الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روسيا الحديثة - 01 بيتر يسجن زوجته ويجلد ابنه

محمد زكريا توفيق

2022 / 9 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الفصل الأول

بيتر يسجن زوجته ويجلد ابنه الوحيد

انتصار بولتافا ضمن لروسيا تحقيق هدفها المنشود منذ فترة طويلة، وهو إيجاد منفذ في الشمال على بحر البلطيق. شعر بيتر أن المدينة الجديدة الواقعة على فم نهر نيفا، باتت آمنة من الآن فصاعدا من البنادق السويدية.

"لقد حل مصير فايثون على عدونا"، كتب بيتر يقول من ميدان المعركة، "وتم وضع حجر الأساس لمدينة سانت بطرسبرج بعون الله".

ينقسم نهر نيفا بالقرب من مصبه، إلى عديد من المجاري المائية، بسبب جزر المستنقعات، التي غالبا ما كانت مغطاة بالأمواج العاصفة لبحر البلطيق.

هنا، في عام 1703، قرر بيتر، بعد الاستيلاء على الحصنين السويديين، بناء مدينة جديدة. على جزيرة مقفرة، تسكنها الأرانب. بدأ بتأسيس قلعة، ثم كنيسة من الجص (أحجار الجبس البيضاء).

في الخارج مباشرة، كان قصر بيتر. وهو عبارة عن كوخ خشبي صغير من ثلاث غرف. بناه لكي يشرف منه شخصيا على العمل.

وعندما جاءت سفينة هولندية تحمل شحنة من الملح والنبيذ، قام بيتر نفسه بقيادة السفينة لكي ترسو في الميناء. وقدم للربان خمسمائة دوكا (عملة ذهبية تزن 3.5 جرام)، ومرسوم بإعفاء السفينة من الرسوم إلى الأبد.

سرعان ما أصبحت المدينة الجديدة "تفاحة في عين بيتر"، أو كما نقول نحن بالبلدي "فرخة بكشك". استدعى إليها البنائين من كل البلاد. وحظر بناء المباني الحجرية في أماكن أخرى، أو حتى إصلاح تلك التي بنيت بالفعل.

كل نبيل، كان يعمل في حوزته خمسمائة فلاح أو أكثر، طلب منه بناء بيت بالحجر، مكون من طابقين. وكل مركب تدخل الميناء، كانت تجبر على إحضار الحجارة الخام اللازمة للبناء.

بدت هذه المدينة الجديدة، المتجمدة في الشمال، والتي تشبه مدينة البندقية على البحر المتوسط، هي جنة القيصر العنيد، أبو دماغ ناشفة.

الذي لم تثبط عزيمته أو يلين عزمه، بسبب الفيضانات الرهيبة، أو المناخ غير الصحي، ولا بسبب المعارضة الشرسة من حاشيته، الذين كانوا يتعصبون إلى مدينتهم القديمة المحبوبة، موسكو.

بعد معركة بولتافا مباشرة، سارع بيتر بالعودة إلى مدينته المقدسة، وشغل نفسه بالتخطيط لتحسينها. كما أنه قد استفاد من إقامة تشارلز لمدة خمس سنوات في تركيا، وقام بانتزاع أراض شمالية.

فقد استولى على مدينة فيبورج، الواقعة على خليج فنلندا، وهي تعتبر أهم مدينة في منطقة كاريليا، بين روسيا وفنلندا في شمال أوروبا. وقام بنقل سكانها إلى بطرسبرج. ثم سقطت ريجا بعد ذلك، تتبعها مدن أخرى في ليفونيا، أيضا في الشمال.

في عام 1710، أكد غزوه لبيرنافا وريفال استيلاءه على إستونيا. لكن، أعيدت كورلاند إلى بولندا. لأن ابنة أخت بيتر، آنا، كانت متزوجة من الدوق الشاب، وعاد أوغسطس لتولي عرش بولندا مرة أخرى.

فجأة، وبتحريض من تشارلز الثاني عشر ملك فرنسا، ومن خان القرم، والباب العالي، أعلنت الحرب على روسيا. فقبل بيتر التحدي بحماس. لكنه لم يتعلم الدرس من تشارلز، وتجاهل نصائح قواده الألمان.

فقام بعبور نهر دنيستر مع ثمانية وثلاثين ألف رجل. وتوغل بتهور في صحاري مولدافيا، ورفض مقترحات رئيس الوزراء بالسلام. لكن هجره حليفه، حاكم فالاخيا، وانضم للأتراك. كما أنه لم تكن هناك مؤونة، لأن الجراد لم يبق على زرع في أي أرض.

الأتراك، بمائة وتسعين ألف جندي، تمكنوا من تطويق الجيش الروسي. كان بيتر من بين المحاصرين. بناء على نصيحة زوجته كاثرين، والتي كانت معه في ذلك الوقت، أرسل رسالة يعرض فيها السلام، ويطلب فك الحصار، في نظير:

التخلي عن آزوف وكل فتوحاته الجنوبية، وترك ليفونيا للسويد، وتبادل بسكوف في نظير الاحتفاظ بسانت بطرسبرج. وعرض أيضا الاعتراف بستانيسلاس ملكا لبولندا، وتقديم رشاو هائلة لجميع الضباط الأتراك.

في عام 1711، رتب المبعوث الروسي الماكر للسلام بشروط أكثر ملاءمة. كانت التضحية الرئيسية، هي آزوف والحصون على الحدود التركية.

لم يكن بطرس متصالحا، لكنه كتب أنه بالرغم من أن خسارة المدن التي كلفت روسيا الكثير من الجهد والأرواح، إلا أنه يرى احتمالات مستقبل أكثر إشراقا.

الحرب مع السويد، لازالت مشتعلة. استمرت عامين بعد حملة بروث سيئة الحظ، استولى بيتر خلالها على عاصمة فنلندا، ونقل مكتبة الجامعة بها إلى سانت بطرسبرج.

في نفس الوقت، فقدت السويد جميع مقاطعاتها الألمانية. بيتر، الذي باتت علاقاته مع أوروبا معقدة، حاول كسب صداقة فرنسا. فقام بزيارة باريس، وأخذ لويس الخامس عشر بين ذراعيه.

"الملك الصغير، كان بالكاد أطول من قزمنا لواكي"، كتب القيصر. أما القيصر نفسه، كما يقول كاتب فرنسي: "كان رجلا طويل القامة جدا، صحيح البدن قوي الشكيمة، يميل للنحافة. وجهه مستدير، مع جبهة مرتفعة وحواجب دقيقة. أنف قصير، سميك عند نهايته. شفتيه سميكتان إلى حد ما. جلده أحمر بني.

عيناه، سوداء دقيقتان واسعتان، خارقتان ومتيقظتان دوما. تعبيراته تكون كريمة وجليلة عندما يكون راضيا، لكنه، عندما يغضب، يكون خشنا، متجهما ومقتضب الوجه. وهي حالة تستمر لحظات، لكن تجعله مخيف مهاب.

سلوكه الكلي يدعو للإعجاب. يتسم بالذكاء والفكر والعظمة. ولم يكن يفتقر أبدا إلى الجلال والروعة. يدهش الجميع بفضوله الشديد.

لقد درس السياسة والإدارة والتجارة والعلوم، والعلوم العسكرية. لكنه لم يستطع حث فرنسا للتخلي عن إنجلترا ومساعدته على استعادة عرش عائلة ستيوارت في إنجلترا.

تمخضت زيارة بيتر الوحيدة لفرنسا عن معاهدة تجارية. وكان على وشك المصالحة مع تشارلز الثاني عشر، ملك فرنسا، قبل أن يقتل الأخير في النرويج عام 1718. لكن قرر البرلمان السويدي الاستمرار في الحرب.

هبط بيتر بجيشه على شواطئ السويد، وأخذ يخرب ويدمر في البلد، حتى صار على مرمى البصر من ستوكهولم. كان الخراب هائلا، مما أجبر الملك على إنهاء الحرب التي استمرت 22 عاما.

من ثم، تم نقل المقاطعات التي استولى عليها الروس رسميا إلى حوزتهم. وكان الفرح عظيما، عم البلاد. واستقبل بيتر بالترحاب، باعتباره الأب الروحي لروسيا الحديثة. وعرض عليه لقب "الامبراطور"، ولقب "العظيم". كما أن فتوحاته لم تنته بمقاطعات البلطيق وعندها.

كان التجار الروس يتعرضون للسرقة في بلاد فارس. فأخذ بيتر هذا كذريعة لتأمين بحر قزوين عام 1722. جاء عن طريق نهري أوكا والفولجا، ثم عبر البحر الداخلي العظيم، وأخذ ديربيند (ديربينت)، الواقعة على بحر قزوين، وحرر الشاه من أيدي المتمردين. في المقابل، أعطيت له مناطق قيمة خارج القوقاز.

بينما كان بيتر يجني المجد ويضم الفخر من أطرافه، كانت حياته يشوبها الغيام. فقد استخدم القوة المفرطة لكي يفرض مشروعه الإصلاحي. دمر نظام أقدمية النبلاء القديم، وبدلا منه، منح الأوسمة والرتب، على أساس خدمة الدولة.

وحرر المرأة من قبو الحريم، وأدخلها إلى صالات المجتمع الروسي. واستبدل مجلس البويار القديم بمجلس نيابي حديث. وقام بتقسم الدولة إلى محافظات وأقاليم، وأمدها بقوانين أجنبية ونظام قضائي عادل، ونظام ضريبي حديث.

أنشأ الشرطة السرية، وشكل جيش نظامي حديث عن طريق التجنيد. كما أنشأ البطريركية، وجعلها تعطي دفعة دينية للمجمع. وشجع الأجانب للعمل في المناجم والمصانع.

ووضع أبجدية جديدة للغة الروسية، وأنشأ جريدة موسكو. وأسس المدارس، والأكاديميات، والكليات، التي اهتمت بالعلوم على حساب الكلاسيكيات القديمة. وبنى المستشفيات، وأرسل بعثات استكشافية، وبنى عاصمة جديدة، وجعل روسيا دولة أوروبية حديثة.

كل هذه الإصلاحات التي قام بها بيتر، رآها معرضة للخطر، بسبب عدم كفاءة ابنه الوحيد. كان أليكسيس في الثامنة من عمره، عندما تم إرسال أمه كاثرين إلى الدير. لكنها بسرعة تخلصت من حياة الرهبنة، وعاشت كأميرة مسجونة في زنزانتها.

كان يزورها أليكسيس غالبا، ووقع تحت تأثيرها، واكتسب منها كرهها لوالده. حاول بيتر عبثا غرس أفكاره الخاصة في ذهن ابنه، وتزويجه من شارلوت من برونزويك، لكن بعد فوات الأوان.

الشاب كان خاملا وضالا. أهمل عروسه لأنها كانت أجنبية. رأى الأب، أن ابنه كان يمثل الأمل، بالنسبة لعشاق القديم، ولأولئك الذين كرهوا الإصلاحات التي قام بها الأب.

كتب بيتر لابنه، ذات مرة يقول:

" القلق من المستقبل يدمر الفرح الذي سببته نجاحاتنا الحالية، لأنني أرى أنك تحتقر كل ما يمكن أن يجعلك تحكم بعدي. فلمن أترك ما قد فعلته وحققته؟

إذا لم تقم بتغيير سلوكك وطباعك، فاعلم أنني سأحرمك من خلافتي. أنا لم أبخل بحياتي من أجل بلدي وشعبي. فهل تعتقد أنني سأبخل بحياتك؟ من الأفضل أن يخلفني غريب كفء، على أن يخلفني قريب لا يستحق. "

بينما كان بيتر في الغرب عام 1717، هرب أليكسيس إلى بلاط تشارلز السادس في فيينا، وتم إخفائه في قلعة بالقرب من نابولي. لكن تعقبه بيتر وأعاده إلى موسكو، حيث أجبره على التوقيع على تنازل رسمي عن العرش.

لقد تبين أن أليكسيس، لم يكن يخفي رغبته في وفاة والده. وكان قد وعد أنه بمجرد أن يصبح قيصرا، سيتخلى عن سانت بطرسبرج والفتوحات السويدية، ويقوم بإعادة الحكومة إلى موسكو.

مرتين، تم القبض عليه، وحكم عليه بالإعدام. بعد يومين من صدور الحكم، توفي أليكسيس من أثر التعذيب بالجلد عام 1718.

كان هذا آخر صراع لبيتر مع قوى الماضي. طوال حياته، لم يكن يسمح بأي عائق يقف في طريق مهمته الرهيبة. لقد ضحى بالراحة والرفاهية والمتعة والأخت والزوجة والابن وكل شيء، حتى يحقق فكرته العظيمة بالنهوض ببلده وجعلها دولة حديثة. لكن، ماذا كانت النتيجة؟

كان يخافه الجميع، وبات مكروها من البويار والأقنان (الفلاحين)، لدرجة أنه لم يكن هناك روسي واحد، يمكن العثور عليه في كل البلاد، لا يتمنى بإخلاص موته والخلاص منه.

قال البعض إنه كان مسحورا بالألمان. وأعلن آخرون أنه ليس ابن القيصر أليكسيس، ولكن القابلات قمن بتبديل الطفل المولود، ابن القيصر الحقيقي، بابن "ليفورت" لكي يصبح بيتر.

ويعتقد آخرون أن القيصر الحقيقي قد قتل أثناء وجوده بينالأجانب، الذين أرسلوا أحد رجالهم لقمع الروس، وتحويلهم عن الديانة الأرثوذكسية. هكذا انتشرت حوله القصص والأساطير.

كانت الأساطير تهمس بأن القيصر بيتر، قد ذهب إلى عالم الزجاج، حيث كانت تحكم امرأة، نجحت في خداعه، ووضعته في طاسة قلي ساخنة، ثم رمته في السجن.

غيرها من الأساطير تقول بأن بيتر وضع في برميل، مبطن بالمسامير، وألقي في البحر. وقالوا:

"هذا ليس سيدنا، بل هو ألماني"، وأرادوا قتله.

في الوقت نفسه، تدهورت صحة بيتر، بسبب كدحه واجتهاده. بعد وفاة أليكسيس، أصدر المرسوم الشهير الذي خول للإمبراطور الروسي باختيار خليفته. وهو الحق الذي فشل بيتر نفسه في الاستفادة منه، بالرغم من أنه قد توج "كاثرين" زوجته، إمبراطورة من بعده.

سلسلة من الحوادث عجلت بوفاة بيتر. فقد ألقى بنفسه في الماء البارد لإنقاذ طاقم بحارة غرقى. لكنه شفي من التهاب رئوي أو كاد. بعد ذلك، في أحد الاحتفالات، شرب الخمر وأفرط في الشراب. فعاودته الحمى وزادت حدتها. وقبل أن يعبر عن آخر رغباته، فقد الوعي ثم مات عام 1724.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تصحيح واجب
محمد زكريا توفيق ( 2022 / 9 / 25 - 15:36 )
أم أليكسيس وزوجة بيتر الأولى، التي وضعها في الدير، هي -يودوكسيا لوبوخينا-، وليست كاثرين كما جاء بالمقال. كاثرين هي زوجته الثانية، وخليفته في الحكم.

اخر الافلام

.. نواب في الحزب الحاكم في بريطانيا يطالبون بتصنيف الحرس الثوري


.. التصعيد الإقليمي.. العلاقات الأميركية الإيرانية | #التاسعة




.. هل تكون الحرب المقبلة بين موسكو وواشنطن بيولوجية؟ | #التاسعة


.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة علما الشعب جنوبي لبنان




.. المتحدث باسم البنتاغون: لا نريد التصعيد ونبقي تركيزنا على حم