الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيندروم We have been there: حالة البروفيسور العربي

مجيب العمري

2022 / 9 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


 اشتغلت بالمستشفيات الجامعية والجهوية بالبلد لمدة طولها ثلاثة سنوات وشهرين وثلاثة أسابيع، تامات كاملات بلا زيادة ولا نقصان. انني اكاد اجزم انني اتذكر كل اجتماع بل وكل مناوبة طيلة هذا الزمن. إبان هذه المدة داومت مساء وصباحا، عشرات وربما مئات الليالي مستيقظا اركض في ردهات الأقسام والاجنحة الرثة في المستشفيات المتهالكة.
بينما اخط هذه الاسطر، لازلت استطيع استحضار شعور انتفاض غددي الكلوية لافظة هرمونات اليقظة والحذر حتى افتح عيني على كل التفاصيل عند استجواب القصة الاكلينيكية؛ أسأل جميع الأسئلة الممكنة وغير الممكنة، العميقة المهمة وحتى التافهة المضحكة، بداية من تاريخ بداية السعال وصولا إلى عنوان صيدلي القرية اللذي أعطى مريضتنا حقنة الكوكتيل الشافية من جميع العاهات والأمراض. كانت تفاصيل دقيقة مفصلة، اغلبها غير نافع اكتبها في كنش صغير، لا استعمله في مابعد الا نادرا، والفضل كل الفضل للكورتيزول الي يبقيني منتبها حتى احفظ جميع الجرعات والجراحات السابقة في ملفها وحتى عدد خراف المريضة ونعاجها واسم ديكها وعنوان بيطري القرية. كنت احفظ كل التفاصيل بدون استثناء لعل الأساتذة/الاستاذات الخطيرين/الخطيرات اللذين/اللواتي اقابلهم/اقابلهن في الصباح الموالي، يسألونني/يسالنني ان كان بيطري إدارة الفلاحة والموارد المائية قد عاد نعجة المريض ام لا، فهذا مؤشر خطير ومهم حسب رأيهم عن أمراض شائعة ورهيبة، لا يغفر نسيانه، والويل كل الويل ان نسيت تفصيلا أو حتى نسيت اسم كلب الجيران.
كبار المهنة واساتذتها كما غيرهم في هذا العالم، فيهم الاخيار والاشرار، غير انه ولسوء حظي ( وحظ كل من قابلتهم أيضا)، كان اغلبهم من الاشرار العبوسين اللذين يجيدون الباس نزلة برد وانفلونزا موسمية، لباسا وقورا عميقا ورهيبا عن أمراض يتيمة تحدث كل مليوني ولادة أو أمراض جرثومية لا تجدها سوى في ادغال كمبوديا واحراش الأمازون ومتلازمات جراحية لم تشاهد سوى في الحرب الكبرى. يأتي هؤلاء في الصباح بميدعاتهم الغامضة المزينة بشعار احد مستشفيات الضواحي الباريسية التي اشتغلوا بها قبل سنين طويلة، تحدت فيها تلك الميدعة جميع حالات الطقس والعواصف والشهيلي والبرد القارص وبقايا سندويتش المشفى المعفن. كان المجلس مهيبا، يشبه اجتماعا للكرملن، يتوسطه بوتين الطب الذي يكيل الشتائم يمينا ويسارا لجميع المناوبين من طلبة الطب البريئين إلى الاطباء المناوبين وصولا إلى الأساتذة الآخرين. هؤلاء الاساتذة الاخرون بدورهم يكيلون فيما بعد الشتائم لنفس الاطباء المقيمين وطلبة الطب شفاءً لغليلهم وانتقاما لكرامتهم التي اغتصبها كبيرهم الذي علمهم السحر منذ قليل. كان المشهد مرعبا وتراجيديا ومثيرا للضحك في الوقت نفسه، ينتهي في كثير من الاحوال بدموع تنهمر على الكراس الطبية. امام هذا المشهد لا تملك سوى أن تضحك لسادية هؤلاء في تعذيب الطلبة وكيل الشتائم مذكريننا دوما بانهم هم ايضا قبل سنوات كانوا في نفس حال مرؤوسيهم، يسمعون الشتائم، لا ينامون الليل ويقومون بمناوبات هرقلية خارقة، يفكون فيها طلاسم تشخيصات صعبة وينقذون الاف الارواح دون ان يكونوا بقلة كفائتنا. القاسم المشترك بين الكبار كلهم، كانت تلك الجملة السحرية نحن أيضا مررنا بوضعكم, we have been there . كنت استغرب أشد الاستغراب كيف مروا بوضعنا وهم يكيلون لنا الشتائم والعقوبات والويل والثبور والستاج نون فاليدي*. كيف مروا هم أيضا بذلك وهم لا ينظرون بلا شفقة إلى دموع التعب وملامح الارهاق، فلا يتوانون لحظة عن هرسلة زميل قدم عطلة مرضية من اجل حمى، تعب بالمفاصل أو حتى حمل في الشهر التاسع، أو شتم اخرى لانها لم تعرف عدد المصابين بجنون البقر في هولندا في بدايات القرن الحالي.
ان المشاهدة اللصيقة لتصرفات لا اعتبرها شاذة وانما متكررة في المجتمع الطبي العربي على العموم دفعت بي إلى التساؤل سنوات طويلة عن مرد هذه الخشونة النفسية، التصرفات المتحطبة وفقر التعاطف المدقع. اليس من الطبيعي ان يتعاطف احد مع من مر بنفس وضعيته ويظهر له التفهم والليونة؟ كيف يمكن لكبار اليوم ان يكونوا اعداء ماضيهم يكنون له كل هذا العداء والخشونة ؟ هل من العادي اظهار كل هذا الكم من قلة التعاطف بالرغم انهم فعلا they have been there ؟
جالت كل هذه الاسئلة برأسي سنوات إلى ان صادفت دراسة راشل روتان وماري ماكدونالد المنشورة بمجلة علم النفس الاجتماعي الامريكية سنة 2015(1). والحقيقة يا عزيزي ان الاشخاص الاكثر قابلية للتعاطف معنا هم ليسوا بالضرورة من مر بظروف تشبهنا أو استعملوا جملة نحن ايضا مررنا بذلك . ان تكون موظفا وتمر بظرف عائلي صعب مثل الطلاق، أو انتظار مولود أو حتى مناوبة صعبة وتحتاج التفهم أو التعاطف أو حتى اجازة سنوية من احد رؤسائك المباشرين، في هذه الحالة عليك التوجه إلى اقل من مر بظروف مشابهة حتى يتم تفهمك. تجارب علم النفس الاجتماعي لماكدونالد وروتان اثبتت بالفعل ان اغلب من مر بظروف صعبة وصادمة مماثلة لظروفك هم غالبا الاقل تفهما لهذه الظروف، خاصة ان كانوا قد تغلبوا عليها واصبحت في عداد الماضي.
في احدى تجارب ماكدونالد وروتان تم تقسيم 323 مشاركا إلى مجموعتين: مجموعة كانت يوما ما ضحية للهرسلة (A) ومجموعة اخرى لم تكن يوما ضحية للهرسلة (B). كان على المشاركين مشاهدة شاب يتعرض للتنمر في وضعييتين: الوضعية الاولى لم يتحكم باعصابه وفشل امام المتنمرين، الوضعية الثانية تحكم جيدا باعصابه امام المتنمرين. النتيجة كانت ان مجموعة المشاركين ضحايا الهرسلة اظهرت القليل من التعاطف مع الشاب ضحية الهرسلة حين فشل في الدفاع عن نفسه وفقد اعصابه مقارنة بالمجموعة التي لم تتعرض ابدا للهرسلة. نتائج التجارب كانت حتما عكس ما كنا ننتظره، اي ان المجموعة التي تعرضت في ماضيها إلى الهرسلة (A) كانت الاقل تعاطفا مع الضحية، عوض ان تكون اكبر من يسانده، باعتبار انها تعلم علم اليقين صعوبة موقف التنمر وصعوبة التحكم في الاعصاب امام المتنمرين. الباحثون لم يكتفوا بهذه التجربة وحدها، وتواصلت سلسلة تجارب مشابهة لوضعيات اخرى اتت بنفس نتيجة تجربة التنمر. هذه النتائج جعلتنا نفكر ان الاشخاص اللذين مروا بظروف صعبة أو صادمة، هم الاصعب في الحكم على الاشخاص اللذين يمرون بنفس التجربة الصادمة فيما بعد، خاصة بعد مضي مدة طويلة من الزمن تجعلهم عاطفيا بعيدين عن ظروف الصدمة الحقيقية. هؤلاء قادرون فعلا على اطلاق احكام صعبة وعدم الشعور بالتفهم والتعاطف مع الضحايا الحاليين بالرغم من الماضي المشترك بينهم. عدم التفهم يبدو حسب نفس الدراسة نابعا من غياب القدرة على استحضار تفاصيل الصدمة أو الحادث المؤلم من جهة وهو ما يسبب هذا الفرق في التعاطف. من جهة اخرى نجاحهم في التغلب على الصدمة يلعب دورا نفسيا مهما في الشعور بالثقة التي قد تصل حد تضخم الأنا فقد نجحت انا فيما تعانيه الان، فكيف لك أنت ان لا تفعل نفس الامر .
عزيزي، عزيزتي إذا سمعت احدهم يحدثك انه هو كذلك He had been there فلا داعي لرفع سقف تطلعاتك عاليا وواصل طريقك..
-------------------------------------
* : stage non validé كلمة مفرنسة تعني ان التربص غير ناجح
(1) Having "been there" doesn t mean I care: when prior experience reduces compassion for emotional distress Rachel L Ruttan 1, Mary-Hunter McDonnell 2, Loran F Nordgren 1,Journal of Personality and Social Psychology








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل بدأ العد العكسي لعملية رفح؟ | #التاسعة


.. إيران وإسرائيل .. روسيا تدخل على خط التهدئة | #غرفة_الأخبار




.. فيتو أميركي .. وتنديد وخيبة أمل فلسطينية | #غرفة_الأخبار


.. بعد غلقه بسبب الحرب الإسرائيلية.. مخبز العجور إلى العمل في غ




.. تعرف على أصفهان الإيرانية وأهم مواقعها النووية والعسكرية