الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطار آخن 9

علي دريوسي

2022 / 9 / 27
الادب والفن


عادت هنيلوري تحمل على لوح خشبيّ ثلاثة فناجين شاي. أعطته الفنجان الأصفر وأعطت سابينه الفنجان الزهري وقدمت لنفسها الفنجان الأحمر.
وزعت سابينه عليهم سجائر غارغويل ثم أشعلتها لهم.
تناول رشفة من فنجانه، إنه مر، رجاها أن تعطيه قطعة سكر.
تدخلت سابينه بنبرة حاسمة:
ـ نحن نشرب الشاي بدون سكر، هذا شيء صحيّ يجب أن تتعلمه، اليوم ستحصل على قطعة سكَّر، على أن لا تعيد طلبها ثانية.
تفاجأ إبراهيم من ردة فعلها الغريبة، تجاهل ما قالته ولم يرغب الدخول في التفاصيل التي يعشعش فيها إبليس. تناول قطعة السُّكَّر، وضعها في الفنجان وبدأ يحرّكها.
نظر إبراهيم إلى منافض السجائر على طاولة المطبخ، إلى القداحات الملونة وعلب الثقاب، عدّها بصمت، خمس قداحات وثلاث علب ثقاب، نظر إلى ألوان فناجين الشاي، الأحمر والزهري والأصفر، رمق حائط المطبخ على يمينه، هناك لوحة لباقة زهور ذات ألوان مختلفة، تأملها، لوحة زهور الخشخاش، للرسام فان غوخ، لوحة "مزهرية وزهور" رسمها قبل ثلاث سنوات من انتحاره، ألوانها تشبه ألوان فناجين الشاي في المطبخ.
أنهى إبراهيم شايه ثم نهض، استأذنهما بالذهاب إلى دورة المياه.
**
خرج من المطبخ وهو يحس نفسه صفراً كبيراً على الشمال!
مشى في الممر الطويل، معرض رسوماتها المفضّلة، سرداب أحلامه الشبقة، فتح باب حمّام الضيوف، دخل، انبثق ضوء بعد نُعاس، نور بلون الليمون الساحلي، السقف عالٍ ومدهونٌ بالأحمر، الجدران بلون زيتون قريته، الأرضية مفروشة بسجادة سوداء ناعمة الوبر ذكرّته بخيباته السوداء.
على يسار الباب ثمة مغسلة صغيرة، مرآة ورف حضارة! تتربعه شمعة حمراء إسطوانية الشكل بقطر حوالي أربعة سَنتيمترات، "ماذا تفعلين بالشمعة الحمراء يا سابينه؟، علب ماكياج، زجاجات عطر ماركة "غارغويل" لا تبدو عليها ملامح الرخص، وعلبة باللون الأزرق الفاتح كُتِبَ عليها: "زيت أطفال". ابتسم في سره إذْ تذكّر شيئاً خاصاً حميماً.
في الزاوية اليمنى من المغسلة انتصبت خزانة ضيقة عالية، في كل رف منها مجموعة مناشف بلون واحد، أربع مجموعات بالأحمر، الزهري، الأصفر والأخضر، غطاء التواليت أبيض، رفعه عالياً، ثمة كرات ملونة للتعقيم والتنظيف عُلقت على حافة المقعد، على مهلٍ فكّ حزام بنطلونه، فكّ زره الوحيد، سحب سحّابه، أسدل ستار بنطلونه حتى الركبتين، أنزل سرواله الداخلي، جلس على المقعد، على يمينه "لفة وَرَق الحَمّامِ الصحي" باللون الزهري، بجانبها فرشاة تنظيف أنيقة، أمامه وتحت المغسلة مباشرة تقبع كُمُودينا بيضاء صغيرة، على سطحها عدة لحفلة تدخين بكامل حلتها: علب ثقاب، قداحات ملونة، منفضة سجائر وعلبة غارغويل نصف فارغة، فتح باب الكُمُودينا بدافع الفضول، لم يجد إلّا المزيد من لفات المحارم الصحية وعلب التنظيف والتعقيم. قال في نفسه: "يا لمجتمع المحارم والتعقيم".
**
يأتيه صوت سابينه ناعماً من الخارج، تبحث عنه:
ـ إبراهيم، أين بقيت يا إبراهيم؟
سمع هسيس خشخشة قدميها فوق أرضية البيت الخشبية، إنها تقترب، تفتح الباب، في تلك اللحظة يمنحه جسده اللذة، لذة إخراح البول، يرتجف من النشوة، تقترب منه أكثر، تمسك رأسه بيديها، تُدخله فيها، في بطنها، يحتضنها في وضعية جلوس، تهمس: لا داعي للعجلة، خذ وقتك، قطرة الماء الأخيرة ملعونة في العادة، دعها تطير.
شدّ جسدها، مؤخرتها صوبه أكثر، شعرت بلهيب أنفاسه في بطنها، شعرت ببلل خفيف، صعدت بنصفها العلوي إلى الأعلى، هبطت بنصفها السفلي إلى الأسفل، ضغطت على رأسه برفق، أنزلته أكثر، كانت داخل جسدها الشامخ مثل "فلينة" مضغوطة مهمّلةَ اللَّون خفيفة. في تلك الليلة، في غرفته الصغيرة قبل أسابيع، كانت مثل سِدادة لزجاجة نبيذ، وكان هو النبيذ الحبيس في الزجاجة، لم تسمح له أن يشمّها كما ينبغي، واليوم كلّما تنفَّسها بعُمقٍ، يشمّ فيها رائحةَ الشاي المعتّق، سجائر غارغويل، عطرها الخفيف، ورائحة الشوكولاتة المَشْوِيّة، يشُمّ رائحة الموت حيناً والحياة أحياناً.
إبدأي يا امرأة درسَ الموتِ التّمهيديّ في بيت الشرق، كوني أوَّل من يبادر إلى رحلة العبور ما بين ضفَّتَيْن، "أولم يروا كيف يُبدئ الله الخلق ثم يُعيده"، قامريْ بنفسك، اركبي الموج العاتي في ليل عاتٍ، اعبريْ الجسر والبحر، اعبريْ به إلى أهوارِ الحب والجنس والموت قبل أن تتساقط آخر الضفائر المتبقيات من شعرك وشعره، قبل أن تبكي شعرك ويبكي شعره، قبل أن تتشقَّقَ أسنانك الفوضوية المتزاحمة كرجالٍ على قارب نجاة، وإذ تعبرين البحر موتيْ، موتيْ كي يُقوِّم البحرُ بأمواجه ما اعوجّ من أسنانك اللبنيّة الحلوة قبلَ أن تتعفَّن كالفِلِّين الكَتُوم، موتيْ كي يُعَزّى بك في هافانا الشرق شيخ البحر هيمنجواي، موتيْ كي يحيا بكِ.
يرجوك أن ترفعيه من قعدته، دعيه يقوم، يريد أن يتنفسك من فمك، يريد أن يشرب ماء الجسد منك، فقط هنا، في الغربة، تعلم من النساء كيف يشرب الماء، في وطنه الأول، كان يشربُه حين يعطش أو حين تلعبُ به شمس الظهيرة، أرجوك، يرجوك أن اسمحي له أن يقوم، تعب من عناق العالم السفلي، اشتاق لعناق العالم العلوي، شمعته الحمراء تشتهي الانصهار في المنطقة الوسطى بين العالمين، الآن يقومُ من جلسته، الشمع يحترق ويذوب، والولد الحزين في داخله يقوم، ينهض من حزنه، الرائحة أيقظته، العناق أنهضه، يبدأ الرسم، يرسم رائحة القيامة لعناق الشرق مع الغرب في حمّام ضيوف، ضميه أكثر كي يطول مساء القيامة، كي يفهم الولد الذي كانه معنى يوم القيامة، بالقيامة تتجدد الأمنيات ويعود الجسد للهدوء الذي يحبُ بعد وعثاء السفر ورحلات السباق مع الأوهام والشكوك والوساوس.
**








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد