الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية اجتماعية-ثقافية لنشوء الدولة العراقية، القسم الأول

فراس ناجي
باحث و ناشط مدني

(Firas Naji)

2022 / 9 / 24
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


مقدمة

فيما تمر في هذه الأوقات الذكرى المئوية لتأسيس الدولة العراقية، لايزال تاريخ العراق الحديث خاصة فيما يتعلق بنشوء الدولة يشوبه ارتباك واضح، بما يتجاوز الحواجز الأيديولوجية أو الفكرية. فمثلا، يمكن ان يتبنى أطروحة الدولة المصطنعة لنشوء العراق الحديث أطراف متضادة سياسيا وفكريا كبعض الباحثين من ذوي التوجهات الماركسية أو اخرين متأثرين بمنهجية "مركزية أوروبا" – باعتبار الحضارة الاوربية هي المعيار والمرجعية الفكرية للحضارة الإنسانية – أو منظري الإسلام الجهادي (بدلالة اعلان داعش سقوط حقبة سايكس-بيكو عند ازالتها علامات الحدود "المصطنعة" بين سوريا والعراق في 2014). ومما زاد في هذا الارتباك هو تغير السردية الوطنية لنشوء الدولة العراقية بتغير الأنظمة الحاكمة، بالإضافة الى تصاعد صراع الهويات في العراق خاصة بعد 2003 بحيث انقسم العراق فعليا خلال 2014 - 2017 الى ثلاث دويلات شيعية وسنية وكردية، ما أدّى الى تعاظم الجدلية حول ديمومة وحدة العراق مقابل تقسيمه كحل لعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي المزمن فيه.

لكن في المقابل، هناك دراسات اكاديمية تتبنى المنظور الجامع للمجتمع العراقي والتي تعتبر ان الانقسامات الهوياتية بين مجاميع العراقيين هي غير متجذرة بصورة عمودية على مدى القرن الماضي من عمر العراق الحديث، بل ان غالبية مهمة من العراقيين – على اختلاف ولاءاتهم وتنوع هوياتهم الفرعية – لهم ارتباط وثيق بالعراق كوطن مشترك. حيث يستند هذا المنظور على تجليات الهوية الوطنية العراقية الجامعة في الاربعينيات والخمسينيات التي أقصت الانقسامات المكوناتية الى الهامش، بالإضافة الى دراسات استبيان متعددة بعد 2003 (Wing, 2008 و Teti & Abbot, 2016 و جبر، 2008) كما ان انبثاق الاحتجاجات الشعبية الشبابية في تشرين الأول 2019 أظهرت بداية الافول في سيادة المفهوم المكوناتي في المجتمع العراقي وتصاعد مفهوم وطني بديل يستند على محاربة المحاصصة المكوناتية وبناء هوية وطنية جامعة عابرة للانتماءات الفرعية وتعتز بالعراق وطناً أصيلاً للعيش المشترك.

وإذ ان هذه المقالة تحاول الإجابة على السؤال المركزي وهو فيما اذا كان نشوء الدولة العراقية الحديثة حدثا مصطنعا شرع به المستعمر البريطاني بعد احتلاله للعراق خلال الحرب العالمية الأولى، الا ان التصدي لهذا الموضوع لا يستوفي ان يكون مبسطا. فحتى لو قدمنا الدلائل والبراهين على العمق التاريخي للدولة العراقية وان نشوئها لم يكن بمبادرة بريطانية من العدم من اجل تحقيق مصالحها الخاصة، فلا يلغي هذا أهمية الصراع الاجتماعي والسياسي الدامي بين العراقيين خلال القرن الماضي من عمر الدولة العراقية، ولا يقدم أطروحة جديدة يمكن ان تساعد في فهم التحديات التي تشكلها تعددية المجتمع العراقي والصراعات فيه، على ديمومة دولته الوطنية واستقرارها.

من هذا المنطلق تسعى هذه المقالة الى دراسة نقدية لجدلية نشوء الدولة العراقية عبر نقد المقاربات النظرية لمختلف الرؤى الاكاديمية حول الموضوع ومحاولة تأسيس رؤية فكرية بديلة تتبنى اطار نظري متعدد المفاهيم يستند على ادبيات العلوم الاجتماعية المتعددة الاختصاصات. حيث يتم مقاربة نشوء الدولة العراقية في هذا الاطار عبر جدلية البناء والتفكك كعملية صيرورة مستمرة من حقبة ما قبل الحداثة بنظمها التقليدية نحو الدخول في العصر الحديث الذي يتميز بنظم بديلة تشمل نشوء الأمم والدول الوطنية ومفاهيم جديدة مثل المواطنة والدستور والعملية الديمقراطية. فتشمل صيرورة البناء تطور الوعي المجتمعي والانتماء الوطني والممارسة السياسية لينتج عنها نزعة وطنية عراقية بدأت في التعبير عن نفسها في مقاومة الغزو البريطاني ثم تطورت خلال ثورة العشرين وتعززت من خلال تشكيل الدولة وبناء الهوية الوطنية الجامعة، بينما تتضمن ديناميات التفكك الصراعات الناجمة عن ثنائية البداوة والحضارة، ومقاومة فرض السلطة المركزية على أرجاء الدولة، والتفاوت الطبقي، بالإضافة الى تنازع الهويات في المجتمع العراقي التعددي.

ستقدم هذه المقالة أولا مراجعة نقدية للأطر النظرية لأهم الدراسات المتعلقة بنشوء الدولة وتطور النزعة الوطنية في العراق، ثم يتم عرض الاطار النظري البديل المستند على الصيرورة التاريخية لنشوء الدولة العراقية والذي يأخذ في الاعتبار حالة المجتمع العراقي المختلفة عن تلك التي مرت بها الدول الغربية والتي تستند عليها اغلب المقاربات التقليدية لنشوء الأمم والنزعة القومية. حيث سيتم التركيز على تقديم الدلائل لتبيين ديناميات البناء الوطني في الفترة التي سبقت تأسيس الدولة العراقية وكيف ارتبطت هذه الديناميات بهذا التأسيس، حيث ستعتمد منهجية هذه الدراسة في المقام الأول على المصادر الأولية للنتاج الثقافي للعراقيين في الفترة المعنية لدعم المصادر الثانوية الموثوقة للمعلومات والتي يتم تحليلها ثم البناء عليها لتشكيل رؤية الدراسة ومعالجة سؤال المقالة والمواضيع المتعلقة الأخرى.

أدبيات نشوء الدولة العراقية ومقارباتها النظرية

يمكن بصورة عامة تمييز موقفين للدراسات بالنسبة الى طبيعة نشوء الدولة العراقية الحديثة: الأول يعتبر الدولة العراقية مصطنعة من فعل المستعمر البريطاني خدمة لمصالحه، بينما الآخر يعتبر هذا الحدث محطة في صيرورة تحديث مستمرة مّر بها المجتمع العراقي القديم عبر دخوله الى العصر الحديث. فتعتمد فرضية الدولة العراقية المصطنعة على محاولة محاكاة الأطر النظرية التقليدية لنشوء الأمم، فقد اعتبر ارنست غيلنر وهو من أبرز التحديثيين Modernists، ان مفهومي الأمة والنزعة القومية مرتبطان بالتطور من مرحلة المجتمع التقليدي الزراعي-الاقطاعي الى المجتمع الصناعي الحديث. حيث شدد على أهمية التجانس الثقافي كضرورة موضوعية ملازمة للنزعة القومية ومعتبرا النزعة القومية كمبدأ سياسي يؤسس لوحدة سياسية ووطنية منسجمة ومتطابقة تتطلب ان لا تتقاطع الحدود الأثنية مع الحدود السياسية (Gellner, 1983, p.1-7).
ومع ان انتوني سميث – وهو ابرز منظري الأثنية الرمزية Ethnosymbolism – لا يختلف مع التحديثيين في ارتباط مفهومي الأمة والنزعة القومية بالتحول نحو العصر الحديث، الا انه يعتبر ان التحديثيين يقللون من تأثير العواطف والمشاعر التي تلعب دورا كبيرا في اثارة الانتماء الاثني، كما ويشدد على وجود أساس اثني لبناء الأمم الحديثة. حيث يرى سميث على الغالب نموذجين لتشكيلها، تكون الدولة في النموذج الأول هي التي صنعت الأمة (كما في أمم أوروبا الأوائل مثل إنجلترا وفرنسا واسبانيا والسويد) وذلك عبر مؤسساتها التي استطاعت ان تستوعب وتدمج الثقافات الاثنية الهامشية حول نوى اثنية أو ثقافية سائدة فيها. في حين ان النموذج الاخر للأمم (والذي انتشر في أمم أوروبا الشرقية) تتشكل فيه الأمة الحديثة على أساس مشتركات جمعية مثل الذاكرة التاريخية/ الاساطير واللغة والدين والعادات تكون الانتلجنسيا قد اعادت اكتشافها وسوقتها بحلة جديدة نجحت فيها بحشد وإقناع عامة الجماهير (Smith, 1991, p.54-68). من اللافت أيضا ان سميث اعتبر ان الدول الحديثة التي تكونت بفعل الاستعمار الأوروبي هي مصطنعة وتفتقر الى الهويات الثقافية أو السياسية كما ان قوة نزعتها وهويتها الوطنية مرتبطة الى حد كبير بدرجة التحديث لمجتمعاتها الجديدة(Smith, 1991, p.108) .

ما يجدر ملاحظته هنا، ان المنظرين الغربيين – سواء التحديثيين منهم أو الأثنيين الرمزيين – يركزون على ارتباط نشوء الأمم والدولة القومية بعملية التحديث بأوجهها الصناعية-الإنتاجية والسياسية-الديمقراطية والاقتصادية-الاجتماعية بإتجاه تطوري خطي بما يحتم انتاج مجتمع متجانس، حيث يعرّف سميث الأمة بأنها تتألف من مجموعة مُعَرّفة من السكان تشترك في وطن تاريخي واقتصاد مشترك ولها اساطير وذاكرة تاريخية مشتركة مع ثقافة عامة شعبية ويتمتع أعضاءها بحقوق وواجبات قانونية مشتركة(Smith, 1991, p.14) . ومن الواضح ان هذا التشديد على التجانس الثقافي الحداثي والتماثل القيمي للمجتمع النموذجي في الدولة القومية بطرازها الأوروبي يعكس التطور السياسي في أوروبا الذي مرّ في مرحلة طويلة من الصراع الديني والقومي تكرّس فيه مفهوم الدولة القومية (أو الدولة-الامة nation-state) الذي يدمج ما بين الدولة والوطن والقومية عشية الدخول في مرحلة العصر الحديث. حيث كان ذلك متزامن مع التنوير الفكري والتقدم الصناعي والنمو الاقتصادي ما أدّى الى نشوء دول ذات سيادة قوية عبر التغير الطبقي من المجتمع الزراعي-الاقطاعي الى الصناعي-الوطني والذي صاحبه تجانس مجتمعي ديني واثني وثقافي.
هناك دراسات متعددة تبنت فرضية الدولة المصطنعة عبر المقاربة التحديثية أو الاثنية الرمزية، أجمعت فيها على فشل عملية بناء الامة في العراق رغم عمليات التحديث للمجتمع العراقي التي بادرت اليها الدولة العراقية منذ الثلاثينات، عازين ذلك الى جوهرية نزاع الهويات المكوناتية فيه والافتراض بان بريطانيا قد أنشأت العراق الحديث من مجاميع غير متجانسة وغير متعايشة. حيث خلصوا الى ان الانقسامات العمودية المكوناتية في المجتمع العراقي كانت أكثر ثباتا وقدرة على التكيف والبقاء من الاصطفافات الطبقية الاقتصادية والاجتماعية الافقية التي تكونت في الاربعينيات والخمسينيات، مشككين بمستقبل العراق كدولة موحدة مستقرة (Lukitz, 1995 and Kirmanj, 2013 and Osman 2012).

غير ان هذه الدراسات لم تأخذ بنظر الاعتبار الاختلاف المهم بين تطور العراق الاجتماعي في دخوله الى العصر الحديث عن التجربة الغربية التي بُنيت عليها تلك المقاربات التقليدية. حيث كان تواتر عملية التحديث في المجتمع العراقي خلال الحقبة العثمانية متفاوتا، والتمايز الطبقي فيه ثانوي مع وجود تنوع كبير في مجتمعه التعددي وترسخ في القيم التقليدية نتيجة ضعف الدولة العثمانية المزمن الذي أجبر العراقيين على توفير الحماية لأنفسهم عبر المحافظة على البنى الاجتماعية التقليدية. لذلك غالبا ما يتغاضى هذا المنظور المكوناتي عن معطيات عملية التحديث في المجتمع العراقي قبل تأسيس الدولة وينتهي الى نتائج مُختزلة بعيدة عن الواقع وخاصة بالنسبة الى فرضيات ثبات وتجانس الهويات المكوناتية وإمكانية تقسيم العراق على أساسها.
كذلك اعتبر غسان العطية في كتابه عن نشوء الدولة العراقية ان ولايات بغداد والموصل والبصرة كانت في حالة ركود لمدة قاربت الأربعة قرون، حيث لم يكن يهتم بالسياسة فيها سوى افراد معدودين جلهم من المسؤولين الاتراك، نافيا وجود مجتمع عراقي متجانس واحد قبل 1921، بل سلسلة من المجاميع المتجزأة التي يتطور كل منها ضمن حدودها. لذلك ينفي العطية وجود نواة دولة حديثة للعراق قبل تأسيسها من قبل الاستعمار البريطاني عبر قوله ان العراق بحدوده الحديثة لم يكن قط وحدة سياسية منفصلة قبل القرن العشرين وأن كلمة عراقي لم يكن لها معنى محدد في القرن التاسع عشر (Atiyyah, 1973, p.13).

لكن ليس كل من يتبنى مفهوم الدولة العراقية المصطنعة، يعتمد بالضرورة فرضيات المنظور المكوناتي حول ثبات وتجانس الهويات المكوناتية في العراق. لقد اعتبر فالح عبد الجبار ان الدولة العراقية هي "رقعة عشوائية قرر حدودها وحماها البريطانيون"، فكانت تضم "مزيجا غير متجانس من المجموعات الاثنية والدينية والمذهبية ذوات الخصائص المتباينة بأقصى درجات التباين". كما جادل عبد الجبار – حسب الرؤية الغربية التقليدية – بأن عدم وجود المؤسسات المتطورة للأسواق والشركات والنظام القضائي او الفضاءات الوطنية الموحدة لا يؤهل المجتمع العراقي للوصول الى المجتمع المدني والتجانس الثقافي المطلوب لمفهوم الدولة الحديثة (عبد الجبار، 2010، ص79-80). وعلى الرغم من اعتماده لمفهوم الدولة المصطنعة، الا ان عبد الجبار لم يتبنى المنظور المكوناتي لتطور المجتمع العراقي، اذ لم يعتبر ان أي من النزعتين الشيعية أو السنية في العراق ذات جوهرا ثابتا، بل اعتبر ان شيعة أو سُنّة العراق هم مجموعات متباينة ومشتتة تتكيف مع الواقع وتستجيب له، ولا يشكلون كيانا ثقافيا/اجتماعيا أو سياسيا متجانسا بهوية موحدة ووحدة مصالح وهدف (عبد الجبار، 2010، ص79 و عبد الجبار، 2017، ص16، ص372).

في المقابل هناك دراسات أخرى ركزت على الدور الرئيسي للثقافة في تحديد علاقة الدولة بالمجتمع عبر تصور النفوذ والسلطة السياسية كعمليات تفاعل وتفاوض وتسويات معقدة ومستمرة بين الدولة وفاعليات المجتمع، خاصة بالنسبة الى المجتمع المدني. فتكون الهويات الفئوية في المجتمع العراقي (سواء طائفية أو اثنية) عبر هذا المقاربة، هي هويات اجتماعية غير ثابتة تتغير حسب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية للحقب المختلفة. لقد اعتبرت هذه الدراسات ان اليات التحديث في العراق كانت قد بدأت في منتصف القرن التاسع عشر عبر تطور التجارة مع الغرب وانتشار الأفكار القومية الاوربية بالتزامن مع الإصلاحات العثمانية وانتشار الأفكار الدستورية بعد 1908 وتأسيس الأنظمة التعليمية العلمانية، ما مهّد وحضّر الشروط اللازمة لظهور بنى فكرية وثقافية جديدة مكّنت من تجاوز الهويات المحلية والاثنية الضيقة نحو الفضاء الوطني الاوسع. لقد استفاد المثقفين العراقيين في منتصف القرن العشرين من هذا الفضاء العام التعددي والمؤسسات التعليمية المتنامية ليكونوا فاعلين للحداثة حيث انبثق شعور واضح بهوية عراقية علمانية ومتميزة ولو بمعنى يختلف لليساريين المهتمين بتاريخ العراق وتعدديته الثقافية، عن العروبيين الذين اكدّوا على التاريخ العربي المشترك والسعي للوحدة العربية، ما أدى الى تهميش الحساسية تجاه النزعات المكوناتية في المجتمع (Davis, 2005 and Zubaida, 2006 and Bashkin 2009).

كذلك هناك عدد من الدراسات التي اولت اهتمام كبير في التصدي لفرضية الدولة المصطنعة في العراق من خلال البحث في المصادر الأولية للحقبة العثمانية المتأخرة في العراق وخاصة بعد تأسيس حكم المماليك وعرض الشواهد على وجود مفهوم جغرافي-سياسي للعراق في تلك الحقبة وقبل الاحتلال البريطاني (Fattah, 2009 and Visser 2009). ومن ضمن هذا الصنف من الدراسات، ظهرت مؤخرا دراسة نهار محمد فوزي "العراق ليس مصطنعا: النزعات العراقوية ودحض فرضية الدولة المصطنعة" التي قدمت أدلة حول بروز مفهوم العراق السياسي والاجتماعي والجغرافي خلال العهد العثماني المتأخر في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عبر معالجة ملابسات الهويات السائدة ومظاهرها خلال هذه الحقبة. ومن ضمن هذه الأدلة حضور مصطلح "العراق" في اعمال بعض مؤرخي الولايات العراقية ومثقفيها منذ القرن الثامن عشر وتعزيز استعمال هذا المصطلح بعد ذلك في الذهنية العشائرية الجمعية والعمل التنظيمي السياسي للعراقيين، بالإضافة الى بروز مركزية ولاية بغداد في الاشراف على بقية الوحدات الإدارية، والطبيعة الاقتصادية الاندماجية للولايات العراقية، مع تداول الإدارة العثمانية لمصطلح "العراق" جغرافيا، سياسيا واداريا (نوري، 2018).

بالإضافة الى ما تقدم ذكره، هناك عدد من الدراسات المهمة التي تبنت مفهوم صيرورة الدولة العراقية عبر عملية تحديث مستمرة للمجتمع العراقي القديم من الحقبة العثمانية المتأخرة وليس عبر عملية خلق دولة جديدة سيتم معالجتها نقديا هنا بتفاصيل أكبر حيث سيتم البناء عليها عند عرض الاطار النظري البديل الذي تقترحه هذه المقالة. فقد استخدم حنا بطاطو التحليل الطبقي الماركسي-الفيبري في كتابه الموسوعي "العراق، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية" لتبيين أن العراق كان قد مر في حالة تحول طبقي بدأ تدريجياً خلال القرن التاسع عشر واستمر في القرن العشرين من خلال الالتحاق بالنظام الرأسمالي الصناعي العالمي وعبر استقرار وتوسع المُلكية الخاصة وتمركزها الشديد كنتيجة للتغييرات الكبيرة في قوانين ملكية الأرض 1858-1932 وقوة سلطة الدولة وانتشار الاتصالات ونمو المدن وسريان الأفكار والتقنيات الاوربية (بطاطو، 1995، ص26-29). كما عدّ بطاطو أن بوادر التحديث الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في العراق كانت قد ساهمت في نمو الشعور القومي والوطني للعراقيين إذ كان الحافز الأهم في نمو هذا الشعور هو الغزو البريطاني عبر توحد العراقيين (الشيعة والسنة في المدن مع العشائر) في مقاومة هذا الغزو خاصة في ثورة 1920. وعلى الرغم من رؤيته أن الثورة المسلحة في 1920 كانت أساساً "شأناً عشائرياً حرّكه الكثير من الأهواء والمصالح المحلية"، لكنه في نفس الوقت اعدّ هذه المرحلة نقطة البدء لنمو المجتمع الوطني العراقي. كما افترض بطاطو أن الانقسام الشيعي-السني في بداية تأسيس الدولة تعود أصوله الى أسباب اقتصادية واجتماعية، لذلك عملت التحولات الطبقية المتسارعة والتوسع المستمر للطبقة المتعلمة والتقدم السريع للحياة الحضرية بعد تأسيس الدولة على تآكل الولاءات التقليدية واستبدالها بانتماءات ايديولوجية جديدة عابرة لهذه الولاءات مثل الشيوعية والقومية (بطاطو، 1995، ص41-43). لقد اوضح بطاطو ان نشوء الدولة العراقية ادّى الى تسريع وتيرة التحول في المجتمع العراقي الذي تجلّى في تزايد الصراع الاجتماعي/السياسي على أساس التفاوت الطبقي في العهد الملكي بين طبقات وشرائح عانت، وأخرى استفادت من عملية التحول هذه. لقد أدّت حالة اختلال التوازن البنيوي خلال العهد الملكي الى ثورة 14 تموز 1958 التي اعتبرها بطاطو حتمية وانها انتجت نظاما أصبح يخدم مصالح الطبقة الوسطى في المجتمع العراقي (بطاطو، 1999، ص430).

اما علي الوردي، فلم يكن يحبذ اقتباس النظرية الماركسية او أي نظرية غربية أخرى وتطبيقها على المجتمع العراقي بدون تصرف، حيث طور لنفسه اطاره النظري الخاص الذي اعتبره ملائم لطبيعة المجتمع العراقي يعتمد أساسا على نظرية ابن خلدون في صراع الحضارة والبداوة والتناشز الاجتماعي لوليم أوكبرن وازدواج الشخصية لروبرت مكايفر، بالإضافة الى نظرية كارل مانهايم التي استخدمها الوردي كبديل للطبقية الماركسية حيث يمكنه عبرها تقسيم المجتمع الى جماعات مختلفة على أساس النسب او الدين او اللغة، فتكون الطبقة ليس الا واحدة من هذه الجماعات .
لقد بنى الوردي عبر اطاره النظري هذا منظوره الخاص للمجتمع العراقي رافضا الفكرة الغربية التقليدية بان خصائص البداوة تمثل مرحلة بدائية من مراحل التحول الحضاري للمجتمعات الإنسانية نحو المجتمع الصناعي المتطور، بل اعتبر ان الصراع الحديث بين الحضارة والبداوة هو صراع ثقافة وقيم حيث القيم البدوية متغلغلة في أعماق النفوس من جهة، مقابل قيم مضادة جاءت بها الحضارة الحديثة، ما يؤدي الى التناشز الاجتماعي وازدواج الشخصية بسبب التضاد بين الظاهر الحضاري وبقايا القيم البدوية في الاعماق (الوردي، 1994، ص247-259). كذلك رأى الوردي ان أساس النزعة الطائفية بين الشيعة والسنة في العراق هو الانتماء الاجتماعي أكثر مما هو أساس ديني أو جوهري فقد اتخذت الطائفية طابع العصبية القبلية بحيث شكلت ما يمثل العقدة المكبوتة في شخصية الفرد العراقي، بينما عّد ان اختلاف المصالح والعقائد والتقاليد والقيم بين مجاميع العراقيين تؤدي الى التنازع بينهم بسبب تعصب كل جماعة الى جانبها من الحقيقة كمطلق ورفض منظور الاخرين (الوردي، 1969، ص21).

من هذا المنطلق رأى الوردي ان ظهور الوعي السياسي في العراق كان نتيجة صيرورة متواصلة تعرض خلالها المجتمع العراقي لآليات التحديث والحداثة منذ 1876 والتي تضمنت الأفكار والمخترعات والنظم الأوروبية الحديثة بالإضافة الى التغيرات الاقتصادية نتيجة فتح قناة السويس وما صاحب ذلك من دخول المواد الإنتاجية وزيادة اعداد الزراع المستقرين وسكان الحضر مع ظهور طبقة الافندية. كل هذا أدّى الى البدء في التحول من حالة الصراع الجماعي حسب الوعي الطائفي والعشائري نحو الوعي الوطني/القومي نتيجة الانفتاح الاجتماعي الذي أدّى الى توسع المدارك والنظرة فوق النزاعات الضيقة، لكن مع بوادر صراع من نوع آخر هو الصراع بين القديم والجديد. لقد جادل الوردي أن البداية الحقيقية للوعي السياسي في العراق تجلت كطفرة خلال الفترة 1906-1923 إذ بدأت تحت رعاية المجتهدين الذين كانوا قد قادوا الجدل حول مبدأ المشروطية السياسي في ايران، وانتهت بنفي الحكومة العراقية للمجتهدين من النجف على أن لا يعودوا الا بعد تعهدهم بعدم التدخل في الشؤون السياسية. وعلى الرغم من كثرة الانتقاد للوردي على طريقة تناوله لثورة العشرين – غالباً بسبب انتقاده للمؤرخين "الخطابيين" الذين مجّدوا الثورة واعترافه أن التراث البدوي كان عاملاً مهماً من عوامل الثورة – إلا أنه عدّها "المدرسة الشعبية" الأولى للعراقيين حول مفاهيم الوطنية والاستقلال ومحطة مهمة ضمن سياق هذا التحول من سيادة الوعي الديني في المجتمع العراقي الى سيادة الوعي الوطني السياسي فيه (الوردي، 2005، ص314-317).
رغم هذا التحول وحتى بعد 14 تموز 1958، ظل الوردي يرى ان الطائفية والعصبيات المحلية والبلدية كانت لا تزال موجودة، حيث ينسب اليها بعض أوجه النزاع الحزبي في العهد الجمهوري، لكنه كان يعترف ان تأثير الرأي العام الوطني هو في نمو متواصل بينما القيم المحلية في تضاؤل وسياتي يوم قريب او بعيد يطغى فيه الرأي العام على القيم المحلية ويفقدها تأثيرها الاجتماعي (الوردي، 1996، ص360 و الوردي، 1994، ص260).

تشير هذه المراجعة النقدية لأدبيات نشوء الدولة العراقية ومقارباتها النظرية الى انه وعلى الرغم من وفرة الدلائل والبراهين على وقوع عملية التحديث ووجود نواة للمجتمع العراقي الحديث خلال فترة ما قبل الدولة العراقية – والتي تناولها باحثي المنظور الجامع للمجتمع العراقي – الا ان كثير من الباحثين الاخرين يتغاضون عن تأثير هذه التجربة. ويبدو ان ذلك يعود بالدرجة الرئيسية الى عدم وضوح النقلة المجتمعية في الحالة العراقية التي يمكن ان تنتج المجتمع الحديث حسب المعايير الغربية المثالية من التماسك الاجتماعي والتجانس الثقافي والتطور السياسي والاقتصادي. فيُقحمون فرضية الادماج القسري المُختلق وعملية التحديث الاجبارية عبر الاستعمار البريطاني لتفسير هذا الفشل المُفترض في عملية التحديث هذه، حيث غالبا ما يعزون هذا الفشل الى "تشظي" المجتمع العراقي أو تأصّل الهويات المكوناتية فيه. ان هكذا مقاربات، وعلى الرغم من تمكنها في بعض الأحيان من تحليل وتفسير محطات الانقسام والتنازع في تاريخ العراق الحديث، الا انها تبقى قاصرة عن تفسير، أو في البناء على، محطات التلاقي والتعاون بين فئات المجتمع العراقي مثل ثورة العشرين أو تجلي الهوية الوطنية الجامعة في منتصف القرن العشرين أو ثورة تشرين في 2019.

وهذا يقودنا الى الحاجة الى تأسيس اطار نظري بديل يمكن ان يحل مكان الأطر النظرية التقليدية المُشتقة من أدبيات التجربة الاوربية الغربية والتي سبق طرحها في هذه المراجعة النقدية. ولعل من أهم خصائص هذا الاطار النظري البديل هو استيعابه لتعدد المفاهيم التي يمكن من خلالها تحليل ظواهر اجتماعية وسياسية متعددة (بل ومتناقضة أحيانا)، بالإضافة الى ديناميته في تجاوز التطور الخطي المتزامن في الوعي السياسي والنمو الاقتصادي والتطور التقني والإصلاح الديني، وهو ما ميّز التجربة الغربية في التحول من المجتمع التقليدي الى الحديث.
ان دراستي بطاطو والوردي السابق ذكرهما اشتركتا في رؤية نشوء الدولة العراقية كمحطة في صيرورة تحديث مستمرة للمجتمع العراقي القديم، غير ان لكل منهما منظور نظري مختلف، وفي نفس الوقت قصور في معالجة وتفسير ظواهر معينة. فدراسة بطاطو على الرغم من تقديمها أدلة وافرة على ان المجتمع العراقي قد مر بنقلة نوعية عبر 14 تموز 1958 نحو مرحلة مختلفة عن العهد الملكي في اتجاه التطور الطبقي والتجانس القومي الحديث، الا انها لم تقدم تفسيرا مقنعا لاستمرارية نفوذ الولاءات التقليدية وتراجع النزعة الوطنية العابرة للمكونات مع استمرار الحكم الجمهوري سوى "ان نفسية وطرق النظام القديم، التي هي من نتاج قرون طويلة، ما زالت مغروسة في حياة شرائح واسعة من الناس، وانها لن تذوي وتزول بسهولة" (بطاطو، 1995، ص54). حيث نقد فالح عبد الجبار في هذا السياق "المسار الخطي المتصل للتطور الاجتماعي" في دراسة بطاطو وأشار الى ان اطاره النظري سيكون قاصر في معالجة وتفسير ظاهرة عودة بروز طبقات السادة والشيوخ وإعادة تشكيل بنى اجتماعية تقليدية عشائرية وقبائلية ومذهبية بعد 1990 (عبد الجبار، 2010، ص49).
كذلك على الرغم من طرح علي الوردي في دراسته العديد من الدلائل على ان الكثير من التقلبات في المواقف السياسية عند نشوء الدولة يمكن ارجاعها الى الصراع البدوي-الحضري، الا ان هذه النظرية لن تكون ملائمة لتفسير الصراعات السياسية الايديولوجية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية بين القوى الوطنية المعارضة والنخبة الحاكمة.

لذلك تبرز هنا الحاجة الى اطار نظري مركب ومتعدد المفاهيم لنشوء الدولة الوطنية يمكن ان يُستخدم لتحليل الحالة العراقية التي تتميز بتعددية مجتمعها وتأثير العامل الخارجي فيها، ما أدى الى تفاوت تواتر عملية التحديث وتقبل بعض المجاميع لهذه العملية وممانعة بعضهم الاخر لها. فالتعددية المجتمعية في تجربة التحديث الاوربية الغربية مثلت انقسام أو تشظي غير مرغوب فيه تم التخلص منها اما عبر استيعاب المجاميع الهامشية في الجماعة السائدة، او عبر طردها من خلال الحروب أو عبر الحل السياسي مثل الانفصال أو الكونفيدرالية. اما في العراق، فكانت التعددية مستمرة مع عملية التحديث، من جهة عبر نظام الملة العثماني الذي اعطى للاقليات حق إدارة شؤونها بشرط استمرار دفع الضرائب الى الدولة، ومن جهة أخرى عبر استمرار العصبيات القبائلية والمناطقية.
كذلك كانت عملية تحديث المجتمع في التجربة الاوربية تجري عبر مؤسسات الدولة وسلطتها القوية وبوتيرة منضبطة على مختلف ارجاء الفضاء الوطني، بينما كانت عملية التحديث في العراق خلال الحقبة العثمانية غير منتظمة لضعف مؤسسات الدولة وتساهلها مع العشائر التي كانت تنافس سلطة الدولة على السكان خاصة في الارياف. وفي حين ازدادت وتيرة التحديث باضطراد بعد تأسيس الدولة العراقية، لكن الأرياف ظلت تحت تأثير السلطة العشائرية، لذلك كانت المراكز الحضرية تتقبل عملية التحديث بيسر ولكنها تبقى متأثرة بالقيم العشائرية بسبب ارتباطات سكان المدن بالعشائر واستمرار الهجرة من الريف الى المدينة.

ان التطبيق الغير نقدي للأطر النظرية التقليدية الناتجة عن تحولات المجتمعات الغربية غالبا ما لا ينجح في الإجابة الوافية على أسئلة مهمة مثل لماذا تطور الوعي الوطني للعراقيين بسرعة مع تأسيس دولتهم الوطنية وتعجلت عملية بناء الدولة من جهة، فيما استمرت التنازعات بين شرائح المجتمع العراقي وتعثرت عملية بناء الأمة من جهة أخرى. بينما يمكن تفكيك هذا الاطار النظري التقليدي ذو المسار التطوري الخطي متعدد الأوجه الى مركباته النظرية الأساسية وبالتالي تكوين اطار نظري متعدد المفاهيم يكون اكثر ملائمة للمجتمع العراقي الذي تختلف سيرورته عن السياق التاريخي لتجربة تطور المجتمعات الاوربية الغربية. وهذا ما سيتم عرضه ومناقشته فيما تبقى من هذه المقالة عبر جدلية البناء والتفكك في صيرورة دخول المجتمع العراقي في العصر الحديث. فعملية البناء الوطني هي نتاج ديناميات متعددة مرتبطة بتحديث المجتمع العراقي كالتحول في الوعي الجمعي الذي يمكن تحليله من خلال مفاهيم دوركهايم وفيبر، بالإضافة الى التحول في الوعي والانتماء الوطني حسب مفهوم الجماعات المتخيلة لأندرسن. بينما تعمل ديناميات اخرى على ممانعة صيرورة التحديث عبر تفكيك اللحمة المجتمعية وفق مفاهيم صراع الحضارة-البداوة وتسييس الهويات الاجتماعية.

يتبع القسم الثاني من المقالة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمطار غزيرة تضرب منطقة الخليج وتغرق الإمارات والبحرين وعمان


.. حمم ملتهبة وصواعق برق اخترقت سحبا سوداء.. شاهد لحظة ثوران بر




.. لبنان يشير إلى تورط الموساد في قتل محمد سرور المعاقب أميركيا


.. تركيا تعلن موافقة حماس على حل جناحها العسكري حال إقامة دولة




.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس