الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقيقة وفلسفة السؤال

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 9 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الحقيقة التائهة ليس طبعا هي من تاهت في الطريق بل أتكلم عن الذين فقدوا التمييز بين الحقائق وبين الأوهام والتصورات والمخيال الظني، فالحقيقية كونها حقيقة فهي مطلقة لا يمكن جعلها نسبية ولا حتى تصورها أن تكون ممكنة بهذا الوصف، ربما يسأل الكثيرون عن معنى الحقيقة؟ وهل بالإمكان تحديد ماهية الحقيقية على الوجه اليقيني؟ ثم كيف لنا أن نميز الحقيقة من سواها حسب ما نقدم لها من تعريفات؟ وقد تكون متناقضة ليس بينها جامع ولا مشترك حتى نتفق على مسمى ودال واحد، هنا نعود للإشكالية التاريخية بشقيها الفكري والمعرفي في تحديد مفهوم الحقيقية والجدال الطويل حول ما هو حقيقي وما هو بغير ذلك، ولكن حتى لا نعود لنفس الجدل الفارغ لا بد أن نشير لجزئية مهمة يمكن أن تكون طريقا لفهم معنى الحقيقية وهي، أن هذا العالم الذي نعيش فيه ونتحرك من خلاله وله قواعد ناظمة ثابتة وسنن أصيلة لا تتغير بتغير الأزمان أو الأمكنة مثال صغير لقضية حقيقية، ونحن نعرف أن القضية مهما كانت من التوسع والشمولية لا يمكنها أن تكون هي كل الحقيقية.
من هذه النفطة لا بد أن أشير إلى أننا عندما نتكلم عن الحقيقية علينا أن نفهم ما هي الحقيقية التي نريد؟ الحقيقية العلمية المحكمة التي لا يمكن التلاعب بحدودها وماهيتها لأنها محكومة بالكلية والثبات، أو تلك الحقيقية التي يتباهى البعض بها كونها وجوهرها تتوافق مع حدود هو من وضعها، وهو من أطرها وبالتالي ليس صعبا عليه أن يخلق حقيقية أخرى ويدع أنها هي كل ما في الوجود من حقيقية، هنا أشير مثلا للحقيقة الدينية التي سعى الكثير وعلى مر التاريخ أن ما في الدين هو الحقيقية الأكيدة بأعتبارها جاءت مع الوحي والوحي جاء من المطلق الذي صنع الحقيقية، فالحقيقة الدينية هي ما جاءتنا وليست ما يمكن أن نكتشفها ولو بمراحل من خلال التجربة وتكراراها وتطويرها، لذا فالدين يقدم وصفة جاهزة عن الحقيقية كما يراها هو، ويريد منا أن نعتمدها دون نقاش وحتى دون فهم، لماذا؟ لأن الله بزعمهم قال هذا!
أليس غريبا هذا المنطق في فهم الحقيقية طالما أنه ليس من حق الباحث عن الحقيقة أن يخضع المنطق في بحثه ويمارس هذا للتجريب والأمتحان، بل وحتى توسله للمنطق العلمي الذي لوحده قادر على الحكم النسبي العالي ولا أقول المطلق على الأشياء، طالما أن البحث لم ينتهي والحقيقة لم يصرح عنها بأنها مكتملة الوضوح والبيان، الحقيقة الدينية حقيقة يخاف عليها من أصحابها أن تمتحن وأن تخضع لوسائل العلم الحديثة، لذا لا يمكن تفسير الحقيقة هنا سوى أنها وهم حقيقي وليس موضوعا حقيقيا قابلا للفحص والتقويم، أما الحقيقة في العلم فهي لا تحضر بشكلها المطلق بشكل كامل، بل هي أجزاء من الحقيقية تنتسب لمواضيعها فقط، ومن خلال جمع المواضيع بمنظومة كاملة نصل للحقيقية التي تاه البعض عنها.
في التاريخ الحضاري الدين هو من فتح في أول نشأته أبواب العلم وهذا منطق لا ينكر، السبب ليس لأن الدين يريد من الناس أن تسلك العلم طريقا أخر للفهم والإدراك والبيات والتبيين والنظر والتدبر مستخدمة غير طريق الدين المعروف، ولكن لأن حركة الدين القائمة على تناقض مع الواقع المستهدف تدفع العقل الإنساني للسؤال، هذا الواقع هو من شرع المنهج العلمي وبناه، طالما تسأل وتبحث فأنت في طريق العلم، النتائج ليست بذات أهمية الباعث وإن كانت هي غاية البحث، كلما كان السؤال مفتوحا على طلب الإجابة كان الطريق العلمي متسع، وكلما كبرت الأسئلة وعظمت في طرح تساؤلات جدية وبعيدة ومركبة كان العلم في طريق التطور والكشف عن حلقات الحقيقية التي واحدتها تفود للأخرى، حتى لحظة منع السؤال بفتوى أو رؤية دينية وبها يتم محاصرة العقل والتضييق عليه يسقط هيكل العلم وتتوقف المسيرة أو تتباطأ.
عندما وصل الدين إلى مرحلة المواجهة بين تسليماته وبين حركة العقل تحول إلى مدافع شرس ضد التفكير العلمي وضد البحث عن السؤال، هذه النتيجة التي كان على الدين أن يتوقعها إن كان فعلا مع الحقيقية ومع مسيرها، لكن المضي في مشروع البحث سيضعه في مأزق وجودي يخالف الحقيقية التي يريد بقائها مطلقة في الواقع دون حتى التفكير بحقيقتها أو أمتلاكها اليقين المناسب، هذا ما جر الدين للمواجهة مع العلم وأصبح البحث العلمي والفكري العميق عدوا لدودا له، فتحريم التفكير هو من يقفل باب العلم وهو الذي يخرج مسيرة الدين الأولى من مسارها الأفتراضي، إلى جدار لا ينفذ منه إلا ما يتناسب مع حقيقة الدين المطروحة، فعندما حرم الغزالي الفلسفة والتفكير العلمي ونسبهما للشيطان كان هذا الفعل والرؤيا بداية إنهيار الحضارة العلمية في عصر الإسلام الذهبي كدين، وأعاد فرض فكرة الحقيقية الموحى بها على أنها الحقيقة المطلقة التي لا جدال فيها، أما حقيقة العلم الموضوعية والمنطقية هي حقيقة من الشيطان.
يمكن تسمية ما تقدم وموقف الدين من العلم هو فوبيا الحقيقة طالما أن الخشية من المواجهة حقيقية وليست شيء أفتراضي، الخشية من إنهيار عمارة الأفكار والرؤى التي بنيت على مفهوم الحقيقية الموحى بها على أنها الحقيقة المطلقة، لذا يعمد الدين دوما إلى أتخاذ موقف العداء ممن لم يؤمن ليس بالجانب المضيء فيه، بل الجانب الذي يطرح موضوع الحقيقة للسؤال، لا تسأل عن أشياء إن تبدو لكم تسؤكم والحقيقة الإساءة هنا الشعور بالخيبة والشعور بالأستغفال، وإلا فالمنطق العلمي يقول أن السؤال هو المفتاح لكل طرق العلم وبداية أي بحث هو كيف نترجم السؤال إلى منهج عمل، والحقيقة الأخرى أن مسيرة الإنسان في الوجود لا تنتهي حتى ينتهي مفعول السؤال وضرورته ووجوده، فلا حياة ولا علم ولا ضرورة بدون السؤال، فكيف تتحول الضرورة إلى إساءة وإلى إشكالية سلبية.
إن التمسك بحق السؤال هو تمسك منطقي وحق وجودي لا تحده ظاهرة ولا ينفيه حق أخر مهما أمتلك من مبرر وقوة ونفوذ، وسيبقى السؤال هو البوابة التي منها يبدأ البحث عن الحقيقية التي فشل الكثيرون في حتى محاولة تلمس طريق الوصول لها، أما بدافع فكري أو معرفي يطرح بديلا أو يتبنى موقفا مغايرا من فلسفة السؤال، إن الإنسان الساعي للكمال البشري والتطور والرقي والسمو لا يمكن أن يكون كذلك ما لم يختار منهج السؤال كحق وكواحب وجودي، فلا طريق أخر يمكن أن يأخذنا للحقيقية ولا ممر أمن يمكن أن يسهل لنا الأستدلال والوصول غير المضي بالسؤال الأول وأنتهاء بالسؤال الأخير الذي ما بعده سؤال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استهداف فلسطينيين أثناء تجمعهم حول نقطة للإنترنت في غزة


.. طلبة في تونس يرفعون شعارات مناصرة لفلسطين خلال امتحان البكال




.. الخارجية القطرية: هناك إساءة في استخدام الوساطة وتوظيفها لتح


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يناقش خياري إيران ورفح.. أيهما العاجل




.. سيارة كهربائية تهاجر من بكين إلى واشنطن.. لماذا يخشاها ترمب