الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صناعة الحرام والتحريم

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 9 / 24
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


صناعة الحرام مصطلح جديد أرتبط بالقضية الدينية ودور الفقيه والمشرع في ضبط حدود التفريق بين ما هو حرام بالنص، وبين ما حرم لاحقا بأجتهاد مبني على أسس وقواعد يتبناها الفقيه أو المجتهد في أصدار الأحكام، القاعدة الأساسية التي تحكم التحريم هي قاعدة ملزمة لا أجتهاد فيها ولا تأويل مطلقا، فالحلال بين والحرام بين بالنصوص المفصلة والمحكمة التي لا تأت مجملة ولا عمومية ولا تحمل معها قراءات عدة، وكل ما يرد فيه نص لا مسوغ له أن يتسع خارج القصدية النصية ولا التضييق في مدى التطبيق، مع ترديد مقولة عند كافة الفقهاء والمجتهدين تنص على " أن حلال محمد حلال ليوم الدين، وحرام محمد حرام ليوم الدين" بمعنى ما حرمه النص الذي جاء به محمد لا يمكن وبأي حال أن يتغير، لا في أتجاه الحلية ولا في تشديد الحرمة (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) ١١٩ الأنعام، هذا التفصيل النصي وارد بمعنى الوصول بالكليات للجزئيات مما يمنح المؤمن حدودا واضحة لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير من الناس.
التحريم خارج النص لا يمكن تصوره إلا من جانب المحلل سواء كان أصلي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ)، أو مسكوت عن بيان تحريمه أو تحليله بما يعرف بالمباح الطبيعي (قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)، فهذه الأصناف المستثناة من التحليل هي في دائرة اللا مباح وغيرها عقليا ومنطقيا وقصديا مباح حتى يقوم الدليل النصي على التحريم دون أجتهاد بتأويل أو تفسير، فصناعة التحريم تتعلق بالحلال المباح بأعتبارات خاصة دون أن يكون هناك ما يعزز التحريم بعد النص (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَـٰذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا ۖ وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ۚ)، فالحريم هنا مذموم بنفس النص لأنه خيانة وتعدي على حد من حدود الله كما يقول الفقهاء (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ۚ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
فالتحريم الذي يتم تضمينه في دائرة المحرم هي عملية تتجاوز القاعدة الأساسية التي تقول أن أصل الأشياء في الإباحة المطلقة ما لم يرد عليها قيد، وبما أن من يضع القيد هو من وضع القاعدة الأساسية، فلا مجال إذا مع تقدير الأسباب الحسنة النية في التحريم من أن تمنح قبولا أو رضا به، إضافة إلى أن من يقوم بالتحريم يشارك الله في الوظيفة الأساسية التي يختص بها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)، وهناك نص ناهي أخر يتسأل فيه عن علة التحريم ومشروعيته عند البعض (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ)، هذا النهي القطعي لا بد أن يقف عنده الفقيه والمجتهد وحتى الإنسان العادي حتى لا يقع في الظلم الأكبر وهو الشرك بالله (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ.... وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، فالشرك الي هو بمنزلة الظلم العظيم أن تضع نفسك مع الله مشرعا للحلال والحرام وأنت لا تملك حق أن تعرف لماذا حرم الشيء الفلاني إلا ظاهرا وغالبا بالتسليم.
من هذا نستجلي الحقائق التالية منظورا لها من قاعدة حق التشريع:.
1. الحلال هو الأصل في الأشياء بما يعني تجاوز مفهوم الإباحة القديم، فالإباحة هي رخصة تصرف لمن لا يعرف الحكم الأصلي، وبما أن التحريم منع الرخصة فيكون الحلال هو الرخصة الأصلية التي بني عليها قانون التعامل الملزم بالنص وبالمنطق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ٨٧ المائدة، فما أحل يتقدم على ما يحرم أي الأصل الحلية وليس الإباحة.
2. بما أن الحلال هو الأصل فيعتبر قاعدة عامة مجردة لا تحتاج لدليل الحلية/ فيكون الحرام هو الأستثناء والعامل المقيد بشرط الدليل الذي ينقض القاعدة وينقل الحكم من دائرة كبرى مفتوحة إلى دائرة صغرى مغلقة (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) ١٦٠ النساء، فالنقل هنا من دائرة الأكبري إلى دائرة الأصغري تم بناء على علة وسبب ودليل.
3. يمكن العبور من دائرة الأصغري إلى دائرة الأكبري أي من التحريم للتحليل أيضا ينفس الشرط السابق وجود علة وسبب وتوفر النص الذي يسمح وإن كان السبب طارئ أو أضطراري (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ١٧٣ البقرة، ولكن لا يمكن أن يكون العكس تحريم الحلال لا طارئا ولا مضطرا.
4. في بعض الأحكام هناك مساحة من التحليل والتحريم لا هي قاعدة ولا هي أستثناء منها تتعلق بحالات فردية محكومة بظرفها الخاص، ولا يمكن تعميمها على أنها تحريم الحلال، ولا كحكم عام ممكن تطبيقه وتشريعه في أي وقت منها (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) ١٢ القصص، فالتحريم هنا ليس بمعنى ضد التحليل ولكن بمعنى الحرمان أو عدم القدرة على الأتيان به طبيعيا، وهو أمر تدبيري متعلق بالقصد الخاص وليس بالحكم العام.
5. هناك أحكام عامة بحلية موضوع بشكل أساسي لكن يأت تحريمه في حالة جزئية بصبح التحليل والتحريم مرتبط بها، أي أن التحريم مثل الشرط الواقف في تعبير فقهاء القانون والشريعة منه (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۖ) هذه القاعدة المطلقة، بينما الشرط الواقف متعلق بقضيتين لا يبدو أنهما يرتبطان بالقاعدة إلا من باب تحليل الصيد (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، القضية الأولى أنه صيد البر فقط هو المقصود ولكن ليس بإطلاقه لأنه أيضا مقيد بالموضوع الثاني " مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ۗ"، توفر هذين الشرطين يتحول الصيد الحلال إلى حرام، ولكن لو تخلف أحدهما مع توفر الثاني لا تسقط الحلية، فصيد البر حلال خارج وقت الإحرام، والثاني صيد البحر حلال حتى مع الإحرام.
6. أحيانا يأت التحريم وصفا وليس نصا على ماهية معلومة، مثلا عندما يقول حرمنا الربا أو حرم قتل النفس بغير حق، هنا النص بحدد الفعل أو الفاعل أو المفعول به، في بعض النصوص يأت الوصف بدلا من ذلك فهو يشمل طائفة كبيرة من المحرمات عنوانها المشترك أنها تحمل الصفة ولا تحمل الموضوع، النص التالي يشرح أو يحرم تشريع طائفة من المواد مشروطة بتوفر الوصف فقط (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ۖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)، فالتحريم الوصفي أولا مخصوص بمجموعة من الناس الذين ورد فيهم التحريم ولا يشكل قاعدة للحكم، وثانيا التحريم الوصفي أكد الحلية في التحريم من قاعدة التحريم، أي جعل من أستثناء الأستثناء مفهوم معاكسة، أولا المحرم عليهم من قاعدة الحلية هم الذين هادو، فالتحريم خاص وليس عام وهذا يعتبر قاعدة بالنسبة لهم في موضعين، الأول تحريم كل ذي ظفر تحريم كامل، وتحريم جزئي على محلل كلي "البقر والغنم" وفقط شحومهما، ومن هذا الفقط الأستثنائي عاد التحليل ليستثني من المستثنى ثلاثة أشياء " مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ".
7. جزاء التحريم له وجهان الأول حينما يتعلق الأمر بصانع الحرمة وقدمنا جزاءه الرباني، لكن ما موقفه من الجزاء الدنيوي؟ هذا السؤال المهم قد أجاب النص عليه (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ۚ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) ١٤٠ الأنعام، أما الوجه الأخر هو التعبد بالمحرم المصطنع فهذا نعود به للأحكام العامة في مسألة البيان والتبيين، وأن على المسلم أن يتقصى في أمر كل حكم حتى يأتيه اليقين (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) النحل 25.
8. وأخيرا لا بد من التنبيه على قضية التحليل والتحريم من الله وبالنص ليس أمرا كيفيا يخضع لمشيئة الله دون قاعدة أو سنة كونية، فالله لا يحرم شيء إلا بسبب يتعلق أما بالصحة العامة أو بالحفظ على العلاقات البينية بين الناس، أو لأجل غايات تبدو للقارئ بسيطة ولكن الإكثار منها سبب للخراب والفساد الوجودي (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ)، وهذا الأمر ينفي قول بعض الناس أن المشيئة فقط ولوحدها هي على التحريم (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ).
إن عملية صناعة الحرام بالإضافة لما ذكرنا من كونها تعدي وظلم وشرك بالله وما يترتب على ذلك من جزاءات أو حدود، فإنها من وجه مادي أخر تعد أنتهاكا للقانون الوجودي الشامل الذي يحفظ التوازن والديمومة الأبدية للوجود، هذا ما أشار له نص ديني حينما ذكر الفساد الذي هو ضد الإصلاح والتطور كسبب من أسباب الخراب الوجودي (ظهَرَ الْفَسادُ فى الْبرِّ وَ الْبَحْرِ بِمَا كَسبَت أَيْدِى النّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْض الّذِى عَمِلُوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ)، هذا الفساد مخل بقوانين الوجود التي تستوجب أتباع سنن الكون التي وضعها الله والتي لا تقبل التبديل والتغيير (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) الفتح (23)، فأي تغير أو تبديل أو تحويل لمجريات السنة هو فساد وجودي له عواقب على الوجود الإنساني، مما يعني أن الذي يصنع المحرمات بدون نص ولا دليل كامل من كتاب أو نقل موثوق بشرعيته إنما يسعى لخراب الوجود، وبالتالي قهو يرتكب حراما مركبا، حرم المحلل وساهم في أن يكون هذا المحرم فساد للوجود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد هجوم إيران على إسرائيل..مقاطع فيديو مزيفة تحصد ملايين ال


.. إسرائيل تتوعد بالردّ على هجوم إيران وطهران تحذّر




.. هل تستطيع إسرائيل استهداف منشآت إيران النووية؟


.. هل تجر #إسرائيل#أميركا إلى #حرب_نووية؟ الخبير العسكري إلياس




.. المستشار | تفاصيل قرار الحج للسوريين بموسم 2024