الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل تُلدغ المليشيات العراقية من الجحر نفسه مرتين؟

عباس منعثر
شاعر وكاتب مسرحي عراقي

(Abbas Amnathar)

2022 / 9 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


يبقى الشيء محتفظاً بقوته المعنوية مادام متسربلاً بالغموض، وبالانتقال الى الوضوح تحيله التجربة الى شكل قابل للامساك والتصور والمحدودية. فالطنطل مخيف جداً، حتى يكشف الوعي البشري عن صورته المتخيلة في تجسيد ما؛ فيكفّ عن التخويف ويعود الى الخرافة.

في زمن صدام حسين، كان النقد يطال أي شيء وأي شخص إلا الرئيس، غير أن فساد النظام وجوع الشعب جعل الاستياء الشعبي آخر السنوات علنياً وواضحاً. والأمر نفسه ينطبق على المليشيات بعد 2003 أثناء احكامها للسيطرة على مناطق النفوذ في المؤسسات الحكومية وخاصة العسكرية منها. يمكن التحدث في الشأن العراقي بحرية الا عن المليشيات الرسمية كالحشد الولائي او غير الرسمية كالمقاومة المتمثلة بحزب الله العراقي ومليشيات شبل الزيدي وأبو ولاء الولائي والجناح المقاوم من عصائب أهل الحق. كانت هناك هالة تحيط بهم، ورعب من التطرق الى سطوتهم والسبب أنهم –حسب الرأي السائد- لا يتورعون عن استخدام العنف وبعلم الجميع من غير أن يخشوا أي ردة فعل حكومية او شعبية.

من بين القصص الكثيرة، يُحكى عن أعضاء بالعصائب في بغداد، كانوا من السيطرة بحيث يتصلون بأي قاضي لا يعجبهم-حسب مرويات أهل بغداد- ويهددونه. فإذا امتثل للتهديد تركوه، أما اذا أصدر قراراً لا يعجبهم فسيجده أهله جثة هامدة في أقرب مزبلة في اليوم التالي. اذا تريد ان تعيش في وسط العصابات المتحكمة بالسياسة العراقية فإن كلمة السر هي السكوت عن تجاوزاتهم او الانتماء اليهم او الى جهة يخشونها، أي بالارتباط بمليشيا أخرى.

كان اللغة الوحيدة السائدة لأي مخالف هي: الموت.

في 2004، ظهرت في العراق حركات لم يكن أحد يعرفها مثل 18 شعبان والطليعة وغيرها وكانت قادرة على تصفية او اعتقال أي شخص مهما كان في أي وقت أنى كان. وقد راح الكثيرون ضحية جهلهم بأدوات وجدية هذه المجموعات المسلحة. هذه الجماعات كانت تظهر وتختفي من غير أن يعلم الناس سبب الظهور ولا يدركون سبب الاختفاء.

كانت الجهات الجهادية القادمة من ايران، تهدد، وترسل رسائل بظروف تحمل رصاصة لكل من تريد ابتزازه او تصفيته لأي سبب منطقي او فنطازي. وكان العراقي الخارج من ديكتاتورية صدام مهيئاً للرضى بأية ديكتاتورية، لكن استخدام الموت من قبل هذه الجهات كأول اختيار جعل المواطن، حتى الشيعي، يعيش في رعب التصفية والمستقبل المجهول. انها أجواء تعود بالمرء الى أيام (أبو طبر) وكيف يتحول الرعب من الموت الى حالة هي أقسى من الموت نفسه.

الوعي الشعبي، بمرور السنين والتجارب، حاول التكيف وظلّ يداوم على تحذير الناس من المواجهة مع المليشيات وخاصة تلك التي يشاع عنها إضافة الى فسادها المالي وسيطرتها على بعض المنافذ والارصفة في الميناء، انها لا تكترث أن تذبحك بقطنة، كما حصل لكثير من الناشطين والمثقفين في العراق. كان مجرد الحديث عن هذه المليشيات يثير الهلع وترى من ينصحك بتجنب ذكرهم للمحافظة على حياتك.

وفي حين كان صدام جهة حكومية ديكتاتورية محتكرة للعنف، فإننا بعد 2003 صرنا نسمع عن عصابات لا تحصى ترتدي الزي الحكومي وتطرح شعارات إسلامية وتزداد ثراءً وتحكماً بالشارع العراقي.

بمرور الزمن نشطت هذه العصابات على شكل حركات سياسية وظلت تحتكر القوة والسلاح ثم احتكرت الدولة وصارت جزءاً منها. وصلت الذروة في تصاهر السلطة والقوة في حكومة 2018 برئاسة عادل عبد المهدي، باعتباره حلاً وسطاً بدل تصادم مسلحي التيار الصدري مع مسلحي تحالف البناء بالإضافة الى مسلحي الحشد والمقاومة. ورغم نجاح الصدريين في تصفية الدولة العميقة لحزب الدعوة واستبدالها بدولة عميقة للتيار فيما بعد ذلك؛ إلا أن الثمن كان غالياً.

تُركت الحكومة بيد المليشيات وتمَّ تحريك الشارع في انتفاضة تشرينية انتجت آلاف الضحايا والمعاقين. هنا استعارت الحكومة المدعومة من ايران والمسيرة من قبل سليماني شخصياً أسلوباً طالما استخدمه خامنئي في تعامله مع الانتفاضات المتكررة للشعب الإيراني. لكن هذا التصور أخطأ في مقايسة دولة محكمة مثل ايران بدولة مفتوحة مثل العراق. فصار المخطط الناجح في مواجهة الإيرانيين فاشلا في مواجهة العراقيين، واصبح سليماني نفسه الذي جعل سطوة ايران تمتد على طول الخط الرابط ايران بالعراق بسوريا بلبنان انتهى به المطاف أن قاد ايران الى موتها النهائي في العراق.

بدل أن تقوم حكومة عبد المهدي بإلقاء القبض على بعض من الشباب المنتفض في 2018، وبدل التعامل بحكمة مع طلبات شعب عانى وحان وقت الاستماع اليه، كانت لغة الاتهام بالكفر والزندقة والبعثية والداعشية والسفارات، ليكون الرد عبر الرصاص وبطريقة هستيرية غريبة.

لقد حسبت المليشيات المنضوية في حكومة عبد المهدي ان التعامل العنيف مع اول خروج للناس سيخيف وينهي أي جهة تفكر بالخروج، وكأننا في نظام ديكتاتوري. لكن غاب عنهم ان عراق 2018 مختلف عما سبق وأن ثمة إرادة داخلية وخارجية للتغيير، فكانت المفاجأة أن الجموع ظلت تزداد تدفقاً للشوارع في المحافظات الوسطى والجنوبية كلما ازداد القتل وارتفع منسوب العنف. ولم تنجح تكتيكات (أبو فدك والخزعلي والزيدي) واتباعهم في إيقاف زخم الشارع المنتفض.

سال الدم الشيعي باليد الشيعية، فانكسرت كل المحرمات.

وفي الوقت الذي كان المحللون السياسيون العراقيون يكتفون بالتعميم الذي لا يجعلهم محاسبين من قبل المليشيات وبحيث لا يُغضب التعبير العام أحداً، تحول منطق الشارع الى كسر هالة القادة المليشياويين عنفاً وقدسية، بل صارت أسماء معينة كابو جهاد الهاشمي وأبو آلاء الولائي وأكرم الكعبي وغيرهم تتردد على السنة الناس مع نعوت ساخرة تتهمهم بالتبعية والقتل والاجرام والتخابر وسرقة المال العام. بهذا قد هبطت مهابة هذه الجهات والأحزاب الى أدنى مستوياتها حينما حاول المتظاهرون اقتحام مبنى بدر ومبنى العصائب في ذي قار.

كانت المليشيات من القوة بحيث أن مجرد فكرة اقتحام مقراتهم تبدو بعيدة المنال، فمن يجرؤ على مجابهة الرصاص المنطلق من فوهات بنادق المجاهدين؟

بناءً على هذا التصور، كان موظفو المقر التابع للعصائب قد استقروا في مكتبهم شمال مدينة الناصرية ولم يغادروه أو يغلقوه وتعاملوا مع الوضع باسترخاء. ورغم تفاجؤ عناصر المقرّ بالهجوم؛ غير انهم لم يترددوا في استخدام السلاح الحي وقتل العديد من المتظاهرين السلميين، ولولا الاستعانة ببعض المتظاهرين الاشداء (قيل أنهم من التيار الصدري) لما استطاعوا ان يدخلوا المقر ويقتلوا من فيه.

مع دخول أول متظاهر الى مقرّ العصائب انهارت هيبة أي ميليشياوي في العراق كله وأصبح محط إذلال، وسقطت الأسطورة.

تلك الدماء التي سالت قرب مقر بدر ومقر العصائب استرخصت بعد ذلك الاهانات العديدة التي وجهت الى الأحزاب عن طريق حرق مقراتها أولا ومن ثمّ مساواتها بالأرض ثانياً بالشفلات؛ بل أن الرفض وصل الى عدم السماح لتابوت المهندس وسليماني أن يدخل ساحة الحبوبي. وكان الموت المجاني الغريب في 2019 والذي بدا جنونياً وغير محسوب العواقب، هو الذي كسر حاجز الخوف وجهّز العراقيين بقدرة هائلة على مواجهة أحزاب السلطة بشدة وبشكل علني.

وبصرف النظر عن نتائج هذا الدم المهدور، وعلى الرغم من استقالة الحكومة والتفاف الأحزاب على الانتخابات ورجوعها من الشباك بعد طردها من الباب، فإن شيئا ما قد حدث: انه موت الطائفية وانهيار الكاريزما.

كان استخدام العنف بداية النهاية.

في إحدى البرامج السياسية-الحوارية ظهر شاب في التلفاز بوجه مكشوف وهو يكيل الاتهامات الى شخصيات جهادية معروفة، متهماً إياها بالقتل والإرهاب وسرقة المال العام تلك التهم التي كان من المستحيل أن تُطلق حتى في المقاهي الشعبية.

بالنتيجة، فقدت المليشيات هيبتها حينما استخدمت قوتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص