الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رُبَّمَا تَتَغَيَّرُ أقدارُ الديدانِ رُبما

عبد الله خطوري

2022 / 9 / 19
الادب والفن


أنا لم أعِ شيئا من وقائع آلأزمان وما تفعل بآلأرواح وآلأبدان، هم جعلوني أتابع تواتر اللقطات وأنا بعدُ في آلبدايات، أجحظ مشاهد أكمات الجائر طرزان، خلتُ عوالمَ الواقع حينها كلها مترعة بالجأش والعنفوان والفتوة والقوة والشان والشنآن موزعة بالتساوي على الجميع، وأن الخير ينتصر دائما، وأن السعادة والهناءة تاج يكلل هامات الفقراء، وأن سُحن آلبسطاء جميلة جدا، وأن المال وسخ من أوساخ الدنيا الدنية والقناعة كنز لا يفنى ورؤوس آلأشاوس لا تنحني و و...حتى عاينتُ بأم عيني ما عاينت، عايشت ما عايشت، غير أن الأوان كان قد رحل قبل رحيل عشرات الرحلات دون يتركَ وراءه بصمة أو حكمة أو فكرة أو خاطرة أو ذكرى..هكذا ببساطة مَررنا بحياة نكرة كما مر منها الكثيرون كما سيمر آلاف المرات آخرون لا يقفون لا يتأملون لا يبتسمون لا يعيشون لا يشهقونها كاملةً اُووه لا يزفرون هوووف..مجرد كينونات عاشت شقاءَها المقدرَ بحكمة صبر خجول والسلام...
الطريقُ موصد أمام صراخ:(لا!!)، مخضب بنفايات جرب دُنًى جرداء مُمتدة بتحدٍ بلا نهاية..بلا بداية..مفازة هي البلدات والمداشر والمدن والدساكر والقرى، سُهوبُ تَتَارٍ مُسَلَّطة كالقَدَر من كل جانب..الشمس الرمال العثار البوار الفراغ..لا جِوارَ في الجوار...فقط صَمْتُ عراء فاحم مُفْحِم في تسلطه..أرض المناجم يَهْماء مبهمة عارية خالية من كل المعالم..لا يهتدي فيها سبيلُ أقنان العمال إلى سبيل ما عدا طاعون وبال آختراق الصحارَى المسماة وجودا يجثم لايزال في لحود كألف دود ودود...
"كانوا يخرجون عند كل فجر كديدانٍ مذعورة إلى أعمالهم، ولا يعودون إلا عندما يتقيَّأ المصنعُ أجسادَهم الشاحبةَ بعد أن آمتصَّ كلّ طاقة فيها وكأنهم فضلات لا حاجة إليهم"..هكذا يفتتح غوركي رواية(الأم)بوصف غدو العمال الى العمل بهمة فاترة وحماس منعدم... بدأت الرواية والأم خائفة متوجِّسة من رفقاء آبنها ثم تعاطفتْ معهم بعد ذلك ومع قضيتهم، وفي النهاية تَبَنَّتْ القضيةَ وأصبحتْ قائدة تناضل من أجلها..قالت لهم ذات مرة:"أتعرفون لِمَ صدر الحُكْمُ بالنفي على آبني وعلى الآخرين؟ سأخبركم وستصدقون قلب أم مثلي:لقد أصدروا عليهم ذلك الحكم يوم أمس، لأنهم كانوا يحاولون أن يظهروا الحقيقة لَكُم، لكم جميعا، معشر العمال.وعرفتُ أمسِ فقط أن هذه الحقيقةَ لا يمكن لأحد أن يخنقها وينكرها..."...
أتَذَكَّرُ في خضم هذه الأجمة الَّلاإنسانية شريطًا من مُشاهدات الفتوة، شَحَذَ عواطفَنا زمنَ الأحلام جعلَها تتفتح على فضاءات أكثرَ واقعيةً مما ألفناه عادة في سرياليات مراهقة الهنود التي لا تريد أن تنمو أو تترصن أو تنضج أو تخفف من طيش رومانسيات مَشاهدها المُفْرِطة في الخيالات الجامحة..عكس ذلك كله، أطل علينا فيلم:"الحجر الأسود كالا باتهار" الذي يمكن آعتباره جيرمينال السينما الهندية إطلالة المفاجأة المنزاحة عن تقاليد معهودات بوليوود..فبعض توابل ما يطلبه المتفرجون المستهلكون للأفلام الهندية التقليدية غير موجودة في هذا الشريط، مما كسر آنئذ أفق انتظار الكثيرين المعتادين على نمطية العادات المتكررة في الانتاج الهندي الذي يغازل عواطف المتلقين من أجل كسب مزيد من المال...
لقد خلخل"جيرمينال بوليوود"أفق آنتظاراتنا، كسرها، ابتعد بنا عن مشاهد الرقص والغناء والفكاهة المجانية، قَلَّصَ من حجم حضورها على مساحة الفيلم، جعل الحدثَ أساسًا ومعاناةَ الإنسان بؤرةً فاصلةً في نسج الحبكة التي أضحت أكثرَ واقعيةَ مما ألفناه في آستيهامات فانطازيا الهنود الهاربة من واقعها المعيش الأسود عبر تفريخ مَشاهد وردية كاذبة..عكس ذلك كله، قَدَّمَ"الحجر الأسود كالا باتهار"نفسَه توليفةً خامة كرغيف أسود بلا مِلح بلا توابلَ بلا إيدام حافيًا مجدورًا كوجوه التعساء..أطل إطلالةَ المفاجأةِ الخارقةِ سَمَاجَةَ تقاليد معهودات بوليوُود..رفضناه في البداية، لأننا كنا مقتنعين بأن ما كنا ندفعه من نقودِ جيوبِ آبائنا لا يمكن أن يقايضه إلا مزيد من ممارسة الأحلام تُقَدَّم لنا معروضةً في حيز مختلس بعيدا عن وقر وقع الوقائع القميئة التي كنا نعيشها.. لكن، توالي التجارب والخبرات علمتْ وتُعلم الإنسانَ ما لم يك يعلم...(١)
الشريط من إخراج(ياش شوبرا)الذي منح الممثل"أميتابشان"أدوارا مركبة ومعقدة بين النزوح الى الخير والشر معا كما في فيلم(ديوار الجدار 1974)الذي كنا نطلق عليه ونحن صغار عنوان:"أموتْ من أجل أمي"متأثرين بتلك الدبلجات التي دأب(إبراهيم السايح)على دبلجتها للأفلام الأسيوية باللسان المغربي حتى كنا نعدُّها آنذاك أفلاما مغربية محلية محضة لولا الأغاني والموسيقى والرقصات والاستعراضات التي كانت تُعيدنا الى قعر الحقيقة..(٢)...ثم أخرج شوبرا فيلم:"تريشول1978"، والفيلم الرومانسي: "كابي كابي..."أو ما كان معروفا عندنا ب:"الحب هو الحياة" عام1976، ولطالما رددنا معجبين أغاني الفيلم بصوت المغني"موكيش"حفظناها لكثرة ما سمعناها في أشرطة كاسيط دأبنا على جمعها والاحتفاظ بها كنوع من الشغف والهواية..وآخر أفلام آميتابشان مع هذا المخرج فيلم"سلسلة"1981 الذي أثار جدلا في الهند آنذاك بخصوص العلاقة بين الواجب والميولات العاطفية، بين الأنا/المفردة، وأنا/الجماعة، بين الحرية والحياة الشخصية والواجب والعائلة والعادات والتقاليد...
وفيلمنا(كالا باتهار)فيلم تراجيدي حزين يحيل عنوانُه على موضوع آستغلال المعادن وخيرات مناجم بلدة هندية نائية دون أن يستفيد الأهالي شيئا من منتوجات أرضهم اللهم مزيدا من الفقر والتفقير والإقصاء والتهميش والاستعباد في آستغلال طبقي صارخ..إنها النعمة التي تتحول إلى نقمة بسبب السرقة والسطو والجبروت وقوة سلطة حكم مطلق يَسنُّ بلا هوادة منطق السخْرة والقنانة دون حسيب أو رقيب..لا شيء تغير في تاريخ الإنسانية..لازالت الطبقات هي الطبقات، منذ عصور الحجارة الى عصور الإسمنت المسلح والحديد والفولاذ وآلنيون، لازال التسلط فارضا أدرانَه وقيودَه على المستضعفين..وإذا لم تنحنِ آلديدان سنجعلها تنحني..يقول لسان حال آلمتحكمين في زمام آلأمور الذين جمعوا بأيديهم نفوذ المال وسلطة السياسة والتشريع مُطوقين حياةَ المستعبَدين بقوة القهروالعنف والتعنيف، فحيثما تجد فقرا مذقعا فثمة آغتصاب قابع مع سبق إصرار وترصد..هي تيمة أزلية تتكرر في كل مكان في كل زمن منذ تمردِ سبارتاكوس ومَنْ كان قَبْلَه وقَبْلَ قَبْلِه إلى ما يحدث الآن هنا إلى أن تفنى الأرض وما عليها.لقد أمسى الإنسان البسيط أكثرَ بساطةً غارقا في تفقير يُفْرَضُ عليه بالوراثة فرضا حتى غدا كدواب الحظائر أو أنكى وأهون وأوهى..(٣)

في رواية جيرمنال، (إتيان)عاطل أو بالأحرى مُعَطَّلٌ يعيش في باريس، يمضي وقته بحثا عن عمل.وهو حين يلفي الدروب كلها سدّتْ في وجهه، يتوجه الى مناطق الشمال الفرنسي،بلاد المناجم ليجد نفسه في خضم نضالات العمال ضد شركات المناجم الاحتكارية التي تتواطأ معها السلطة حينا، وتنافسها في الاحتكار وفي قمع العمال حينا آخر بواسطة أداة القوة التنفيذية المعتمدة على الردع والقمع..ينتهز لوبي الاحتكار الرأسمالي الموغل في وحشيته كل فرصة ليمعن في آستغلال العمال وآستعبادهم وإذلالهم وخفض أجورهم، ويجزي العطاء للعمال المتعاونين مع مصالحه ومصالح السلطة السياسية المسيطرة، ويتم آستقطاب الطفيلين المندسّين بين صفوف آلمياومين وتسخير المرتزقة المستفزين مجرمي الفتن ما ظهر منها وما بطن(هناك نوع من الديدان تستخدم طعما في الصيد!!) أو بلغة أوقاتنا التي نعيشها"البلطجية" أو"الشلبيحة"أو"الشماكرية"أو "القطاطعية"ذَوُو السوابق، كوسائل تضرب بهم جميع محاولات العمال في تحسين أحوالهم، فتتحول أجرأة الإضراب بناء على تكتيك خبيث تتبعه السلطة متحالفة مع الشركات إلى حصار وضغط وفرض أمر واقع قاهر لا مناص منه؛ فالعمال يضربون، والشركة تمتنع عن دفع مرتباتهم، فتتدهور حالة الفقراء وتميلُ"اللعبة"مع توالي أيام الممانعة الى كفة ذوي النفوذ، ويبدأ أشقياء المناجم في التخلي عن حقهم في ممارسة الإضراب، يعودون بالتدريج الى سُخْرتهم دون تحقيق أي مطلب يُذكر من أجل لقيمة يسدون بها رمق أفواه شاغرة ...
الديدان كائنات لزجة هشة تتكاثر تتآكل من الداخل تتمرمر تتبخر يفني بعضها بعضا، وفي فنائها إفناءٌ لمجالها الحيوي تماما كديدان بودلير في جيفته النتة (٤)..ثمة وراء قمع وهزيمة نضال العمال، مشكلات وآنقسامات وضروب جهل وتردد وتطرف في آختلاف الآراء والمصالح برزتْ داخل الصفوف، كأن(إميل زولا)شاء لروايته أنْ تكون سجالا بين العديد من الأطروحات السياسية لعل أهمها أطروحة مؤيدي"الاشتراكية الأممية" وآنتظار آتحاد عمال العالم و أطروحة (باكونين)ذي النزعة الفوضوية المنادية بممارسة العنف الفوري من أجل التغيير دون آنتظار حلول أخرى تسويفية، لتقع الطامة الكبرى، تنتشر المشاحنات، يتقاتل المفقرون(بصيغة آسم مفعول) فيما بينهم، يضرب بعضهم بعضا دون رحمة على مرمى أعين أرباب رأس المال الذين يتنفسون الصعداء بعد أن ضمنوا لسنوات ستأتي آستمرار الوضع على ما هو عليه دون مساس بمصالحهم ونفوذ سلطهم...
وتستمر الحكاية، تُعاد تفاصيلها الرتيبة في كل زمن لن تتغير فيه شروط حياة الإنسان حتى يتغير جوهر هذا الانسان في ماهيته في كُليته وشموليته وعمقه البشري..وفي آنتظار ذلك..يبقى الحال على ما هو عليه، وعلى المتضرر البحث عن مسببات ضرره يعيها يدركها ويعمل على علاجها عسى...
الانسان مخلوق مُكَرَّمٌ بطبيعته؛ لكن مذ ساد الفساد والتفسيد النفوس وتفاقم الجشع وعمت اللهطةُ القلوبَ وجعل منطق السطو ينمو يسيطر على حساب قيم الخير والعدالة والمحبة، فإن(لي ميزيغابل Les Misérables هوجو)يزدادون بؤسا كل لحظة..نَعَمْ، لم تُغير المحاولات المنعوتة ب"الثورات"شيئا ولا "التمردات"ولا النهضات ولا الانبعاثات ولا ألف شعار وشعار..أضحى جٌؤار:(لا!!)الإنسانية منذ فجر التاريخ مجرد صدى زوبعة حيوان كَليم يختلط فيها شهيق بزفير، ثم على مهل تخمد عبارة(منتصب القامة أمشي مرفوع الهامة أمشي...)(٥)في رماد أتون فتور جامد كأن سُعار آشتعاله لم يستعر أبدا، لتستمر حكاية "الديدان التي تنحني"(٦)على حد تعبير(محمد زفزاف)ثابتة راسخة لا حول لها معلقة تنتظر نجدة من غيرها كما في فيلم(ال٣٣/ Les 33/The33) (٧) أو تعاطف مستغليها(أفواه وأرانب) (٨) إلى حين آخر ربما تتغير فيه أقدار آلديدان ربما ربما...

_إحالات:
١_ لم أكُ أعرف وقتئذ أن في بلد الهند مخرجون آختاروا قبل ظهور فيلم (الحجر الأسود)الخروج والتمرد على سينما الجماهير الشعبية، من بينهم:(ساتياجيت راي/مرينال سينغ/ريتويك غاتاك/وتبان سينها...)وآخرون متأثرين بأفلام:«الواقعية الإيطالية الجديدة»:(روبيرتو روسيلليني فيتتيرو دي سيكا/فيديريكو فيلليني....)

٢_إبراهيم السايح(1925/2011)يعتبر حقا رائد دبلجة الأفلام الهندية بالمغرب في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي

٣_ حاولَتْ حيوانات مزرعة جورج أورويل أن ترفع هاماتها وتجأر (لا!!)، لكنها سرعان ما ....

٤_قصيدة(جيفة/Une charogne)لشارل بودلير من ديوان(أزهار الشر)

٥_قصيدة:“منتصب القامة أمشي” للشاعر الفلسطيني سميح القاسم

٦_قصة(الديدان التي تنحني)أعتبرها أهم قصة قصيرة كتبها الراحل محمد زفزاف، تجدونها ضمن مجموعته القصصية(بيوت واطئة)

٧_أنتج عام 2015

٨_أنتج عام 1977








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة