الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما هو الرأسمال؟

محمد عادل زكي

2022 / 9 / 27
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مع أوائل القرن الثالث عشر ظهرت في غرب أوروبا كلمة الرأسمال(١)، وكانت تستخدم بشكل عام لتدل عن الثروة المكنّزة، أو مبلغ من المال أو مقدار دين أو سُلفة أو أصول تجارة. أي أن مستوى ظهور الكلمة حتى هذه الفترة التاريخية المبكرة كان مستوى حقل التداول؛ إذ لم يكن يوجد أي ارتباط بين كلمة الرأسمال وأي كلمة بشأن عملية الإنتاج. ويتعين أن ننتظر مجيء الآباء المؤسّسين لعلم الاقتصاد السّياسي حتى ينتقل مستوى ظهور الكلمة من مستوى حقل التداول إلى مستوى حقل الإنتاج؛ حينما تأخذ الكلمة في التبلور على يد مفكري القرن الثامن عشر، فروبرت ترجو، وهو من عظماء الطبيعيين، يُعرّف الرأسمال بأنه:"قيم متراكمة". ومع جيمس مِلْ تأخذ الكلمة في الابتعاد عن كونها مجرد لفظ يُعبر عن مبلغ من النقود، إلى اعتبارها مصطلحًا يُعبر عن عملية إنتاج كاملة تعني إنتاج السلع بالسلع من أجل السُّوق. فلقد رأى جيمس مِلْ أن الرأسمال:"سلعة معدَّة لإنتاج سلعة". أما ريكاردو فقد رأى أن الرأسمال: "هو ذلك الجزء المستثمر من ثروة الدولة في الإنتاج والذي يتألَّف من الغذاء والكساء والأدوات والمواد الخام والآلات". ويعرفه مالتس بأنه:"رصيد الأمة الموظف في الإنتاج وتوزيع الثروة أو هو ثروة متراكمة تجني الأرباح بالإنتاج". ويحرز جان باتست ساى في إطار التصور العام للكلاسيك، تقدمًا حينما يعتبر أن الرأسمال، المنتج، يتضمن المباني والآلات والمواد الخام ووسائل معيشة المنتِج، بالإضافة إلى النقود نفسها. أما جون ستيوارت مِلْ فقد ذهب إلى تعريف مصطلح الرأسمال بأنه: "المخزون المتراكم من إنتاج العمل". ورأى سيسموندي أن الرأسمال هو:"قيمة تضاعف نفسها باستمرار بواسطة الإنتاج". وهكذا نقترب من الصياغة النهائية الَّتي سوف يعلنها ماركس للكلمة على أساس من أن الرأسمال ليس مبلغًا من المال أو النقود، إنما هو علاقة اجتماعية من جهة، ووسيلة إنتاج من جهة أخرى. حيث تتحول وسائل الإنتاج مع المجتمع البرجوازي إلى رأسمال يستخدم في إنتاج السلع من أجل السوق بقصد الربح. وسوف يعتبر ماركس هذه الصفة حاسمة في تحديد أسلوب الإنتاج في المجتمع المعاصر. ولعل التطور الذي لحق استخدام كلمة الرأسمال، لغةً ومصطلحًا، وانتقال استخدام الكلمة من مستوى حقل التداول إلى مستوى حقل الإنتاج، قد جاء نتيجة عدة عوامل تضافرت على صعيد الواقع، منها تبلور الصناعات الحديثة وهيمنتها في غرب أوروبا، وبالتالي سيادة الإنتاج المتزايد من خلال الآلة من أجل السُّوق بقصد الربح، بالإضافة إلى تأزم الصراع الطبقي في حقل اقتسام المنتوج الاجتماعي بين كبار ملَّاك الأراضي (الريع) والرأسماليين (الربح) والعمال (الأجر) كصراع بين طبقات اجتماعية متناقضة في حقل التوزيع. وعلى صعيد الفكر صار الانشغال الجوهري متركزًا في حقل الإنتاج المادي للسلع، في محاولة لتقديم إجابة عن سؤالين محددين بدقة: السؤال الأول: كيف تزيد ثروات الأمم؟ وهو سؤال يتعلق بالإنتاج، وليس التداول. والسؤال الثاني: ما هي القوانين الموضوعية التي تحكم اقتسام هذه الثروات بين أعضاء المجتمع المنتج لها؟ وهو سؤال منشغل بالتوزيع. وعليه، سيصبح من المستقر في اللغتين الإنجليزية والفرنسية اعتبار كلمة الرأسمال، كمصطلح، معبرة عن الثروة أو وسائل الإنتاج الموظفة في الإنتاج من أجل الربح أو العائد. المعنى الذي سوف يقدمه الاقتصاد السياسي إذًا للرأسمال، وفقاً لاعتبارات واقع فرض هيمنته، هو المعنى الذي سوف تعتمده اللغة الإنجليزية وكذا الفرنسية، ولذا سنجد موسوعة كولومبيا تذكر:"في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يعد الرأسمال العنصر الثالث من عناصر الإنتاج مع العمل والأرض". ولكن فات الموسوعة الشهيرة أن توضح، لأن هذا مهم، أن اعتبار الرأسمال عنصرًا من عناصر الإنتاج إنما جاء بعد جهود كبيرة من قبل مفكري الاقتصاد السياسي بشأن"العمل المنتج" و"الثروة". فالاقتصاد السياسي يعرف العمل المنتج بأنه: "العمل الذي ينتج الثروة"، ومن ثم يعد العمل غير المنتج للثروة عملاً غير منتج على الإطلاق. وتجد الثروة مصدرها، في التصورات الأولى لرواد علم الاقتصاد السياسي، مثل وليم بتي وريتشارد كانتيون، في أمرين، أولهما: الأرض"كمصدر لجميع الثروات"، وثانيهما: العمل، الذي"ينتج هذه الثروة"، أو وفقًا لعبارة وليم بتي المعروفة:"العمل أبو الثروة والأرض أمها". ويصبح من الضروري الانتظار مئة عام تقريبًا حتى يتم اعتبار الرأسمال مصدرًا ثالثًا على يد مالتس؛ إذ اعتنق مالتس التصور الكلاسيكي الَّذي يرى مصدر الثروة في الأرض والعمل كمصدرين أساسيين، وأضاف الرأسمال على أساس أن العمل والأرض في حاجة إلى الرأسمال، لأنه كما يقول:"ضروري من أجل إنتاج الثروة؛ فيمكن من ثم اعتبار الرأسمال مصدراً ثالثًا للثروة"! تطور مصطلح الرأسمال إذًا يعكس التطور الذي حدث على أرض الواقع طيلة ألف سنة تقريبًا من تاريخنا الإنساني. من المؤكد أننا تحدثنا أعلاه عن مصطلح الرأسمال من خلال غض بصر متعمد، منهجيًّا، عن معرفة اللسان العربي للمصطلح، وبوضوح شديد، قبل اللسان الأوروبي بنحو سبعة قرون على أقل تقدير.

____
(١) انظر الطبعة السَّادسة من كتابي: نقد الاقتصَاد السِّياسيّ (تونس: دار المقدمة، 2021).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا، أي تداعيات لها؟| المسائية


.. الاتحاد الأوروبي يقرر فرض عقوبات جديدة على إيران




.. لماذا أجلت إسرائيل ردها على الهجوم الإيراني؟ • فرانس 24


.. مواطن يهاجم رئيسة المفوضية الأوروبية: دماء أطفال غزة على يدك




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا الحربية أغارت على بنى تحتية ومبان