الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صوفية مضطهَدون

هاني عبد الفتاح

2022 / 9 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


التصوف رؤية خاصة نحو "الله" و"الإنسان" و"العالم"، تختلف هذه الرؤية أحيانًا عن الرؤية الرسمية التي تقررها ثقافة التدين الرسمي، وهذا ما يتم النظر إليه على أنه "خروج" عن السياق الرسمي للمفاهيم الدينية الراسخة في العقل الجمعي والمؤسسات الدينية الرسمية.

أدى هذا "الخروج" في أوقات كثيرة إلى اضطهاد كثير من الشخصيات الصوفية وصل إلى السجن والقتل والصلب، دونت لنا كتب التاريخ وكتب الطبقات العديد من هذه الحالات على مر التاريخ الإسلامي.

يذكرنا العنوان مباشرة بـمأساة "الحلاج" المصلوب و"السهروردي" المقتول على اعتبار أنهما أبرز شخصيتين صوفيتين كان لهما الحظ الأوفر من العنت والتعسف في سِيَر التراث الصوفي، لكن ثمة عشرات من النماذج التي تم اضطهادها، يصاحب هذا الاضطهاد جملة من الاتهامات أشهرها "الكفر" و"الزندقة" على اعتبار أن تهمة "الدين" أشد شناعة وأشد استفزازا لوعي للسلطة الحاكمة وسلطة المجتمع معا. والاضطهاد والاعتداء أحيانا يكون من قبل السلطة الدينية أو السلطة السياسية ، أو من كليهما يضاف إليهما سلطة الجماهير وغوغاء الناس.

ومنهم "سعيد بن جبير" المتوفى [95هـ] الذي كان مناهضا للحجاج، وثائرا على حكمه. يروى لنا ابن الجوزي في كتابه "صفة الصفوة": "عن داود بن أبي هند قال: لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال: ما أراني إلا مقتولاً". و"حين دُعي ليقتل فجعل ابنه يبكي، فقال: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة". و"لما أتي الحجاج بسعيد بن جبير قال: أنت الشقي ابن كسير؟ قال: بل أنا سعيد بن جبير. قال: بل أنت الشقي ابن كسير قال: كانت أمي أعرف باسمي منك ... قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنت أعلم بنفسك. قال: بث بعلمك قال: إذاً نسوءك ولا نسرك. قال: بث بعلمك. قال أعفني. قال: لا عفا الله عني إن أعفيتك. قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله، ترى من نفسك أموراً تريد بها الهيبة وهي التي تقحمك الهلاك، وسترد غداً فتعلم. قال: أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك ولا أقتلها أحداً بعدك. قال: إذاً تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك. قال: يا غلام السيف والنطع. فلما ولى ضحك. قال: قد بلغني أنك تضحك. قال: قد كان ذلك. قال: فما أضحكك عند القتل؟ قال: من جرأتك على الله عز وجل ومن حلم الله عنك. قال: يا غلام اقتله. فذبح من قفاه... ولم يعش الحجاج بعد هذه الواقعة غير خمسة عشر يوماً، وفي رواية: ثلاثة أيام وكان يقول: ما لي ولسعيد بن جبير؟ كلما أردت النوم أخذ برجلي"!!(( .

كذلك فُعل مثل ذلك مع ذي النون المصري المتوفى [245هـ] حينما تعصب فقهاء بلدة "أخميم" عليه، فاجتمعوا ليشهدوا عليه بالكفر أمام السلطان. و"وشوا به إلى بعض الحكام وحملوه من مصر إلى بغداد مغلولا مقيدا، فكلم الخليفة، فأعجبه، فقال [أي الخليفة]: إن كان هذا زنديقا فما على وجه الأرض مسلم"( ).

ومنهم أيضا أبو سعيد الخراز المتوفى [279هـ]، فقد أفتى العلماء بتكفيره بألفاظ وجدوها في كتبه، منها قوله "لو قلت من أين وإلى أين لم يكن جوابي غير الله"( ).

وأخرجوا سهل التستري المتوفى [283هـ] من بلده؛ البصرة، ونسبوه إلى قبائح، وكفروه، ولم يزل بالبصرة إلى أن مات بها، وذلك لأنه كان يقول "التوبة فرض على العبد في كل نَفَس" فتعصب عليه الفقهاء( ).

وشهدوا على الجنيد المتوفى [297هـ] حين كان يقرر علم التوحيد، ثم إنه تستر بالفقه. وكذلك محمد بن الفضيل البلخي المتوفى [319هـ]، فقد قالوا له أصحاب الحديث أنه لا يجوز لم أن تسكن بلدتنا، فجعلوا في عنقه حبلا ومروا به على سوق المدينة وقالوا هذا مبتدع( ).

كذلك وقع لـسمنون المُحب المتوفى [298هـ] محنة عظيمة، فقد ادعت عليه امرأة كانت تهواه، وهو يأبى أن يأتيها في الحرام..ثم إن الخليفة أمر بضرب عنقه هو وأصحابه، فمنهم من هرب ومنهم من توارى سنين"( ) حتى زالت المحنة.

وكل الدارسين في حقل التصوف يعرفون قصة الحلاج المتوفى [309هـ] ومأساة صلبه، فلا تخفى محنته، وقصته مشهورة نذكر منها طرفا، والسبب أنه "قد جرى منه كلام في مجلس حامد بن العباس الوزير، بحضرة القاضي أبي عمر فأفتى بحل دمه وكتب خطه بذلك وكتب معه من حضر المجلس من الفقهاء فقال لهم الحلاج ظهري حمى ودمي حرام وما يحل لكم أن تتأولوا علي بما يبيحه وأنا اعتقادي الإسلام ومذهبي السنة وتفضيل الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين وبقية العشرة الصحابة رضوان الله عليهم ولي كتب في السنة موجودة في الوراقين فالله الله في دمي ولم يزل يردد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم إلى أن استكملوا ما احتاجوا إليه، ونهضوا من المجلس وحمل الحلاج إلى السجن ... فتسلمه الشرطي ليلا وأصبح يوم الثلاثاء لسبع بقين أو لست بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاث مائة، فأخرجه عند باب الطاق، واجتمع من العامة خلق كثير لا يحصى عددهم وضربه الجلاد ألف سوط ولم يتأوه بل قال الشرطي لما بلغ ست مائة ادع بي إليك فإن لك عندي نصيحة تعدل فتح قسطنطينية فقال له قد قيل لي عنك أن تقول هذا وأكثر منه وليس لي إلى أن أربع الضرب عنك سبيل فلما فرغ من ضربه قطع أطرافه الأربع ثم حز رأسه وأحرق جثته ولما صارت رمادا ألقاها في دجلة ونصب الرأس على الجسر ببغداد"( ).

ومنهم بنان الحمّال [ت316هـ] الذي كان مضهدا من قاضي مصر حتى أخذه ابن طولون وحبسه سبع سنين، وكذلك أبو الحسن البوشنجي [347هـ] الذي خرج عليه الناس، فلزم المسجد وتخلف عن الخروج، واعتزل الناس إلى أن مات( ).

كذلك الحكيم الترمذي المتوفى [320هـ]، فقد أخرجوه من "بلخ" حين صنف كتاب "علل الشريعة" وكتاب "ختم الأولياء" .. وأغلظوا عليه، فجمع كتبه وألقاها في البحر( ). وكذلك أبو نعيم الأصفهاني، صاحب "الحلية" [ت340هـ] أخرجه أهل أصفهان ومنعوه من الجلوس في الجامع( ).

وقاموا على أبي القاسم النصرباذي [ت367هـ] ونفوه إلى مكة فلم يزل بها حتى مات، وقاموا على ابن سمعون الواعظ، وآذوه، وضبوه، ومنعوه من الجلوس للوعظ في الجامع، فانقطع في بيته حتى مات، فمنع الناس حضور جنازته. وكذلك الشيخ أبو الحسن الشاذلي [ت656هـ]، أخرجوه من بلاد المغرب بأتباعه، ثم كاتبوا أهل الإسكندرية بأنه سيقدم عليكم زنديق فاحذروا منه على أنفسكم وأهل بلدتكم، فجاء الشيخ إلى الإسكندرية؛ فوجد أهلها كلهم يسبونه ، ووشوا به إلى السلطان( ).

وأبو يزيد البسطامي المتوفى [461هـ]، "فقد نقل الثقات أنهم نفوه من بلده سبع مرات، فإنه لما رجع إلى بسطام من سفر، وتكلم بعلوم لا عهد لأهل بلده بها من مقامات الأنبياء والأولياء، أنكر عليه إمام بلدته والمدرس بها في علم الظاهر، وأمر أهل بلده أن يخرجوه خارج البلدة، فأخرجوه، ولم يعد إليها إلا بعد موت الحسين المذكور"( ).

وفي أكثر الأحوال كان للفقهاء الحظ الوافر من الحث والتحريض على الصوفية، كما حدث لـ«السهروردي» المقتول [549هـ - 586هـ.] ولذلك كان الصوفية يسمونهم "أهل الظاهر"( ). قتل السهروردي في السادسة والثلاثين من عمره, فقد ألب الفقهاءُ عليه الحاكم الذي كان صلاح الدين الأيوبي حينها كما يذكر لنا ذلك ابن أبي أصيبعة في «عيون الأنباء» ؛ أنه لما توجه السهروردي إلي الشام, أتى إلى حلب, وناظر الفقهاء, فلم يجاره أحد, فكثر مشنعيهم عليه, فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك صلاح الدين, واستحضر أمامه من المدرسين والفقهاء ليسمع ما يجري بينه وبينه, فتكلم السهروردي بكلام كثير, وبان له فضل عظيم, وعلم باهر, وحسن موقعه من الملك الظاهر, وقربه منه, وصار مكينا عنده. فزاد تشنيع أولئك عليه, وكتبوا مَحاضَرَ بكفره, وسيّروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين, قالوا فيها: إن بقي هذا الرجل فسيفسد اعتقاد الملك الظاهر, وإن أُطلق؛ فإنه يفسد أي ناحية يرحل بها من البلاد. فبعث صلاح الدين إلى ولده يقول: «إن هذا الشهاب السهروردي لا بد من قتله, فلا سبيل أن يطلَق أو أن يبقى بوجه من الوجوه»( ).

ومن أولئك الفقهاء الذين كانوا ينكرون على الصوفية؛ بعض الحنابلة، فقد كانوا أشد مقتا للصوفية ورغبة في التنكيل بهم، وبلغ ذروة الخلاف في محنة الصوفية المعروفة بـ"محنة غلام الخليل"، التي اتهم فيها نحو سبعين صوفيا بينهم الجنيد [ت297هـ] شيخ الطائفة ببغداد، وقد حوكموا وادينوا وصدر الحكم بإعدامه وإن أفرج عنهم بعد ذلك( ).

وقتلوا الإمام أبا القاسم بن قسي [ت546هـ]، صاحب كتاب "خلع النعلين" وابن برّجان صاحب التفسير[ت536هـ]، والمرجاني رضي الله عنه، مع كونهم أئمة يقتدي بهم، وقاموا على العفيف التلمساني [ت690هـ] صاحب التصانيف المشهورة وقالوا عنه: هو لحم خنزير، فضربوه ونفوه( ).

وأنكروا على ابن سبعين [ت668هـ] وأخرجوه من بلاد المغرب معه نجّابا يحذر أهل مصر منه، حتى قتل بمكة، ففصد يديه، وترك الدم يخرج حتى تصفى( ).

ولايزالون ينكرون على "ابن عربي" و"ابن الفارض" وغيرهما من أهل التصوف، حتى صارت كلمة الزندقة والابتداع علم على التصوف وأهله، وترسخت تلك الاتهامات في وعي الجماهير لاسيما أهل الحديث قديما السلفية حديثا.

لا يعبأ الصوفي كثيرا بمثل هذه الممارسات، لأنه يقدم نفسه على إنه غريب في هذه الحياة، وأن صورة "الآخر"، بكل أشكاله، ما هي إلا _بتعبيره_ "أغيار"، والأغيار هي ابتلاءات برزت من طبيعة هذه الحياة، فلا عجب، كما يقول ابن عطاء الله السكندري في حكمه، "لا تستغرب وقع الأقدار ما دمت في هذه الدار، فالحياة عندهم "دار التواء لا دار استواء".

إن سبب هذا الاضطهاد الذي تلقوه الصوفية، ذلك إن الصوفي رجل مختلف عليه، مشكوك فيه، لأنه ليس من الجمهور أو العامة، وإن بدا كذلك، فهو كما يقول الصوفية "جسده مع الخلق وقلبه مع الحق". فابن عربي مثلا، عند خصومه كافر زنديق، وعند أنصاره وليّ وقطب وشيخ أكبر، وقد رُوي عن الجنيد أنه قال "لا يبلغ الرجل عندنا مبلغ الرجال؛ حتى يشهد فيه ألف من علماء الرسوم بأنه زنديق" وعلماء الرسوم هم "علماء الظاهر" الذي يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وكذلك من الدين. وهذا يفسر الخصومة المشهورة التي بين "الصوفية" وأغلب "الفقهاء".

قد نستنكر هذا الكلام ولا نستسيغه، لكن الصوفية أحيانا يستدلون بحديث رواه أحمد والحاكم وصححه يقول "اذكروا الله حتى يقال مجنون"، أي، فليكن الصوفي مع الله ثم ليقل من يقول ما يقول، وبغض النظر عن هذا الاستدلال ومدى قوته، فإن الصوفي شخصية لها فلسفتها وذاتيتها التي لا تنغمس مع القطعان أو مع الشائع والرسمي من التدين، لأن وجهته الأولى إلى ربه، ولا يضيره ما يقوله الناس عنه، فقد سُئل "الحلاج" عن التصوف وهو مصلوب، فقال: "أهونه ما ترى"!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ابن سبعين لم يقتل
ابو ازهر الشامي ( 2023 / 2 / 14 - 17:16 )
غالبية المؤرخين على عدم قتل ابن سبعين

اخر الافلام

.. كيف تتطور الأعضاء الجنسية؟ | صحتك بين يديك


.. وزارة الدفاع الأميركية تنفي مسؤوليتها عن تفجير- قاعدة كالسو-




.. تقارير: احتمال انهيار محادثات وقف إطلاق النار في غزة بشكل كا


.. تركيا ومصر تدعوان لوقف إطلاق النار وتؤكدان على رفض تهجير الف




.. اشتباكات بين مقاومين وقوات الاحتلال في مخيم نور شمس بالضفة ا