الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سورة يوسف جمالية الأداء اللغوي وعلمية الطرح الفكري ح2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 9 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من سلسلة القصص التي تكون هيكل قصة يوسف بعد أن قرر الملك أن يدعه السجن وتمنح القارئ جوا من الجدية والصرامة بعد الفسحة التي كانت قبل ذلك، واتصالا مع ذات الرؤيا التي سبق وأن أخبر بها أبيه يعقوب مسألة تعبير الرؤيا، فهو فوق كونه نبي وذا علم ومعرفة بتأويل الأحاديث، أظهر ميزة لمن لا يعرفه أنه معبر للتأوبل الخاص بالأحلام، لذلك أطلق عليه لاحقا المعبر أو العبري أشتقاقا من فن التعبير عن الرؤيا، في الرؤيا التي قصها رفيقيه في السجن وكم كان التعبير مناسبا للحال (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ)، التعبير اللفظي هنا بشير إلى حالة لم ينتبه لها الكثير من المفسرين والمتدبرين، أن يوسف لم يدخل السجن لوحده، بل كان واحدا من ثلاث أشخاص كلهم لهم علاقة بالملك، والدليل كلمة دخل معه ولم ينص التعبير أنه دخل السجن فتيان أو وجد الفتيان قبله أو بعده في السجن.
تبدأ الحكاية التي نحن بصددها وهي مفتاح النجاة له من باب الضيق والشدة لنعلم من تدبير القصة أننا قد لا نعلم نتائج ما بين أيدينا من حدث إلا ما هو ظاهر، فدخول يوسف السجن هو بداية التمكين وبداية قصة العودة للسلالة الإبراهيمية ولقاءه بأخوته، فلو بقي في القصر بدون أن يدخل السجن ربما لم يسمع بقصة رؤيا الملم ولم يخبر أحدا الملك بوجود من يعبر له الرؤيا، لتكون البداية الثانية في حياته وهي البداية الأهم (قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، في موضوع الجمال السردي وهو هدفنا من هذه المقالة نرى أستخدام التعبيرات الموحية بماهية الشخص المتكلم، فقد عرف الأول نفسه "عاصر الخمر" وليس كما يشاع بالتفسيرات الأعتباطية ساقي الخمر الذي يشله مهنة النادل اليوم، وحتى في النص اللاحق الذي ذكره يوسف (أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا)، فالسقي هنا هو نتيجة كون السائل هو الشخص المسئول عن عصر الخمر للملك من دون الجميع، وبالتالي ما يصنعه من عصيره هو ما يسقى للملك، فيكون هو الساقي أو الشخص الذي يسقي ربه بمعنى مالكه وملكه خمرا، فالسقاية هنا تشبه السقاية الواردة في نص أخر بخصوص أهل مكة، السفاية مثل عمارة البيت الحرام هناك أشخاص مسئولين عنها وليس بمعنى هم من يقوم بفعل السقاية والعمارة.
الجمالية التي نشير لها في هذه الصورة لا تقتصر فقط على طريقة السرد والعرض والبيان والبلاغة اللغوية الرائعة، لكنها أيضا جمالية علمية بمعنى أن المفردة العلمية أو الطرح العلمي الغير مباشر في النصوص تأخذ محنى علميا طبيعيا لكن دون صرامة وحدية الطرح العلمي، لو أستعرضنا مثلا الجوانب النفسية العلمية المطرحة أو تلك التي أراد النص الإشارة لها نجد الكثير من مظاهر الجمال الباذخ هنا، في ظاهرة الإنفعالات الذهنية التي يتناولها علم النفس بالدراسة والتحليل يعتمد دورها على أولا طريقة تعرض الفرد للذهول وثانيا دور المفاجأة في إحداثه، عملية الذهول تجر الإنسان إلى عالم مشتت يفقد فيه شعوره بالواقع، لأنه مأخوذ بحالة غيبوبة مؤقته لا يدرك فيها ما يجري له، لحد الوصول إلى نقطة اللا شعور الحسي، أنظر تطبيق هذه النظرية وكيف عرضها النص بجمالية ملفتة للنظر (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ)، لا أظن أن نصا علميا يشرح الذهول وأسبابه ومؤثراته ونتائجه يمكن أن يختصر ببعض كلمات نظرية علمية مع الألتزام بجمالية الصورة والمتن معا.
ليس فقط هناك إشارات نفسية وقد تكون نظريات علمية حقيقية في مدارها التخصصي، أيضا هناك إشارات واضحة ومفهومة لبعض من أهم جوانب الحياة السليمة، الحياة التي تدار بالإدارة والتخطيط وفهم طريقة التعامل مع الأزمات والتبدلات المناخية نتيجة العوامل الطبيعية، فقد قدمت السورة أيضا دروسا عملية مهمة إرشادية لم ينتفع منها الإنسان عامة والمسلم خاصة في إدارة أمور حياته حتى تم تقنينها نظريا وبرامج حديثة تحت عناوين عدة، هذا التقصير سببه تمسك القراءات التفسيرية والتدبيرية دوما بالنص والبحث عن الأحكام المقيدة والمرخصة لما يعرف بالحلال والحرام، لنضرب مثلا جميلا مما ورد في السورة (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ* قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)، هذا التنظيم العالي والإدارة الرشيدة لم سيبق لأي نص ديني أو وضعي بشري أن صاغها وقدمها مختصرة وبالمثال العلمي دون أن يصطدم بالمصطلحات والأفكار المنافسة والتعقيد والإطالة في الشرح والتقديم.
من المسارات العملية والأفكار التي تؤسس لأول مرة في مجتمع غارق في ثقافة الخاصة القائمة على مبدأ المجموعية بدل عن المسئولية الفردية الشائعة في مجتمع القبيلة والبداوة، تطل علينا السورة بنصها القانوني الجديد الذي لا بد أن يكون منذ نزوله أو قراءته لأول مرة عماد للنظرية القانونية الجزائية، وإن كانت هناك إشارة سابقة لهذا المبدأ منها "ولا تزر وازرة وزر أخرى" وأيضا مبدأ "كل نفس بما كسبت رهين"، لكن النص الوارد هنا نص يختص بالقانون الجزائي حصرا (قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)، مبدأ الجزاء إذا ليس ما تتحمله المجموعة أو العشيرة بقدر ما يمثل في الدين والواقع مسئولية الجاني خصوصا إذا كان حرا ومختارا في عمله، غير هذا طرحت فكرة النص ومن سياق القصة أن الظاهر الخارجية ليست بالضرورة هي الحقيقة كما نراها أو تطرح نفسها حتى لو قام الدليل العقلي عليها بقوة، فما حصل من أكتشاف المسروق في رحل أخيهم ظاهر ثابت ووفقا للقانون والأدلة المتحصلة، لكن النص يخبرنا ما يشبه الحقيقة ولكنها لا تنتمي لها أبدا (فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ).
إن المتمعن بالدلالات الخاصة والفرعية التي يمكن قراءتها ضمنيا في النص القرآني هذا يلاحظ الكثير من الأفكار الإيجابية منها الإرشادية مثلا كقوله (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، وغيرها الكثير مما تحفل به السرديات من عبر وحكم تشكل ملاذا أمنا وطيبا لمن يطلب الحكمة من مضانها ومنابعها الأصلية، ولكن مع كثرة ما يرد في السورة من عمليات إعادة لصياغة الوعي المثالي السليم والإيجابي، يحاول النص أيضا أن يبني ثقة الإنسان بعقله، وقدرته على تجسيد حلم العدالة والسير في طريق وجودي معبد (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، هذه الثقة بالنفس والصدق معها لم يأتي من فراغ وام ينهزم مع كل ما يلاقي المرء في حياته من إخفاقات وعوامل سلبية قد تضعه على طريق اليأس والخيبة.
في نهاية المبحث هنا لا ننسى حقيقة واحدة هي أن الجمال السردي المختصر مع كثرة الأفكار والمواضيع المطروحة فيها، لم يشكل تقزيما للقضية الأصلية التي ركزت عليها النصوص، وهي قضية البناء الأسطوري اللا متوقع لإرادة الله في تسيير الأشياء والتخطيط لها، لم يستخدم الله أو الناص في السورة أو في الواقع المعجز الغيبي، ولم يحاول أن يجعل من أبطالها خارقين بقدر ما منح الحرية للعقل عند هؤلاء ليكونوا متوافقين مع ذواتهم المعرفية، ويصنعوا الحدث بعقلانية ومنطقية لا تخدش النظام الشمولي الكوني القائم على الأسباب والعلل، وهذه قضية مركزية مهمة واجهت الفكر الديني عموما عندما لا نفهم حقيقة الحدث، ونظن أن الله ربما لسبب ما يستعيض بالمعجز بدل المنطق الحدوثي وقانون السبب والعلة.












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام 


.. انفجارات وإصابات جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب




.. مسعفون في طولكرم: جنود الاحتلال هاجمونا ومنعونا من مساعدة ال


.. القيادة الوسطى الأمريكية: لم تقم الولايات المتحدة اليوم بشن




.. اعتصام في مدينة يوتبوري السويدية ضد شركة صناعات عسكرية نصرة