الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(دفاعاً عن التجربة السوفييتية).السوفييت والشعوب: الاتحاد السوفييتي والقضية القومية

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2022 / 9 / 20
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير


ترجمة: محمود الصباغ
يقال بأن الماضي ليس جزءً من الماضي فقط.
في الأشهر القليلة الماضية ، برز على سطح النقاشات العامة معنى السياسة القومية السوفيتية، وهو موضوع كثيراً ما تعرض للتفكير والتأمل في المطارح الأكاديمية "النائية" ولحظات السعادة الشيوعية. وأدت الحرب الدائرة، حالياً، في أوكرانيا إلى طرح العديد من الأسئلة حول الحدود واللغات والأعراق في تلك البلاد الشاسعة التي كانت تعرف باسم "الاتحاد السوفييتي". كيف انتهى بهم الأمر إلى هذا الطريق، ومن المسؤول، وكيف تؤثر هذه الأسئلة على أسباب وعواقب الأزمة الحالية؟. ويبدو، على وجه العموم، أن هذه النقاشات العامة كانت اسبه بمعركة مبارزة قومية، وقد نسج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وجهات نظره القومية، رداً على النزعة القومية الأوكرانية اليمينية المتطرفة، ليلقي باللوم على البلاشفة بسبب دورهم، بزعمه، في تمهيد الطريق لظهور التوترات بين روسيا وأوكرانيا اليوم.
ولو أخذنا في اعتبارنا مجموعتين من الانتقادات ( الانتقادات القومية الأوكرانية والانتقادات البوتينية)، فسوف يقودنا هذا إلى الاعتقاد بأن الاتحاد السوفييتي كان نوعاً من إمبراطورية فاسدة ومتوحشة، عملت على إعاقة، بل أسر، التطلعات العادلة لشعوبها القومية وأعراقها الإثنية المختلفة، فضلاً عن تلاعبها "بالحدود القومية" لتوليد دول مزيفة ووعي قومي زائف. غير أن الحقيقة بعيدة كل البعد عن تلك القصص التي يرويها القوميون الأوكرانيون وبوتين. كان الاتحاد السوفيتي المحاولة الأكثر تقدماً في معالجة الاضطهاد القومي والعنصرية والتمييز على مستوى الدولة الأوسع. فكان الاتحاد السوفياتي، من بين أشياء أخرى كثيرة، أول دولة تشارك في العمل الإيجابي على نطاق واسع عند مستويات لم يصل إليها بلد من قبل أو منذ ذلك الحين. لقد وجد السوفييت مئات القوميات تحت سيطرتهم، فما كان منهم إلا وضع هذه الشعوب تحت راية سلطة حكومية واحدة أخذت على عاتقها محاربة التخلف الاقتصادي والاضطهاد الثقافي من أجل فتح بوابة مستقبل تحرري للشعوب التي قضت قروناً تحت نير الطموحات والمطامع الإمبريالية القيصرية. ولا يمكن، في الواقع، فهم عمق المأساة التي تعاني منها أوروبا الشرقية الآن بشكل كامل إلا في ضوء الجهود السوفيتية التي استمرت لعقود بهدف وضع حد لحالات العداء القومي الوطني وصياغة مستقبل قائم على وحدة العمال والفقراء من الناس من أجل منفعتهم الجماعية ولصالح الإنسانية.
سجن الامم
عُرفت الإمبراطورية القيصرية، في أوساط معينة ، باسم "سجن الأمم". لقد سيطر القياصرة المختلفون، من القرن الحادي عشر إلى القرن التاسع عشر ، من إيفان الرهيب إلى كاترينا و "بيتر" العظيمين، على منطقة شاسعة تمتد من المحيط الهادئ إلى وسط أوروبا ومن الدائرة القطبية الشمالية إلى البحر الأسود وسهوب آسيا الوسطى. ووقع تحت رايات هؤلاء القياصرة ما يقرب من 200 قومية وعرق وإثنية، وبالمعنى المجازي: برج بابل الحقيقي من اللغات.
كان الاستغلال وعدم المساواة متفشياً في جميع الدول. كان حوالي 90٪ من غير الروس، عبر الإمبراطورية، أميين – وينطبق الأمر على 75٪ من الروس. وخصص الحكم المطلق القيصري، في محاولة لخلق استراتيجية فرق تسد ناجحة، التعليم العالي للمجموعة الأكثر امتيازاً من الروس، مما يعني أن معظم الأطباء والمعلمين وغيرهم من المهنيين في المناطق القومية المضطهدة كانوا من الروس بشكل حصري تقريباً. في بشكيريا، الواقعة بين نهر الفولغا والأورال، كان 10 طلاب فقط ينتمون للقومية البشكيرية، من بين أكثر من أربعة آلاف طالب ثانوي. وفي المدن الكبرى، كانت القوميات المضطهدة تشغل صفوف العمال ذوي الأجور الأقل. وقيل ذات مرة أن كل "حذاء أسود" في موسكو كان يصنع أصلاً في القوقاز وأن ثلث جميع التتار كانوا عمال نظافة وحمالين و "جامعي خرق". ومنح النظام القيصري للروس حق استثمار واستعمار أراضي القوميات المضطهدة كجزء من جهد أوسع من سياسة "الترويس" المصممة للقضاء على اللغات والثقافات الوطنية غير الروسية. فعلى سبيل المثال، يتحدث الكاريليون Karelian لغة قريبة من الفنلندية، غير أن من يبيع الكتاب المقدس باللغة الفنلندية كان يعاقب بالنفي، كما كان يُمنع على تلاميذ المدارس التحدث باللغة الكاريلية. ونشر حكام المقاطعات المعادون للسامية بشدة نظام إرهاب ضد اليهود على غرار نظام كوكلاس كلان الأمريكي KKK، وهو النظام الذي عرف باسم "تشورنايا سوتنيا Чёрная сотня " أي "المئات السود" [ ويبدو أن استخدام الصفة "أسود" هنا تأتي من الفهوم الذي كان سائداً في العصور الوسطى حين كانت هذه الصفة تعني العوام أو كل ما هو "غير نبيل"] والذين اشتهروا بأعمالهم شديدة الوحشية وأصبح مصطلح " بوغروم погро́м"، بمعنى "المذبحة" معروفاً في جميع أنحاء العالم. كانت الغيتوات هي القاعدة في العديد من المدن والبلدات حيث تم تحويل القوميات المختلفة إلى نسيج من الجيوب الرأسمالية النامية في روسيا. كما أن معارضة الزواج المختلط الإثني والديني تتماشى مع العنصرية الرسمية والتعصب الأعمى. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن القياصرة يترددون في إثارة مختلف القوميات ضد بعضها البعض سواء على صعيد الأرض أو استغلال الفرص الاقتصادية. كان الاضطهاد القومي ، إذن، متعدد الطبقات، حيث كانت بعض الجماعات الإثنية تضطهد أيضاً جماعات أخرى بينما كانت هذ ذاتها تتعرض لشوفينية روسية مذلة. وأدى هذا إلى خلق ثقافة معارضة فريدة، خاصة بين الشيوعيين. كان هناك قوميين راديكاليين، يمثلون رغبة النخب الوطنية في السيادة الاقتصادية على أراضيهم، وربط "التحرير" بالاستقلال الرسمي. كان هناك اشتراكيون يعتقدون أن العداوات القومية لها أهمية ثانوية، مؤكدين على وحدة جميع العمال ضد الطبقة الحاكمة القيصرية. كانت هناك أنواع أخرى من الاشتراكيين والشيوعيين الذين اعتقدوا أن الراديكاليين يجب أن ينتظموا على أساس القومية، وبالتالي في فيديراليات قومية. ثم كان هناك البلاشفة، الذين دعوا إلى الوحدة متعددة القوميات للعمال والفلاحين ضد القيصر والرأسماليين الحاكمين وملاك الأراضي - بينما ركزوا أيضاً بشكل مكثف على المعارضة المسلحة لجميع أشكال الاضطهاد والتعصب القومي. تجذرت مقاربة البلاشفة في فهمهم للاضطهاد القومي باعتباره نتاجاً للرأسمالية والإمبريالية. وارتبطت عملية التهام الدول من قبل القياصرة بالنهم إلى الأرض والموارد والعمل لتنمية ثرواتهم والتنافس مع القوى الإمبريالية الأخرى التي تسعى إلى نفس الشيء. وكان استنتاج البلاشفة الرئيسي يقول بعدم إمكانية بناء تحالف من المضطهدين والمستغلين، والإطاحة بالحكام، دون تسليط الضوء على أن التحرير الحقيقي يتطلب تدميراً كاملاً للاضطهاد القومي واستبدال الرأسمالية. وعلى هذا النحو ، كان الجزء الأكبر من البرنامج البلشفي هو "حق الأمم في تقرير المصير". وبينما شدّدوا، كما كان الشيوعيون دائماً، على أن الاشتراكية والشيوعية تتطلب وحدة متعددة الجنسيات تتجاوز الحدود الوطنية التي وضعها الرأسماليون المتنافسون، فقد ذكروا أن التزامهم بالتحرر الوطني سوف يعني دعمهم لأي حالة انفصالية فيما لو كان هذا الانفصال هو التعبير الحقيقي عن حاجة الشعب المضطهد ، فعلاً، للشعور بالحرية. وسوف تكون هذه هي المبادئ الأساسية التي من شأنها أن تساعد في وصولهم إلى السلطة، وتوفر الأساس للنهج السوفييتي تجاه القوميات.
بزوغ عصر جديد
كان التصدي للاضطهاد القومي، في أعقاب ثورة 1917، من بين العديد من التحديات المعقدة للغاية: إنهاء المشاركة في الحرب العالمية الأولى، وإطعام السكان الجائعين وإعادة تقسيم المِزارع الكبيرة بين الفلاحين. وكان يحدث كل هذا يحدث في سياق العداء الشديد للإمبريالية. لقد أرسلت 14 دولة رأسمالية قواتها في محاولة، كما قال ونستون تشرشل لاحقاً، "لخنق البلشفية في مهدها". كما أرسلت هذه الدول الأسلحة والذهب ومعدات الحرب الأخرى إلى كل حاكم محتمل - طالما كان يكره الشيوعية. وأدى هذا، على الفور، إلى خلق مجموعة جديدة من القضايا فيما يتعلق بالقوميات، وبشكل أساسي (كما لاحظ البلاشفة منذ فترة طويلة) كان النضال الوطني والصراع الطبقي متشابكين. وهذا يعني أنه سرعان ما أصبح سلاحاً من قبل قوى مختلفة تتطلع إلى الإطاحة بالسلطة السوفيتية. ومما زاد الأمر تعقيداً حقيقة أن تكتل الإثنيات والشعوب، الذي ظهر من عالم ما قبل الرأسمالية، نادراً ما كان له تاريخ واضح "للحدود القومية". بمعنى أن النضالات التي انطلقت من ثورة 1917 كانت تدور حول تحديد (ومناقشة) العلاقة بين اللغة والثقافة والدين والأراضي بقدر ما كانت تدور حول تلك الحدود الإثنية والقومية. العديد من النضالات من أجل "التحرر الوطني" في فترة ما بعد عام 1917 كانت أيضاً عبارة عن صراعات حول كيفية حكم منطقة معينة، وما إذا كان من الأفضل القيام بذلك كدول مستقلة رسمياً أو كجزء من اتحاد سوفييتي أوسع يوحد مختلف الدول في مشروع دولة اشتراكية واحدة. وقد أدى ذلك إلى مجموعة معقدة من الأحداث التي لا يمكن تلخيصها بالكامل هنا، ولكنها تختزل بشكل أساسي في الانقسامات بين عناصر الأمم المضطهدة الذين فضلوا "العمل بمفردهم" في تحالف مع القوى الإمبريالية وأنصار الإحياء القيصري، وأولئك الذين هم بالفعل جزء من الحركة البلشفية أو منجذبين إلى سياساتها "المناهضة للعنصرية" والمؤيدة للفقراء. وفي معظم الحالات تمت تسوية هذه الخلافات و القضايا بين الجانبين بقوة السلاح. مما مهد الطريق لظهور مجموعة من النضالات المختلفة، بين القوميين والشيوعيين (أوكرانيا)، والشيوعيين والقوميين مقابل ملاك الأراضي الإقطاعيين (بخارى)، البلاشفة مقابل المناشفة (جورجيا) وكل شيء بينهما. وفي النهاية، ألحق عشرات الملايين من غير الروس أوطانهم بالاتحاد الاشتراكي الأوسع بما صار يعرف باسم الاتحاد السوفيتي.
وبحلول منتصف العشرينات من القرن الماضي، تم تحديد "شكل" الاتحاد السوفيتي، حتى الحرب العالمية الثانية – ليشمل معظم أراضي الإمبراطورية القيصرية، باستثناء دول البلطيق وعناصر من الجمهوريات الغربية التي انتقلت إلى إمبراطوريات أوروبا الوسطى المختلفة. وسوق يكون عقد الثلاثينيات التالي، أو نحو ذلك، زمناً رحباً لهذه التجربة، سوف يليها توحيد النموذج الشامل الذي سيبقى لبقية الفترة السوفيتية.
الاشتراكية ضد الاضطهاد
شرعت القيادة السوفييتية للبلاد، في مواجهة التخلف ونقص الموارد وعدم وجود خارطة طريق، في محاولة مواجهة تحديات قرون من الاضطهاد القومي. وأكدت السياسة السوفيتية على دعم تقرير المصير "للأشكال القومية" التي تمت معايرتها أيضاً لتوجد ضمن الإطار الأوسع للبناء الاشتراكي. ولكن هذه العملية لم تكن تخلو من التناقض. لقد كان يهدف المشروع الاشتراكي إلى حشد موارد المجتمع من أجل تلبية احتياجاته ورغباته الجماعية المحددة ديمقراطياً. ولكن في سياق التخلف العميق، يصبح كل شيء تقريباً يعتمد على مبدأ المقايضة. هل نبني جسرا أم سداً؟ و أين؟ إذا كانت الأمية عالية، ولكن تتوفر فقط موارد قليلة للعديد من المدارس والمعلمين والكتب، فمن الذي عليه أن يحصل على الأولوية؟ بعبارة أخرى، كانت المعضلة هي كيفية تحقيق التوازن بين التحسن العام في الرفاهية الجماعية مع سد الفجوات التمايزية بين القوميات المضطهدة - كل ذلك على مستويات مختلفة من التنمية / التخلف. وعلى مدار سنوات وجود الاتحاد السوفياتي ، لم يتم حل هذه القضايا بشكل كامل، ولكن العناصر الأساسية للنهج السوفييتي تمثلت في: تأسيس الأراضي القومية، وتعزيز اللغات والثقافات الوطنية، وسياسات العمل الإيجابي الواسعة. تباين التركيز على جوانب مختلفة من هذه السياسات بمرور الوقت وعبر المكان، ولكنه كان صحيحاً بشكل عام وعكس الأهداف الأوسع للثورة لرفع المستوى العام للمعيشة، مع دمج القوميات المضطهدة بشكل كبير، لا سيما في أوساط المثقفين العلميين والتقنيين. وكما أشارت إحدى الدراسات التي تناولت هذه القضية من عام 1991: "كان نمو فرص التنقل هو الأعلى بين القوميات ذات المستويات الأدنى من التحصيل الاجتماعي والاقتصادي"(2). وعلى سبيل المثال، بحلول العام 1975، كان اليهود والجورجيون والأرمن والإستونيون والأذربيجانيون هم المجموعات الإثنية الخمس الأولى فيما يتعلق "بالمتخصصين ذوي التعليم العالي"(3). وكما يوضح الجدول أدناه، فإن المساواة بمرور الوقت تظهر الأولويات السوفيتية(4). وبالمثل، كانت القوميات الست الأولى من حيث الالتحاق بالتعليم العالي، في العام 1970، هي: الإستونية، والجورجية، والليتوانية، واللاتفية، والروسية، والكازاخية. و كان هناك في آسيا الوسطى السوفيتية، أو ما كان يمكن تسميتها، الجزء الأكثر تخلفاً من الإمبراطورية القيصرية، بحلول العام 1982، عدد من الأطباء لمجموع السكان أكبر من أي دولة غير شيوعية باستثناء إسرائيل وعدد طلاب الجامعات لمجموع السكان أكبر مما هو عليه الحال في دولة مثل اليابان، بالإضافة إلى نسبة أعلى من النساء(5). في القطب الشمالي السوفياتي، تم إنشاء أول نظام تعليمي حقيقي بحلول ثلاثينيات القرن الماضي، وبحلول العام 1975 التحق في إقليم تشوكشي القومي 99.1٪ من جميع أطفال السكان الأصليين بالمدرسة حتى المدرسة الثانوية(6). وفي العام 1978 ، كان هناك طبيب واحد من السكان الأصليين لكل 1000 شخص، بينما كان العدد في الولايات المتحدة في نفس العام عند حدود 16000 من السكان الأصليين(7). وكان في مولدافيا، قبل الحرب العالمية الثانية، شخص واحد يحمل درجة الدكتوراه ومع حلول الثمانينيات صاروا حوالي 2200. وازداد عدد الذين يشغلون وظائف مهنية وشبه مهنية في مولدوفا بنسبة 110٪ بين عامي 1959 و 1973 (8)، وبالمثل ، كان النمو السنوي للعاملين العلميين من عام 1950 إلى عام 1975 في 14 جمهورية من جمهوريات الاتحاد "غير الروسية" أعلى بنسبة 54٪ مما هو عليه الحال لدى الروس .
كانت أكبر ثلاث قوميات في الاتحاد السوفياتي -مع الأخذ في الاعتبار الهامش الكبير بينهم- هم الروس والأوكرانيين والبيلاروسيين. ومع بداية ستينيات القرن الماضي، كانت هذه القوميات الثلاثة تمتلك تمثيلاً ناقصاً عن غيرها من الثوميات الأصغر في مجلس السوفيات الأعلى -الهيئة التشريعية الوطنية الرئيسية- بينما كان الأوزبك والجورجيون والطاجيك والأذريون والأرمن والقرغيز والتركمان واللاتفيون والإستونيون والليتوانيون والكوميس، من بين آخرين، يمتلكون تمثيلا زائداً. وأشارت إحدى دراسات الميزانية السوفيتية لعام 1989 إلى أن سياسة الحكومة تميل نحو مبدأ إعادة التوزيع، حيث نقلت الدراسة كيف كانت ميزانية العام 1989 "تحول الأموال من الجمهوريات الأكثر تطوراً إلى الجمهوريات الأقل تطوراً" ، علاوة على ذلك ، "تلقت الجمهوريات الأقل نمواً معدلات استثمار أعلى من مستويات التنمية الاقتصادية التي يمكن توقعها في تلك الدول. وكان نصيب الفرد من الإنفاق على البرامج الصحية والتعليمية متساوياً نسبياً بين الجمهوريات "(10). مثال آخر، كانت أذربيجان تستورد، في العام 1920، جميع المنتجات تقريباً، باستثناء النفط. وبحلول عام 1958، صارت تصدر 120 سلعة صناعية مختلفة وتنتج كهرباء للفرد أكثر من إيطاليا وفرنسا، وفولاذ أكثر من اليابان وإيطاليا، بالإضافة إلى أن مصايد الأسماك فيها كانت أكبر من تلك التي في فرنسا(11).
علاوة على ذلك، كان للهيئة التشريعية الوطنية مستويين. بالإضافة إلى مجلس السوفيات الأعلى، كان هناك أيضاً سوفييت القوميات، الذي كان عليه الموافقة على جميع التشريعات ليصبح قانوناً. حتى لو كانت هذه الهيئة لا تعادل أكثر من "ختمٍ مطاطيٍ" كما يُزعم غالباً، فإن التوجه العام لسياسة القوميات يعكس بوضوح أن وجود طبقات متعددة من العمل الإيجابي والوصول إلى اللغة والارتقاء الاجتماعي يعكس أنهم كانوا يضعون "بصمتهم" على هيئة ختم مطاطي على السياسات العنصرية. وقد نقل أحد الكتاب قصة من لقاء -محادثة مع بروفيسور- ينتمي لشعب الغاغوز Gagauz في مولدافيا (بلغ عددهم نحو 125000 نسمة في العام 1977) الذين تم تأسيس أبجدية مكتوبة لهم في العهد السوفيتي. يقول البروفيسور: "لدينا فنانين وملحنين ولدينا كتابنا وشعراءنا : أولئك الذين يكتبون في الموضوعات الشعبية ... وأولئك الذين يجمعون فولكلورنا. ومن بين العلماء لدينا لغويون ومؤرخون. وتجري دراسة أنثروبولوجيا على شعل االغاغوز ... لدينا الرفيق غوبوغلو Guboglo في موسكو ". كما ينقل الكاتب: " أعترف بأني فوجئت حين علمت أن غوبوغلو هو من الغاغوز؛ لقد قمت بترجمة مقالات من كتابه إلى اللغة الإنجليزية.. باعتباره أحد علماء الأنثروبولوجيا الرائدين في الاتحاد السوفيتي، وهو رجل ينظّر في أمور تتعدى حدود قوميته، وهو ينتمي لشعب لم يكن لديه حتى أبجدية قبل نحو 20 عاماً"(12)، و يلاحظ المؤلف نفسه: "في داغستان ، المنطقة الجبلية السوفييتية الوعرة التي تقع شمال غرب إيران والتي لا يزيد عدد سكانها عن مليون ونصف شخص فقط، تُدرس المدرسة حالياً بتسع لغات.. ويقوم التدريس على مستوى الاتحاد السوفياتي ككل على 52 لغة مختلفة"(13). وفي مثال آخر، وفي محاولة لمعالجة انتشار الترويس في أوكرانيا، بذلت السلطات السوفيتية جهداً جباراً في "الأكرنة اللغوية" في عشرينيات القرن الماضي حيث انتظم مئات الآلاف من الأشخاص فعلياً في دورات لتعلم اللغة الأوكرانية. وفي العام 1923 ، كانت 37٪ من الصحف ناطقة باللغة الأوكرانية، وبحلول العام 1928 صارت النسبة 63٪. وكانت 54٪ من الكتب المطبوعة في أوكرانيا باللغة الأوكرانية في العام 1928، في حين لم تكن تتعدى نسبة 31٪ في العام 1923(14).
على صعيد آخر، أجرى السوفييت، في العام 1991، استفتاءً حول تقسيم البلاد، فكانت النتائج في روسيا، لا سيما لأغراض بحثنا هنا، أقل من جميع الدول ذات "القوميات المضطهدة". ففي جمهوريات آسيا الوسطى، صوت أكثر من 90٪ للإبقاء على الاتحاد، على سبيل المثال، مقابل 73٪ في روسيا. والجدير بالذكر أن المناطق القومية داخل الجمهورية الاشتراكية الروسية شهدت بشكل أساسي نسباً أعلى من المؤيدين للاتحاد السوفيتي من روسيا بشكل عام، حيث صوت 9 من أصل 16 بأكثر من 80٪ لصالح عدم تفكيك الاتحاد السوفيتي. وثمة هناك طريقة أخرى للنظر إلى هذا من خلال منظار الذاكرة التاريخية. ففي عام 2013 ، استطلعت مؤسسة غالوب آراء الناس في بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وسألتهم عما إذا كانوا يشعرون أن تفكك الاتحاد أصاب بالضرر بلدهم الحالي أكثر مما نفعهم. فكانت النسب المئوية الأكبر التي أقرت بالضرر تعود للأرمن والقرغيز والأوكرانيين أكثر من نسبة إجابة الروس، لتأتي طاجيكستان خلف روسيا بنسبة 3٪ فقط(16). كما أجريت في العام 2005 دراسة استقصائية في كازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، لسؤال الناس عما إذا كانوا يوافقون أو لا يوافقون على العبارة التالية: "استجابت الحكومة السوفيتية لاحتياجات المواطنين". وافق 82.4٪ من كازاخستان على أن الحكومة السوفيتية استجابت بالفعل لاحتياجات المواطنين، وكانت الإجابة بنعم لنحو 87٪ من القرغيز و 70.2٪ من الأوزبك(17). وفي في مقال لرويترز يعود للعام 2011 ، قال صاحب صالون تجميل قرغيزي يبلغ من العمر 46 عاماً : "الحنين السوفييتي يربط دول رابطة الدول المستقلة المتباينة": "ربما لم تكن أجورنا بهذه الجودة، وقد كرهت" الستار الحديدي "أكثر من كل شيء، ولكن كان هناك استقرار. كانت هناك جمهوريات شقيقة في الجوار ، وتشعر بكتف جارك يسند كتفك"(18). ويوضح في نفس المقالة، سايجون أرتيكوف، وهو جيولوجي متقاعد يبلغ من العمر 67 عاماً، ما يلي: "لقد حصلت على راتب جيد واشتريت شقة في دوشنبي، والآن نحن نكافح... من أجل البقاء." معتبرا أن: " منحني الاتحاد السوفياتي تعليماً من الدرجة الأولى، مجاناً دون أن أدفع مقابله"(19).
تغييرات صعبة
أثرت التناقضات المتفاوتة للنموذج السوفيتي بشدة على قضية القومية. شكلت قضايا الأرض وتوزيع الموارد واللغة، على وجه الخصوص، مصدر إزعاج للسوفييت. بينما كان يُنظر إلى "الدوافع القومية" على أنها دوافع طبيعية، لم يُنظر إليها على أنها جيدة بطبيعتها. كاشتراكيين، كان الحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي يتطلع إلى بناء مجتمع "أممي" يتماشى مع القيم الاشتراكية. حيث تفترض الماركسية أن القومية هي في نهاية المطاف من صنع الرأسمالية، وجزءً نضال الرأسماليين الصاعدين لإنشاء منطقة موحدة ومتميزة سياسياً لتسيير تجارتهم. إن عملية تعيين الحدود التي تتحد من خلالها اللغات والثقافات والميزات الطبيعية لإنشاء أنظمة عمل سلسة للشراء والبيع مع "أوزان ومقاييس" موحدة (المال والضرائب وما إلى ذلك) هي ما يمكن أن نطلق عليها عملية "بناء الأمة". وتسعى الاشتراكية، والشيوعية في نهاية المطاف، إلى تجاوز الرأسمالية من خلال، من بين أمور أخرى، إزالة هذه الحواجز المصطنعة لتسهيل استخدام "السوق العالمية" المترابطة بشدة لتلبية احتياجات الناس ورغباتهم بشكل ديمقراطي - بدلاً من خدمة الأهواء من الأرباح التي تجنيها حفنة صغيرة كما هو الحال في ظل الرأسمالية. وهكذا نظر السوفييت إلى مهمتهم في محو الاضطهاد القومي كجسر إلى دولة متعددة الجنسيات تجسد المبادئ الاشتراكية الأوسع. وهذا يعني وجود الضرورات المتزامنة، بشكل أساسي، لمحو الاضطهاد القومي والاحتفاء بالثقافات الوطنية ووضعها في ثقافة "اتحاد شامل" تقوم على النهوض الاقتصادي الجماعي للطبقة العاملة والفلاحين الذين يتحكمون الآن في موارد المجتمع. وعلى صعيد اللغة، خلق هذا بعض التحديات الواضحة. لقد جعل التاريخ الوحشي للقياصرة من اللغة الروسية اللغة المشتركة للسكان السوفييت في النطاق الأوسع. ومع ذلك، فُرضت هذه "الروسنة" من خلال وحشية الاضطراب الاقتصادي القيصري. كما ترافقت عملية الروسنة مع المفهوم الشوفيني باعتبار أن الثقافة الروسية تمثل "شكلاً أعلى من أشكال الحضارة" – تتعلق بالثقافة الحضرية الحديثة التي اندمج فيها العديد من أفراد الطبقة العاملة إلى حد ما. وهذه كانت قضية ذات أهمية أكبر بالنظر إلى أن أحد المجالات الرئيسية التي قفز فيها المجتمع إلى الأمام بعد الثورة كان يفتح العوالم الثقافية التقليدية للملايين الذين كانوا مقيدين من قبل بسبب الوضع الطبقي. وهذا يعني أنه يمكن أن تظهر مقاومة سلبية لسياسات اللغة الجديدة حتى بين الدول المضطهدة، بين العمال الحضريين على وجه الخصوص، الذين ربطوا اللغات الوطنية بالثقافة الريفية والرجعية للفلاحين في كثير من الأحيان.
غطى الاتحاد السوفييتي والإمبراطوريات السابقة لوجوده مساحة شاسعة، وكما ذكرنا سابقًا ، غالباً ما منح القيصر للمواطنين الروس المزيد من الأراضي ليستوطنوها بين ظهراني مختلف الشعوب القومية الأخرى المضطهدة. وخلقت هذه السياسة، عن قصد، مجموعة سكانية مفضلة من المستوطنين الذين غالباً ما كانوا يمتلكون مساحات من الأرض المتميزة. وقد أرست هذه السياسات الأساس لصراع حاد حول من ينتمي بحق ومن يمتلك السلطة السياسية. كما أدت أيضاً إلى ظهور أسئلة جادة حول الأرض كمورد، ومن ثم، من كان له الحق في أنكار حق من يعيش عليها فيما لو كان هذا يتعارض مع احتياجات التنمية. وإذن، كانت القضية التي رشحت إلى النقطة الأعمق حول كيفية توزيع الموارد المحدودة بالضبط هي أن الاتحاد السوفيتي كان يسابق الزمن للوصول إلى مستوى من التكافؤ التقريبي مع الغرب في كثير من النواحي كضمان ضد الغزو والإطاحة به من قبل تلك القوى المعادية نفسها. وسوف تشكل هذه القضية خطوط الصدع لسياسة القومية في الاتحاد السوفياتي. وفي نهاية المطاف تم حل جميع هذه العوائق من خلال الميل إلى جانب "الوحدة الشاملة" للأشياء أكثر من الميل إلى الجانب "القومي" للأشياء. وهذا كان يعني التصالح، إلى حد ما، مع عناصر "كل الاتحاد" الموجودة، والتي كانت في الأساس بقايا من شبه التجانس القسري في زمن القيصرية. أما فيما يتعلق باللغة، فقد كان هذا يعني في النهاية التراجع عن الجهود الطموحة في طلب استخدام لغات وطنية مختلفة، وقصرها إلى حد ما على المكان الأكثر جدوى: التعليم الابتدائي، والأنشطة الثقافية الوطنية، التي تم توسيعها وتعزيزها بشكل كبير، وحيث تم التبني الطوعي لقضية اللغة. مما يعني أن اللغة الروسية ظلت اللغة المهيمنة في الاتحاد، لكن اللغات الوطنية التي تم قمعها سابقاً كانت شائعة الاستخدام. ومن الواضح أن هذه المسألة مثلت خطوة كبيرة للأمام عما كان سائداً في العهد القيصري، وأدى إلى ازدهار أكثر بكثير من اللغات أكثر مما كان ممكناً في أي وقت مضى. ومع ذلك، عنى هذا أيضاً تصاعد هيمنة الثقافة "الروسية" إلى حد ما، حيث بقيت الروسية هي اللغة الرئيسية التي تدار بها الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحاسمة للبلد. فعلى سبيل المثال ، كان هذا يعني سهولة أن يكون تشايكوفسكي مشهوراً في طاجيكستان بدلاً من البحث عن أوبرا طاجيكية في موسكو. على الرغم من أن ذلك يعني أيضاً توسيع نطاق الأوبرا الطاجيكية في دوشنبي بشكل كبير. ومن منظور الأرض، فضلت الحقائق السياقية للأمر الواقع للاتحاد السوفييتي، في آخر الأمر، وضعاً أقل تعديلاً. وحتى العام 1927، أغلق السوفييت مساحات شاسعة من الأراضي، خاصة في آسيا الوسطى، في وجه قيام أي نوع من المستوطنات الجديدة. ومع ذلك، فقد أصبح هذا الأمر غير مقبول بناءً على الاعتبارات المتعلقة بالغذاء والتنمية الاقتصادية والأمن القومي.
يتمثل أساس السيادة في العالم الإمبريالي الحديث، في السيطرة على ما نأكله. والدول التي لا تستطيع إطعام نفسها دائماً ما تكون في وضع غير مؤات. وقد احتوت العديد من الأراضي القومية على أراضٍ تتجاوز بكثير ما يمكن تصوره ببساطة عن تلك الأراضي الموجودة فعلياً. وحتى في البيئات الريفية الأكثر كثافة، كان المستوطنون يسكنون في بعض الأحيان الأراضي الأكثر إنتاجية. بالإضافة إلى ذلك، أراد السوفييت، بتردد ومن ثم بتسارع قسري، تغيير هيكل الزراعة بعيداً عن الملكيات الكبيرة وتفتيت المزارع الصغيرة واستبدالها بقطاع تعاوني وجماعي. وهذا يعني تعارض هذه الضرورات التي أدخلتها هذه القضايا المختلفة فيما بينها بسهولة. فأولاً: إذا كان من الممكن رفع المستوى العام لإنتاج الغذاء للبلد بأكمله من خلال وجود عدد أكبر من الأشخاص "س" في المكان "ص"، فهذه ضرورة استراتيجية -وتعني ضمان التنمية والتوزيع العادل- وقد ينتهي الأمر إلى تعزيز التغييرات الديموغرافية لصالح قومية واحدة على أخرى. غير أنه قد تنشأ قضية مماثلة، على سبيل المثال، إذا كانت منطقة من أوكرانيا يبلغ عدد سكانها حوالي 45 ٪ من أصل ألماني، وقبل الثورة كان السكان يسيطرون على 75 ٪ من الأرض، ولكن أثناء التجميع الجماعي، تبنى الألمان سياسات جماعية بسرعة أكبر. قد يعني هذا أن يستمر وضع استحواذ الألمان على أفضل الأراضي. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كان الدمار الشامل الذي وجهته آلة الحرب النازية ضد الاتحاد السوفيتي يعني أن الطريقة الوحيدة لإحياء الإنتاج حقاً هي "فتح" أراضٍ جديدة، الأمر الذي قد يؤدي بالطبع إلى تفاقم التوترات التاريخية. أو قد يكون لدينا وضع يكون فيه سكان معينون بالقرب من حدود أو مورد طبيعي رئيسي حيث تمثل المخططات الإمبريالية خطراً خاصاً على الأمن القومي الأوسع للاتحاد السوفييتي تتطلب سياسات خاصة لضمان عدم استغلال هذه القضايا. هذه القضايا المختلفة المتعلقة باستخدام الأراضي هي أساس العديد من السياسات الأكثر وحشية التي تم تنفيذها ضد أجزاء من، أو كامل، السكان الوطنيين في عهد ستالين. وغالباً ما أصبحت الموضوعات القومية نقاط تجمع لمختلف المظالم وخاصة عندما يتعلق الأمر بمصالح الأمن القومي المتصورة التي أدت إلى عقوبات جماعية مثل عمليات الترحيل الجماعي. ومما لا شك فيه أن العديد من هذه الأفعال حدثت بدون مبرر ، ولكن غالباً ما يتم تصويرها بشكل خاطئ على أنها "معادية للوطن" عندما كانت القومية شأناً ثانوياً بالفعل. تم استهداف الشعوب لأنه كان يُنظر إليها على أنها معارضة لهدف معين من أهداف القيادة. وهذا الأمر صحيحاً على صعيد الموارد، كما لاحظ البعض أنه لم يكن هناك أي آلية "رسمية" لتوجيه نسبة معينة من الموارد القومية إلى الدول المضطهدة. من ناحية أخرى، غالباً ما كانت هناك رسوم لمرة واحدة في الميزانيات السنوية لمعالجة هذه القضايا، وكما يظهر السجل العام، فإن التوجه العام للسياسة السوفيتية يعني أن الاستثمار في الدول القومية المضطهدة المختلفة غالباً ما يساوي أو أكبر من تلك الموجودة في روسيا على أساس نسبي. في الواقع، لاحظ العلماء على نطاق واسع أن عدم الرضا بين الروس لأنهم كانوا محرومين مقارنة بالجنسيات المختلفة كان عاملاً رئيسياً في دفع المشاعر المعادية للسوفييت. وبالمثل ، أدى الاتجاه العام نحو المساواة إلى مزيد من التنافس بين النخب الوطنية التي تم تمكينها حديثاً من وضع يدها على الموارد التي لا تزال نادرة نسبياً في الاتحاد السوفيتي. ومن المفارقات إذن أن نجاح السوفييت في تخفيف القمع القومي بدأ في خلق توترات جديدة على أسس وطنية ساهمت في انهيار الاتحاد السوفيتي.
نحو مستقبل اشتراكي
جميع القضايا المختلفة المذكورة هنا تستحق بالطبع مناقشة أكمل. ومع ذلك، من الممكن استخلاص بعض الاستنتاجات العامة:
-أولاً ، شرع الاتحاد السوفييتي في بناء أعظم تجربة عرفها العالم على الإطلاق لتجميع الشعوب معاً عبر الحدود القومية بهدف النهوض الجماعي. فقضوا على نمط المذابح السائد " البوغروم"، وسمحوا للعديد من اللغات بالنمو والازدهار، ووضعوا موارد حقيقية وراء الترويج للثقافات الوطنية وجعلوا من الأولويات القومية العليا وضع الناس من تلك الدول القومية المضطهدة سابقاً في مواقع النفوذ والسلطة.
-ثانياً، لقد قاموا بكل ذلك في سياق رفع مستويات المعيشة للبلد بأسره بدرجات أعلى بكثير مما كانت عليه في العصور القيصرية، وأعلى بكثير من كل دولة من دول العالم النامي، وحققوا تكافؤاً تقريبياً مع الدول الأكثر تقدماً على وجه الأرض بسرعة ملحوظة. .
وفي هذا السياق، يجب النظر إلى عجز السوفييتات عن القضاء التام على العداء القومي من منظور مختلف. وفي النهاية، ما مدى احتمالية نجاحهم في تحقيق هذا الهدف في غياب تحول أوسع على المستوى العالمي؟ إن آلاف السنين من القمع القومي المرتبطة بالحقائق المادية للتطور الرأسمالي والملكية الإقطاعية للأرض لن تنهار قط فيما كانت، في نهاية المطاف، مجرد تجربة امتدت بضعة عقود بالمعنى التاريخي.
علاوة على ذلك، وفي سياق حملة واسعة من قبل أقوى دولة في العالم لتدمير الاتحاد السوفيتي، كيف يمكن ألا يتعرض الاتحاد السوفيتي لتشوهات مفروضة عليه من أجل بقائه؟ هذا من شأنه أن يؤثر أيضاً على العناصر السياسة من الاجتماعية إلى القومية. ولا يتعلق الأمر في السياسات القومية فحسب، بل أيضاً في القضايا المتعلقة بكل شيء.. من حقوق المرأة إلى الأجور، تراجعت السياسة السوفيتية عن السياسات الرائدة (للعالم بأسره) لتعزيز إحساس أكبر بالوحدة الوطنية حول المشروع الاشتراكي أو لحل المشاكل العملية بالطرق القديمة عندما تتعرض الأساليب التجريبية إلى مخاطر الخسارة أكثر مما يمكن أن تجنيه من ربح.
تؤكد الحرب في أوكرانيا مدى مأساوية الانهيار السوفياتي، على الرغم من كل التحديات والمشاكل. لقد أفسحت التعددية الثقافية القومية للسوفييتات التي كانت قائمة الطريق لأجندة محصلتها صفر للقوميين أصحاب التوجهات الرأسمالية من جميع الجوانب. ولدى هذه الطبقات الحاكمة في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي كل الأسباب للضغط على المطالب (وليس جميعها بدون مبرر) التي تكسبها أراضٍ، وفي النهاية مساحة لتأمين أرباحها بالمعنى التجاري الفعلي أو فيما يتعلق بوحدة أراضيها.
قتل 27 مليون مواطن سوفييتي من جميع القوميات في الحرب العالمية الثانية. على الرغم من المحاولات القوية من قبل النازيين لاستخدام القومية كسلاح مضاد للشيوعية، إلا أنهم فشلوا وقامت الوحدة الاشتراكية متعددة الجنسيات بدعم آلة الحرب السوفيتية لتحقيق النصر – هذا النصر الذي شكل بداية دفن مناهضة العنصرية من خلال القضاء على النازية. لقد انهارت الوحدة الاشتراكية وتحولت إلى بربرية رأسمالية، ولا ينبغي أن تكون هذه مفاجأة. إنه في الواقع ما تنبأت به القوى الشيوعية الحقيقية في الاتحاد السوفيتي دائماً أن هذا ما سوف يحدث في حالة انهيار البلاد. من المهم الآن أكثر من أي وقت مضى أن نتذكر المثال الساطع للاتحاد السوفيتي في مواجهة الكراهية والتعصب وكراهية الأجانب، بينما نبحث عن طرق جديدة لمستقبل أكثر سلاماً واستدامة واشتراكية.
....
العنوان الأصلي: Nations and Soviets: The National Question in the USSR
المؤلف: Eugene Puryear
المصدر: https://www.liberationschool.org/nations-and-soviets-the-national-question-in-the-ussr/

المراجع
[1] Mandel, W. (1985). Soviet But Not Russian: The ‘Other’ People’s of the Soviet -union- (Ramparts Press), 40-42.
[2] Roeder, P. G. (1991). Soviet Federalism and Ethnic Mobilization (World Politics). Available here.
[3] Ibid.
[4] Ibid.
[5] Mandel, W. (1985). Soviet But Not Russian: The ‘Other’ People’s of the Soviet -union- (Ramparts Press), 133.
[6] Ibid., 157.
[7] Ibid., 160.
[8] Ibid., 108.
[9] Roeder, P. G. (1991). Soviet Federalism and Ethnic Mobilization (World Politics). Available here.
[10] Ibid.
[11] Iskenderov, M. (1959). Azerbaijan: A Land in Bloom (7 Stupendous Programme). Available here.
[12] Mandel, W. (1985). Soviet But Not Russian: The ‘Other’ People’s of the Soviet -union- (Ramparts Press), 18.
[13] Ibid., 22-23.
[14] Martin, T. (2001). Affirmative Action Empire: Nations and Nationalism in the Soviet -union-, 1923–1939 (Cornell University Press), 92-93.
[15] 1991 Soviet -union- Referendum. Wikipedia. Retrieved June 6, 2022. Available here.
[16] Esipova, N. & Ray, J. (2013). Former Soviet Countries See More Harm From Breakup (Gallup). Available here.
[17] McMann, K. M. (2005). Central Asians and the State: Nostalgia for the Soviet Era (NCEER). Available here.
[18] Solovyov, D. (2011). Soviet nostalgia binds divergent CIS states (Reuters). Available here.
[19] Ibid.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رداً على روسيا: بولندا تعلن استعدادها لاستضافة نووي الناتو |


.. طهران تهدد بمحو إسرائيل إذا هاجمت الأراضي الإيرانية، فهل يتج




.. «حزب الله» يشن أعمق هجوم داخل إسرائيل بعد مقتل اثنين من عناص


.. 200 يوم على حرب غزة.. ومئات الجثث في اكتشاف مقابر جماعية | #




.. إسرائيل تخسر وحماس تفشل.. 200 يوم من الدمار والموت والجوع في