الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطار آخن 6

علي دريوسي

2022 / 9 / 21
الادب والفن


وصل القطار إلى محطة مدينة "مورس"، كان الجو عاصفاً، نزلا من القطار، أحاطت ذراعه اليسرى بيدها اليمنى، ضغطت عليها برفق، شعر بالخوف من القادم. خرجا من المحطة وتوجها إلى محطة الباص، وقفا يحتميان من شراهة السماء، نظرت إلى مواعيد رحلات الباص، قالت: سيأتي الباص بعد بضع دقائق، أسند إبراهيم حقيبة ملابسه وكيس المشتريات على مقعد الانتظار، فتحت سابينة حقيبتها اليدوية، حقيبة أسرارها، أخرجت شيئاً وحشرته في جيب سترته، همست: الطقس بارد، أشعلْ لنا سيجارتين. مدّ يده إلى جيبه وأخرج ما وضعته فيه، لم تدهشه علبة غارغويل الأنيقة بلونها البني الممزوج باللون الخمري. فتحها بهدوء، وضع سيجارتين بين شفتيه وأشعلهما، احترقتا جزئياً، من طرفٍ واحد، سحب منهما نفساً ثم قدّم لها نصيبها من العشق. شعر بأنفاسها الساخنة تقترب من وجنتيه، نفخت دخان سيجارتها بوجهه ثم قبضت على شفتيه.
همست بأُذنه: لشهوة الرجال رائحة لا تخطئها النساء، سأطبخكَ هذه الليلة، سأحيلك أشلاء. ثم أضافت وهي تغمزه بعينيها الجميلتين: ستفرح ضيفتي في البيت لرؤياك.
**
لم يقل شيئاً إنما خاطب نفسه: هل يعقل أن تأكلانني الليلة هاتين المرأتين! أتراهما من آكلةِ لحوم البشر؟
وجدَ نفسه يحمل رأسه في يده اليسرى وينظر إليه، شعر كمن يذهب للفناء بقدميه وكامل طواعيته، تخيّل نفسه بجسدٍ مقطّع، شاهدهما تطبخانه، تتذوقانه، سمعهما تشكرانه لتبرعه بطعام المساء. رغبتهما بتقطيعه وطبخه ليست مستبعدة، يحدث في هذا العالم أن يطبخ الصديق صديقه من شدة الوفاء للصداقة أو حتى الحبيبة حبييها من شدة الوفاء للحب.
كان إبراهيم قد قرأ قبل بضعة أيام في إحدى المجلات الألمانية أن رجلاً قارب الستين من العمر، سبق له أن كان متزوجاً ولديه طفلة في العشرين من عمرها، يعيش في مدينة درسدن، عقد اتفاقاً غريباً مع رجل من مدينة هانوفر لتقطيع جسده وطبخ الرأس في طنجرة وتركه يغلي في المرق ثم ليأكله لاحقاً، وقد وافق الرجل الهانوفري على الاتفاق طواعية.
هذا حدث ويحدث وسيحدث في الشرق والغرب على حد سواء. ألم تُغتصب ـ على سبيل المثال ـ "ليلى بنت سنان" بينما كان رأس زوجها الشاعر "مالك بن نويرة التميمي" يغلي في طنجرة أمام عينيها!
أعادته سابينه من يَمّ خيالاته: أين رحلتَ!؟ اِقترب مني أكثر، أرغب بشمك، لك رائحة لا تتكرر، لا تدع النساء تقربك لدائرة قطرها عشرة أمتار، ولا تثر غيرتي، لأنني كلي غيرة عليك، ها أنا اُحذرك.
بقي إبراهيم صامتاً حائراً، هبت ريح باردة، اِقشَعَرَّ بدنه، دنا بجسده منها، عانقها، ضمها بقوة كمن يريد الدخول إلى أحشائها، بلغ اللذة في سرواله، وصل الباص، تنهد مرتاحاً ودمدم: أخيراً وصل الباص.
**
صعدا إلى الباص من الباب الأمامي، ابتسم لها السائق، قال لها شيئاً، ابتسمت له وأجابته على الشيء الذي قاله بشيء مشابه، لم يفهم عليهما، لعل الكلمات لم تصله واضحة، أغاظته الابتسامات المتبادلة، والكلمات التي لم يفهمها، يبدو أنها تعرف هذا السائق الغليظ جيداً، دفعت له نقوداً واشترت بطاقتي سفر، جلسا في مقعدين متقابلين، كجلستهما في اللقاء الأول في قطار آخن.
همس بخجل: متشوق لرؤية منزلك.
أجابت بطريقة لا تدعه يسأل ثانية: أنا إمرأة بسيطة، لا مال لي، وشقتي متواضعة، بالكاد تكفيني.
نظر أسفلاً، إلى قدميها، إلى حذائها الشتوي المسطح، أمعن النظر كأنه يكتشف بين قدميها زهرة برية، سألها ليداري إحراجه: لماذا لم تكن الأحذية المسطحة قضية في عالم الموضة حتى الآن؟
أجابت ضاحكة، وكأنها تضحك للسائق وتتآمر معه على مرافقها الضائع في حذائها، أجابته وكأنها الإيطالية فيرا جوستي مصممة الأحذية الأنثوية المسطحة: الجواب بسيط جداً يا إبراهيم، معظم مصممي الأحذية النسائية في الماضي هم رجال، لديهم تصور خيالي سيكسي فريد عن النساء، تصورهم هذا مرتبط في كثير من الأحيان بالحذاء ذي الكعب العالي والرفيع، أما اليوم ولحسن حظنا فإن عدد المصممات الإناث بازدياد، إنهن يفهمن الموضة بطريقة مختلفة، أحذية مريحة وأنثوية مثيرة في الوقت ذاته، ولا تناقض في هذه المعادلة. أترى أنّ حذائي مثير!؟
**
في منطقة نائية، مظلمة ومهجورة إلا من بقايا غموض، أنزلهما الباص في المحطةِ الأخيرة، ودعها السائق بكلمات مبهمة وختمها بابتسامة ساخرة، مشيا في الطريق الموصل لمنزلها، بعد دقائق من المشي، وصلا إلى نهاية شارعٍ غريب الأطوار، على طرفه ثمة بناية من أربعة طوابق، تحيط بها حديقة تسوّرها أشجار عالية، اقتربا أكثر، بدت البناية المظلمة وكأنها غير مسكونة وغير صالحة للسكن مثل كتلة "بيتون" سقطت في العتمة، دخلا من باب الحديقة، أُضيء المدخل. ما إن أغلقا باب البناية خلفهما، حتى شعر بحرارة الجوّ، لفتت انتباهه نظافة أرضية الردهة والجدران، الإضاءة مريحة، طلبت سابينه المصعد، في الطابق الرابع توقف المصعد النظيف جداً، ردهة الطابق واسعة بسقف زجاجي وبابين خشبيين عريضين، في إحدى الزوايا خزانة أحذية، بجانبها علّاقة جميلة للملابس، على الجدران توزعت أربع لوحات ملونة بطريقة فنية، في أسفل كل لوحة أصيص للنباتات الخضراء، آنقه المنظر.
قالت سابينه بصوت تلفزيوني: تفضل إبراهيم، هذه هي شقتي.
وكالأبله سألها: في اليسار أم في اليمين؟ وأشار إلى البابين حائراً.
ردت: لا فرق، الطابق بكامله هو بيتي الوديع.
**








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة