجد نفسه في عصر سومر وبابل، وها هو يخاطب أحد قادة نبوخذ نصر بألا يتوجه بجيشه إلى الغرب، إلى أورشليم، لأن هذه الغزوة ستغير المستقبل في المنطقة: "ها أنذا مباشرة أمام نبوحذ نصّر بلحمة وشحمه.. أردتُ أن أقول له أشياء كثيرة لكن لساني انعقد، ثم جمعت شجاعتي وقلت متلعثما: أرجوك يا سيدي، لا تتجه غرباً، لا تغزُ أورشليم، دعْ أهلها بسلام.. تغير وجه الجنرال، وبدا عليه الغضب، وصاح بصوت كالرعد: من أنت لتعطيني نصائح؟ وكيف تجرؤ على قول مثل هذا الكلام؟ ثم ما هذه الملابس الغريبة التي ترتديها؟ ما أظنك سوى أحد عيون كورش.. سأقطع رأسك وأرميه للذئاب..
قلت له مستسلما: اقتلني كما تشاء، ودع الطير تأكل من رأسي.. المهم ألا تفتح جبهة ستغير مسار التاريخ، وستورث العالم مصائب لا حد لها." رغم أن القصة بدأت في القص الخارجي، إلا أن "غزوان" أخذ بالسرد، فقد تخلى القاص الخارجي عن دوره سرد لأحداث، وهذا الأمر استمر حتى انتهت كل الشخصيات من الحديث عما مرت به في المناطق التي ينتمي إليها.
ولم تقتصر فكرة الخيال العلمي على هذا الأمر، فهناك حدث مدهش متعلق ب"أرنو" الذي رجع إلى بيته لكن أهله لا يشعرون/يحسون به: "كانت أول وأقوى صدمة لي، حين تجولت في أنحاء البيت، وكلي لهفة وشوق لمعانقة زوجتي وضم أولادي، فإذا بهم لا يرونني، ولا يحسون بي.. كنت أصرخ في وجوههم بملء صوتي: أنا أرنو.. أنا أمامكم مباشرة! كيف لا ترونني أيها الأوغاد؟
صرت أتفقد جسدي برعب، وأطالع صورتي في المرآة لأتأكد هل حقا أنا موجود وعلى قيد الحياة؟ أم صرت طيفا غير مرئي، أو شبحا لميت شبع موتا ولم يعد يراه أحد" ولم يقتصر الأمر على هذا فقط فأخذ يرى الحياة، الزمن/الوقت يمر أمامه كما يشاهد فلما على الشاشة: "ولأني كنت عالقا في هذا البعد الزمكاني، كان الوقت يمر عليَّ سريعا، كانت تمر الأسابيع والأشهر كما لو أنها ساعات.. صرت أشاهد الحياة تماما كما لو أني أشاهد فيلما سينيمائيا" ونجده يعود بالزمن إلى أيام كان طالبا في المدرسة، ويتحدث مع نفسه أيام كان طفلا،: "لم أعد أطيق حياتي كطيف مخفي، وشبح عاجز عن تحريك كرسي.. وبما أني في تلك الوضعية المعقدة في البعد الخامس، سأعود في الزمن إلى الوراء ثلاثين سنة على الأقل.. إما أن أعيش من جديد، أو أقابل نفسي حين كنت صبيا طائشا.
على يمين الشارع المؤدي إلى "دارلنغ" شمال كيب تاون، كان موعد خروج الطلبة من مدارسهم، انتظرت بقلق ولهفة مرور أرنو.. لم يتأخر كثيرا.. كان يمشي على مهل، وبخطوات محسوبة.. وما أن صار قبالتي تماما حتى كدت أقبل عليه بحماسة، لأعانقه.. كان مفعما بالأمل، أحسستُ بذلك، وشعرت بسعادة غامرة تجتاح." وهذا ما يجعل ذروة الخيال كامنة في هذه القصة.
المجموعة من منشورات دار الشروق للنشر والتويع، رام اله فلسطين، الطبعة الأولى 2022.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما