الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقيقة وفلسفة السؤال ح2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 9 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن التمسك بحق السؤال هو تمسك منطقي وحق وجودي لا تحده ظاهرة ولا ينفيه حق أخر مهما أمتلك من مبرر وقوة ونفوذ، وسيبقى السؤال هو البوابة التي منها يبدأ البحث عن الحقيقية التي فشل الكثيرون في حتى محاولة تلمس طريق الوصول لها، أما بدافع فكري أو معرفي يطرح بديلا أو يتبنى موقفا مغايرا من فلسفة السؤال، إن الإنسان الساعي للكمال البشري والتطور والرقي والسمو لا يمكن أن يكون كذلك ما لم يختار منهج السؤال كحق وكواجب وجودي، فلا طريق أخر يمكن أن يأخذنا للحقيقية ولا ممر أمن يمكن أن يسهل لنا الأستدلال والوصول غير المضي بالسؤال الأول وأنتهاء بالسؤال الأخير الذي ما بعده سؤال.
السؤال في فلسفة المعرفة يشكل للعقل البشري الباعث الأهم ليس فقط على مستوى الإدراك والفهم ولكن على مستوى صنع الأدوات اللازمة لهما، في قصة المغامرة تاريخيا كان الإنسان الأول يرى الماء أمامه بحرا كان أو نهرا، يتأمله وبرغب في معرفة كيف يمكن له أن يدخل عالم الماء دون خوف، كان تفكيره مجردا من أدوات ولا تجربة سابقة، ولكن حينما رأى بعض الحيوانات تمخر الماء وتدخل وتخرج دون أن تفقد حياتها سأل نفسه سؤال المكتشف الأول، هل بإمكاني أن أفعل ذلك؟ ماذا يمكن أن يكون تحت الماء وبقصد قعر النهر أو البحر؟ ماذا يوجد في الماء أصلا؟ سلسلة طويلة من الأسئلة يطرحها يوميا دون الحصول على الجواب، وعندما قرر أن يبدأ التجربة بالمغامرة دخل أول قدم له في الماء ثم تبعها بالثانية وهكذا عرف أن الماء تحته أرض ولكنها لا يعرف أكثر من حدود ما قاسته التجربة من معلومة ومعرفة.
كرر السؤال هذه المرة ولكن تغير نمط التفكير لديه، هل يكون ما تحت الماء متقارب أي لا يمكن أن يكون قعر النهر أو البحر أكثر بعدا مما في تجربته الأولى، حاول أن ينزل للماء مكررا التجربة ولكن هذه المرة لمسافة أبعد، احد المغامرين فشل وربما غرق بينما الأخر الذي كان يترقب فر مسرعا الى الجرف هاربا من وحش الماء، تصور حينئذ أن هناك كائن ما بشكل ما هو من أبتلع رفيقه سماه حارس الماء وظل ردحا من الزن يخشى التقرب كثيرا من الماء خوقا من الوحش أو الحارس حتى أنه ظن أن من يفعل ذلك اكبر من أن يكون وحشا أو حارسا، ربما إله يحمي مملكته من أختراق البشر لها، وحتى يتصالح معه ومع كثرة ما رأى من أثار الماء أو البحر أو النهر قدم له قرابين ونذور وهدايا كي لا ينزعج إله المياه، هكذا بدأ السؤال وأنتهى بمأساة للإنسان توجها بإيجاد معبود جديد يضاف لسلسة الآلهة الذين يحكمون حياته في كل الزوايا.
ومع ما جرة ونتيجة التجربة بقي الإنسان يعيش داخل عقله يفكر ربما يستطيع أن يتفاهم مع هذا الإله وربما قد يساعده على التجربة والمغامرة لو أحسن الفهم والتدبير وتوجيه السؤال، هنا عاد الإنسان الأول لنفس المفتاح الأول وهو السؤال وتكرار السؤال من أجل أن لا يبقى خائفا يترقب، إذا مبعث السؤال هنا الخوف وربما يأت الفضول بعد ذلك، لكن حرفة السؤال لم تنتهي أبدا وظل مراقبا للمياه يريد أن يعرف مفتاحا واحدا على الأقل يمنحه القدرة على المضي بترجمة السؤال تجربة، في ليلة عاصفة ربما لم يدرك نتائجها السابقة عندما حدث مرات ومرات من قبل لأنه كان في وقتها بعيدا عن السؤال، رأي بعض الأشجار الطافية على سطح الماء، ربما تكون خضراء سقطت نتيجة العاصفة أو ربما كانت أشجار يابسة أقتلعتها الريح ورمت بها في الماء، تطلع لها بعمق وسأل سؤال أخر، لماذا الشجر لا يغرق؟ أو يلتهمه وحش الماء أو ينتقم منه ألهة البحر؟ ظل يساير الشجرة الطافية لمسافات بعيدة أتضح له في نهايتها أن الخشب لا يخشى غضب الآلهة، وعليه إذا أراد أن يركب البحر فليس له وسيلة غير الخشب.
لم يكن متأكدا من هذا الأكتشاف ولكنه مبهور به لا يستطيع ان يجربه ولا يستطيع ترك ملاحظاته التي فهمها بكل بساطة، سؤاله هنا كيف لي أن أركب الشجرة فوق الماء؟ لا بد لي من الدخول له أولا، لا بد من أن تهب ريح قوية لتقلع لي شجرة وتقذف بها في الماء حتى أتمكن منها، هكذا هي أفتراضاته وهكذا كان تصوره الأول لا بد من محاكاة الطبيعة بكل تفاصيلها وما شاهد من أحداث نقلته من موقع السؤال الى موقع الرغبة في التجريب، هذه هي القيمة الجوهرية للسؤال أن تضعك على سكة التجريب وتحاول أن ترسم الفكرة مجددا بيدك، في لحظة ما شاهد حيوانا من حيوانات الغابة التي يعرفها فوق لوح خشبي أو شجرة طافية يحالوا أن ينقذ نفسه من الغرق، شاهد أيضا حيوانا أخر متمسك بشجرة أو جزء منها ويسبح في الماء بأتجاه الشاطئ، وشاهد أيضا حيوان ربما يكون كلبا أو فأر يسبح بحرية في الماء دون شجرة ولا خشبة، هنا وقع عليه المشهد كالصاعقة، "ليس ما يخشاه هو من الماء سببه بفعل الآلهة أو وحش ساكن تحت، إنها المعرفة إذا كيف تتعامل مع الماء كي لا تغرق".
لقد لعب السؤال هنا اكثر من مهمة على صعيد صناعة المعرفة أنتاجها تداولها خلق الظروف التي تنمي المشاركة في السؤال، والأهم من ذلك أجبر العقل على أن يطور من وسائل البحث وأن لا يضعها كلها في خانة النقل من الطبيعة، عندما عرف أن الشجر والخشب من مفاتيح التغلب على الآلهة أو ربما تقيه شرها عرف أيضا أن الشجر والخشب يمكن أن يكونا له شريكا موثوقا بالتجربة، لذا حرص أن يفهم أولا لماذا لا يغرق الخشب بينما تغرق الأشياء الأخرى؟ هذا سؤال جديد وربما وراءه مفاتيح أخرى، ركب جذع شجرة وحاول النزول فيها للماء كاد أو يكاد أن ينجح لولا أن الجذع نزل كثيرا داخل الماء بفعل ثقل جسد المغامر، فخرج مهزوما خائفا وطن أن الآلهة لم ترغب به، أو أن الشجرة لم تحميه جيدا، المهم خرج من هذه التجربة ليعود لسؤالاته القديمة، لماذا غرق الخشب وانا فوقه؟ بينما طفى حينما تخليت عن المحاولة؟ إذا الخشب من طبعه أن يطفو على الماء والإنسان من طبعه أن يغرق في الماء، هنا ورد سؤال أخر، ماذا لو تمسكت بالخشبة وانا في الماء دون أن أركبها؟ تجربة جديدة أفادته أن الخشب ممكن أن يساعد بهذه الطريقة من العوم وينجيك من الغرق.
جربها مرة وأثنان وكرر التجربة أكثر من مرة فتبين له أنه كان موفقا بأستدلالاته خاصة عندما تكون الشجرة أو الخشبة بحجم بساعد فعلا على حمل جسده، لذا أصبحت عنده قاعدة وهي " كلما كبر الخشب أو مقطع الشجرة تكون فرصته أفضل في العوم والنجاة" هذه القاعدة باقية لليوم وتتعلق بعدة مواضيع منها قاعدة النسبة والتناسب المنطقية، بهذا السؤال أسس الإنسان الأول ما تراكم من خبرة أوصلته وبمراحل زمنية وتجارب متواصلة أن يكتشف وبالتسلسل "أن كبر قاعدة الخشب على وجه الماء هي المسئولة عن القدرة على الحمل"، لذا بادر إلى توسيع هذه القاعدة بربط مجموعة من الأشجار معا لتكون له أول قارب بدائي أستطاع به الشعور بالأنتصار على ألهة الماء ووحشه، ليصل لاحقا ليصنع حاملة الطائرات الحربية التي تساوي مساحة إحداها أكبر من الغابة التي عاش فيها أول مرة، وتحمل عددا كبيرا من الأشخاص أكثر من تعداد الجنس البشري يوم فكر بالسؤال الأول قبل بضعة ألاف من السنين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي