الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المرأة المطلقة في رواية -تعويذة الجليلة- للروائي كميل أبو حنيش

رائد الحواري

2022 / 9 / 28
الادب والفن


عندما تمتد أحداث الرواية لمدة تزيد عن السبعين عاما، ويتم تحديد الشخصيات، فإن هذا يحتاج إلى قدرة استثنائية من السارد ليسيطر على الأحداث وعلى الشخصيات، وهذا يعد ميزة لرواية "تعويذة الجليلة" أما الميزة الثانية فتتمثل في أنها رواية المرأة الفلسطينية بامتياز، "فالجليلة، وداد، روزا" نساء تفوقن على الرجال، "الجليلة" تفوقت على زوجها "مصطفى" و"وداد" أعطت وأخلصت لعائلتها أكثر من زوجها "عودة" و"روز" قدمت لعائلتها أكثر من أسرتها، وإذا ما توقفنا عند شخصيات النساء والرجال سنجد أن الرجال كانوا يحومون حول الأم الجليلة، مما جعل الرواية وكأنها تؤكد أقدمية وأهمية الإلهة الأم، فقبل "الجليلة" كانت الجدة "عريفة" هي مركز العائلة، وبعد حرب 1948، أصبحت الجليلة مركز العائلة ومحورها، وهي من أسس وبنى وجمع العائلة اجتماعيا واقتصاديا، بعد أن اقترحت على "مصطفى" شراء أرض ليقيم بيارة فيها بدل تلك التي تركوها في سلمة.
مكان الأحداث: فلسطين التاريخية، فالعائلة كانت تقيم في قرية "سلمة" قبل عام 1948، وقد استشهد "سعيد" شقيق "الجليلة" وقبله كان "أمين" شقيق "مصطفى" الذي استشهد أثناء تصديه للصهاينة، أما "مصطفى" فقد استمر في المقاومة حتى نفدت منه الذخيرة، مما دفعه للانسحاب غربا وتحديدا إلى مدينة نابلس، حيث أقام مع أسرته في بيت "عديلة" شقيقة "الجليلة" إلى أن اقترحت عليه "الجليلة" شراء قطعة أرض في منطقة الفارعة ليقيموا فيها مشاريعهم الاقتصادية ويبدأوا حياتهم من جديد.
في أرض الفارعة تبدأ أسرة الجليلة بالعمل الزراعي وتربية المواشي والدواجن، وأيضا تأخذ الأسرة في التمدد بعد أن تزوج "عمر، وسليم، وعودة، وبشير ونصرة" إلى أن وصل عدد أفراد عائلة "الجليلة" مائة وستين فردا، وما كان لهذه الأسرى أن تجتمع في البيارة دون إدارة "الجليلة" التي استطاعت أن تحافظ على وحدة الأسرة، بعد أن حلت النزاعات التي نشأت بين أبنائها، ونقتها من الخلافات والصراعات، من خلال تهديد "رقية وصفية" زوجتي عمر وبشير".
ولم تقتصر الصعوبات التي واجهة العائلة بالخلافات الأسرية فحسب، بل طالت أيضا الاحتلال الذي اعتقل "نزار" والذي اعترف أن الجليلة تخفي
بندقية، فما كان منها إلا أن أنكرت ذلك وأكدت أن "نزار" يمارس الكذب ليوقف ما تعرض له من تعذيب، وفعلا نجحت في دفعه للتراجع عن اعترافه، ولم تكتفِ بهذا فنجدها تساعد الفدائيين من خلال إيوائهم في الكهف وتقديم الطعام والشراب لهم، ونجدها تساعد حفيدها "فادي" على شراء مسدس، هذا عدا عن دعمها "لروزا" في عملها الاجتماعي في مخيم الفارعة.
وإذا ما أخذنا أفعالها وأقوالها ومواقفها، سنجدها امرأة خارقة بكل معنى الكلمة، فهي أكثر من حكيمة، قوية، حنونة، تملك زمام المبادرة، تظهر عاطفتها وحنانها وتحجبهما، وقت ما يستوجب ذلك ـ رغم أنها أم ـ فعندما عاد "عودة" بعد غياب ستة وعشرين عاما، دون أن يكلف نفسه إشعار عائلته بمكان وجوده، تبرأت منه وطردته من البيت، وذلك لتقتص لزوجته "وداد" التي انتظرته كل هذه السنين.
كرامة الجليلة:
"الجليلة" مركز الأحداث ومحورها، فالاسم بحد ذاته له علاقة بالقدسية والمكانة الرفيعة، وهذا يحسب للسارد الذي أحسن اختيار الاسم، فالمعنى منسجم مع أفعلها وأقوالها ومواقفها، ومع المكانة التي كونتها لنفسها، فلا زوجها "مصطفى" ولا أولادها استطاعوا أن يقوموا بفعلها، لهذا كانوا يحترمونها ويقدرونها ويحبونها.
بداية "الجليلة" تشير إلى أنها صاحبة (كرامة) فقبل استشهاد "أمين" الذي أنقذها من حارس المستعمرة، والذي قام بقتله لاحقا، يأتيها في المنام ليخبرها بأنه استشهد: "أنها رأت أمينا في الحلم وأنه أخبرها بسقوطه شهيدا" ص39، ولم تقتصر رؤيتها على حبيبها "أمين"، بل تكرر مع شقيقها "سعيد": "في تلك الليلة زراها أمين برفقة سعيد وكان يضحك، وكانا يرتديان ثيابهما البيضاء، قال لها سعيد بأنه سيمضي مع أمين ولن يعود إليهم من جديد،...، بعد أسبوع جاء خبر سعيد واستشهاده في إحدى المعارك في جبال قرى طولكرم" ص41، أثر الشهيدان سيبقى فاعلا ومؤثرا في "الجليلة"، فعندما تأتي عائلة "أمين" لتخطب "الجليلة لمصطفى" ترفض، لأن "أمين" يأتيها في الحلم: "صورته لا تفارقني منذ أن حملني بين ذراعيه قبل سنوات" ص49، هذا الوفاء للأمين يشير إلى أنها ليست كباقي النساء تبحث عن الجنس، لهذا استمر رفضها إلى أن أقنعتها جدتها "مريومة" بأنه من الطبيعي ـ أن يتزوج الأخ زوجة أخيه
المتوفي، وما كانت لتقتنع وتسلم بهذه الفكرة حتى رأت في حلمها: "رأت أمينا وسعيدا في حلمها كانا معا يضحكان ويراقبان بثيابهما البيضاء، باركوا لها بالزواج من مصطفى ومنذ تلك الليلة لم تعد ترى أمينا في احلامها" ص51، الرؤية لا تأتي إلا لأصحاب الكرامة، الذين يتمتعون ببصيرة وقدرات على التحمل والصبر، وهذا ما كان من "الجليلة".
قوة الجليلة:
بعد هجرة عام 1948 وما أصاب الفلسطيني من يأس بعد أن فقد وطنه، وممتلكاته، وثروته، وعائلته، تقرر الجليلة أن تبدأ من جديد، مخاطبة زوجها "مصطفى": "علينا أن لا نبقى منكسرين، يتعين علينا النهوض على أقدامنا من جديد.
ـ وماذا تريدين مني أن أفعل؟ أخبريني!
ـ أريدك أن تتخلص من شعورك بالانكسار والذل حتى يكون بوسعك النهوض... ماذا لو اشترينا أرضا وشيدنا فيها بيتا" ص67 و68، هكذا بدأت حياة العائلة تتغير وتتبدل من السكون إلى الحركة والعمل، فكان البيت وكانت حظائر الأغنام والأبقار وزراعة أشجار الزيتون وكل ما تحتاجه الأسرة من خضار.
وعندما تصارحها أختها "عديلة" بأن "ربحي وعودة" يعملان مع الفدائيين، ترد عليها: "دعيهما يفعلان ما يطيب لهما، أبناؤنا لم يعدوا أطفالا حتى نخشى عليهم، وإذا كانا يعملان على مساعدة الفدائيين فهذا أمر يبعث على الاعتزاز والفخر" ص136، بهذا الفكر الثوري كانت "الجليلة"، فقد فضلت أن يكون ابنها فدائيا، يمكن أن يستشهد أو يتم أسره، على أن يكون مجرد فرد عادي.
الجليلة كامرأة وكزوجة:
بعد هزيمة 48 يصاب "مصطفى" بفقدان الشهوة الجنسية، وهنا تصارحه بحاجتها، لكنه يخبرها بحقيقته: "المشكلة ليست فيك يا جليلة بل كامنة في أنا، أنا عاجز يا جليلة منذ أن أخرجنا من سلمة، أحسست بأنني قد انطفأت وانطفأت شهوتي، أعجز عن تفسير ما حل بي لقد هزمنا وهزمت رجولتنا أيضا" ص84 و85، ورغم هذه الحقيقة، إلا أنها حاولت أن تعيده إلى طبيعته، وبعد أن فشلت عملت على التعامل معه بشكل آخر: "حولتها إلى
دعابة ومشاكسات، فكانت تضحك من عجزه وتعيره بأنه قد صار عجوزا معطوبا وتقول له:
ـ إذا لم تفلح سأتزوج عليك
فيضحك مصطفى
ـ لا يحل لك شرعا الزواج علي
ـ إذن سأرفع عليك قضية وأطلب بالخلع، وأتزوج بشاب جميل" ص85، بهذه المشاكسات حاولت أن تخرج زوجها مما هو فيه، إلى أن ظهر عبد الناصر بمشروعه الوحدوي والمعادي للغرب واستعاد ذكورته.
وبعد أن أخذ "مصطفى" بالاهتمام بخطب عبد الناصر، مما أثر على عمله في البيارة، خاطبته قائلة: "أنت تستقبل ضيوفك كل يوم، وأحيانا عدة مرات في اليوم، ولم تعد تعمل كما في السابق، بينما أعمل أنا مثل الحمارة منذ ساعات الصباح وحتى آخر الليل، أرحمني وأشفق على حالي يا رجل" ص96، نلاحظ أن "الجليلة" تصارح زوجها بمشاكل الأسرة أولا بأول، وهذا أحد أسس الأسرة الناجحة، فمعالجة المشاكل سمة صحية في أي مؤسسة، وهذا ما كانت تقوم به "الجليلة".
الجليلة كربة أسرة
"بعد أن تزوج "عمر وبشير" من "صفية ورقية" أخذت المشاكل بينهما تزداد، وكان لا بد من وضع حد لهذه الخلافات، وكعادتها واجهتهما وهددتهما بقولها: "أقسم بالله العظيم وبغربة ابني عودة وبسنوات غربتي وزوجي وأبنائي، وبدماء أخي سعيد إن لم ينته هذا الخلاف اليوم سأجعلكن تندمن طيلة حياتكن، وستذهبن إلى بيت أهلكن، وتبقين هناك مدى الحياة، وأقسم أيضا لأزوجن عمرا وبشيرا بنساء غيركن، عندها تستطعن في بيت أهلكن أن تكملا صراعكن، وتتعاركا كما يحلو لكن من دون أن يتدخل أحد منا" ص156، إذن "الجليلة" لا تعرف أن تتغاضى عن أي خلل تمر به العائلة، فهي تقف بحزم أمام أي خلل يحدث، وتعمل على معالجته، إما بالترغيب، أو بالترهيب، من هنا كانت عائلتها منسجمة، وتتنامى باستمرار.
وعندما يحتج "عمر" على لبس "روزا" وكيف أن الناس يتحدثون عنها: ترد عليه بقولها: "فلتخرس كل من يأتي على ذكرها بسوء، فمن لديه
شرف لا يلتفت إلى ما تردتيه النساء، وبدلا من أن يمضوا وقتهم في التحديق بالنساء ولباسهن فليذهبوا ويشاركوا في الانتفاضة، وليقدموا ما تقدمه روزا وبعدها يتحدثون" ص209، منطق يصب في بناء علاقات اجتماعية تتجاوز الشكل إلى الاهتمام بالجوهر والتركيز عليه، فرغم فارق العمر بين "عمر والجليلة"، إلا أنها كانت أكثر حداثة منه وتفهما لما تقوم به "روزا".
وبعد عودة "عودة" وما أحدثه من أثر في زوجته "وداد" تقرر أن يكون التعامل معه بهذا الشكل: "فسنمنحه يومين لاستقبال المهنئين وفي اليوم الثالث، سنجتمع به كلنا ونتيح له الفرصة أن يروي لنا قصة غيابه واختفائه" ص249، هذا التصرف كان بعيدا عن كونها أما، فقد جاءت لتؤكد أنها تعمل على الحفاظ على وحدة العائلة، حتى لو كان ذلك على حساب مشاعرها كأم، فالعائلة عندها كانت تمثل أهم، لهذا بعد أن تمت المواجهة مع "عودة" تتبرأ منه وتطرده من البيت، توضح هذا الأمر بقولها: "كان يتعين علي أن أنتقم للمسكينة وداد وأنصفها، فقضية وداد مسألة ضمير وحسب وأنا أنحاز دوما لما يمليه علي ضميري" ص261، بهذا الشكل استطاعت "الجليلة" أن تحافظ على وحدة العائلة وأن تقيم العدل وتقتص من المخطئ حتى لو كان أبنها الغائب.
حكمة الجليلة:
لم يكن حديث الجليلة أقل أثرا من فعلها، فهي صاحبة رأي وفكر، وترى الأمور بمنظور العارفة والعالمة، من هنا نجدها تخاطب حفيدها "فادي" عن السلاح وكيف يجب أن تكون صفات من يحملونه بقولها: "أن تعرف كيف تحملها؟ وكيف تصونها وتقدر قيمتها؟ وليس المهم أن تصبح مقاتلا، ولكن المهم أن تعرف كيف تقاتل، ومن تقاتل، ولماذا تقاتل؟... من يحملها في هذا الزمن عليه أن يكون واثقا من نفسه، لأن الطريق وعرة يا بني وليست سهلة كما يحسب بعض الهواة والمغامرين" ص173، إذا ما توقفنا عند قولها، نجده نابعاً من معرفة ودراية بكل تفاصيل وأخلاق الثوار، وهذا يعود إلى أنها تعلمت وأخذت العبرة من استشهاد "أمين وسعيد" فخرجت بهذه الفكرة المتقدمة، والتي تنم عن ذكاء وقدرة على الاستنتاج واستخلاص الأفكار مما حدث.
وعندما يتم عرض فيلم عن قريتها "سلمة" المدمرة تخاطب أولادها: "ليس بمقدورنا العودة للماضي، ولكن بمقدورنا الحفاظ على الذاكرة من أجل
أبناء المستقبل" ص 274، هذه الرؤية تمثل نهج للمستقبل وكيف يجب أن يتم التعامل مع الماضي ضمن الواقع.
الجليلة كمقاومة للمحتل:
عندما يقبض على نزار، ويأتي مع الجنود ليخرج البندقة، تكون الجليلة قد أخرجتها من مخبئها القديم ووضعتها في الكهف، تخاطب نزار بقولها: "إلى متى ستظل تكذب يا ولد؟ وإلى متى ستبقى تصدق كل ما يخيل لك أو تحلم به؟" ص178، وعندما يهددها الجندي بضرورة تسليم البندقية التي اعترف "نزار" بوجودها: "إذا لم تسلموا البارودة الآن سأعتقلكم جميعا، النساء قبل الرجال، الصغار قبل الكبار، أهدم بيوتكم جميعا".
ردت عليه الجليلة بتجبر: "أفعل ما تشاء، ليس لدينا ما نسلمه لك" ص178 و179، ورغم خضوعها للتحقيق والتعذيب إلا أنها تنكر وجودها، وهذا ما دفع نزاراً للتراجع عن اعترافه.
يحاورها ضابط التحقيق محاولا استفزازها من خلال الهزيمة التي لحقت بالعرب وبالفلسطينيين، فترد عليه: "ليس مهما كم سأعيش فإذا لم أعد أنا، سيعود واحد من أبنائي وأحفادي ذات يوم، ويعيد بناء سلمة، المهم أن نبقى نورث الأبناء والأحفاد حلم العودة" ص183، بهذا الشكل تكون الجليلة قد أثبتت أنها صاحبة موقف، حتى وهي في الأسر وقادرة على الرد على عنجهية الاحتلال رغم ما يملكه من القوة.
لم تقتصر مقاومة الجليلة في صمودها فحسب، بل ما علمته لحفيدها "فادي" من منطق الكرامة والعزة: "إن التعذيب يهون أمام الشرف والكرامة" ص184، هذا الانسجام بين الفعل والقول هو ما يميز الجليلة. يقضي "نزار" خمس سنوات في الأسر ثم يخرج، يعتذر لها عما بدر منه من تراجع تحت التعذيب، فتخاطبه قائلة: "يا ولدي قد يسقط الإنسان أرضا أكثر من مرة، ولكن المهم أن يعرف كيف ينهض من جديد... بل ستنهض إن امتلكت الإرادة وتعلمت من خطيئة السقوط، فالعبرة ليست في السقوط بل بالقدرة على النهوض" ص200 و201، إذا ما توقفنا عند ما قالته "الجليلة" سنجد فيه خلاصة القدرة على العمل والفعل، فهي لا تعترف بالهزيمة/ السقوط، وتصرّ على المحاولة من جديد، جاعلة من التعلم من الأخطاء وسيلة لرفع المعنوية وأخذ المزيد من المعرفة للقيام بمحاولة جديدة حتى تحقيق الهدف.
مصطفى:
رغم البداية الموفقة التي بدأها من خلال مشاركته في حرب 48 وقتاله حتى آخر رصاصة، إلا أن وقع الهزيمة كان ثقيلا عليه، مما جعله عاجزاً عن الفعل والتفكير الإيجابي، وحتى عن ممارسة دوره كزوج، فهو ينتشي بالأحداث الإيجابية وينتكس بالسلبية: "ذكورة مصطفى التي تنتعش في أجواء الحرب والأخبار الطيبة، وتعود وتنتكس مع الهزائم والأخبار السيئة" ص130، وهذا ما جعله رجلاً مهزوزاً غير متزن، وكانت حرب تشرين عام 1973 آخر انتكاسة له والتي قضت عليه، بينما كانت الجليلة تبني البيارة والبيوت والأسرة وتعالج مشاكلها، وهذا ما يجعل الرواية رواية المرأة بامتياز، حيث أثبت الجليلة أنها أقوى وأكثر قدرة على قيادة الأسرة وبنائها ونمائها.
عبد الناصر والبعل:
هناك العديد من الروايات العربية تناولت عبد الناصر وأثره الإيجابي على شعوب المنطقة، وتأتي رواية "تعويذة الجليلة" لتؤكد هذا التوجه، فقد جاء ذكر عبد الناصر بصورة إيجابية وحتى مطلق الإيجابية: "تغير مصطفى وانبعثت آمال العودة إلى سلمة من جديد، أيقظها حضور عبد الناصر في زمن عربي متهالك وعادت الجليلة أنثى العشق المتوهجة" ص86، نلاحظ أن السارد يربط من حضور عبد الناصر والفرح/ الأمل جاء معه، وبين الخصب الجنسي، وهذا يأخذنا إلى حضور/عودة البعل وأثره الإيجابي على الطبيعة وعلى البشر، حيث كان يكثر الخير والخصب ويمارس الجنس المقدس في المعابد، فبدا حضور عبد الناصر كما لو أنه حضور للبعل، وفي زمن غير زمن عبد الناصر.
يستمر السارد في الربط بين حضور ناصر وحضور البعل بقوله: "مع بزوع نجم عبد الناصر تغير كل شيء، وبات يعلق آملا كبيرة عليه" ص95، رغم أن الحديث متعلق "بمصطفى" إلا أن المشهد يأخذنا إلى البعل وعودته.
وكما ندب السوري القديم غياب البعل، ندب "مصطفى" والناس عبد الناصر: "لكن خبر رحيل عبد الناصر كان له الواقع الأقسى، بكاء مصطفى وبكاء الأصدقاء القدامى الذين تقاطروا على الكوخ في البيارة" ص154، بهذا الشكل استطاع السارد أن يربط الحاضر بالماضي، وبما
أنه قد تحدث بصورة (مجردة/ مستقلة) عن عبد الناصر، إلا أن ذلك يأخذ القارئ إلى الماضي الأسطوري، وهذا ما جعل الرواية تتجاوز الواقع.
الرمز:
رغم أن الرواية تتحدث عن أحداث واقعية/ حقيقية، إلا أن الرمز كان حاضرا فيها، خاصة عندما تناولت عودة "عودة" بعد غيابه الطويل، فقد استطاعت السارد أن يدخلنا إلى الرمز بكل ما فيه.
لكن قبلها ركز على الشباب ودورهم في تغيير الواقع والقيام بالثورة، يتحدث "عودة" مع والده "مصطفى" حول البندقية بقوله: "أنا أولى منك بها الآن، لقد جاء دوري" ص134، فهذا المشهد له أبعاد رمزية، تأخذنا إلى دور الشباب في التغيير والعمل.
وهذا ما أكدته "الجليلة" عندما قالت عن "عودة": "عودة هو الوحيد الذي أفلت من قبضتي وعجزت عن ترويضه" ص159، لكن بعد أن غاب طويلا وعاد مع العائدين بعد أوسلو، تغير الحال، وأصبح "عودة" يمثل أوسلو والعائدين معه، من هنا كان: "أنسباؤه وأقاربه في يافا لم يحضر أي منهم حتى يسلم عليه وتهنئته بالعودة" ص251، هذا المشهد يأخذنا إلى حقيقة ما أصاب أهلنا في ال48 من يأس بعد أن اعتبرتهم اتفاقيات أوسلو مواطنين إسرائيليين غير فلسطينيين.
يقدم السارد مشهد جلسة محاكمة "عودة" لمعرفة سبب عدم تواصله مع عائلته بهذا الشكل: "جلسوا جميعا على كنبة واحدة قبالته وأبقوه وحده على مقعده وكأنه في جلسة محكمة، وبعد قليل دخلت وداد من دون أي سلام أو كلام، كانت متجهمة الوجه ورأسها محنيا للأسفل وكانت ترتدي غطاء فوق رأسها كما لو أنها تلتقي برجل غريب وليس بزوجه" ص252، لا شك أن المشهد أبعد وأعمق من أن يكون متعلقاً برجوع شخص واحد "عودة" حيث يمكن أخذ "وداد" على أنها ترمز لفلسطين التي رأت ابنها/ زوجها الفدائي يأتي بهذا الاتفاق الهزيل، فكان رأسها المحنى كناية عن عدم رضاها بهذا الاتفاق/ الرجوع. وارتداؤها غطاء الراس إشارة على أن العائد لا يمثلها ولا ينتمي لها.
وعندما نطقت "وداد" طلقني" أكدت أن "عودة"/ أوسلو لا ينسجم معها وعلى وجود هوة سحيقة تفصل فلسطين عمن جاءوا/ عادوا مع اوسلو.
كما نجد الرمز في استمرارية نهج وفكر "الجليلة" عندما تم تسمية بنت "عائد" "الجليلة" فالسارد أراد تأكيد نهج الجلية وفعله المتجدد، من خلال ولادة شبيه بها وقبيل وفاتها، فكانت السلسة التي في عنقها تمثل هذا الاستمرارية: "تعالي يا ميمة انتزع السلسة من عنقي" ص309، وهذا ما أخرج الرواية من ثوب الواقعية إلى الرمزية وجعلها أكثر جمالا.
كميل أبو حنيش:
من خلال الأحداث والسرد الروائي نجد شخصية الكاتب "كميل أبو حنيش" حاضرة في الرواية، فهناك مجموعة مشاهد وشخصيات جاءت من خلال الكاتب وتدخله في السرد، منها "عريفة" جدته والتي أهداها الرواية، فقد جعلها جزءاً أساسياً من أحداث الرواية: "لماذا لا تأخذينها عند الحاجة عريفة، لتقرأ فوق رأسها المعوذتين وسورة يسن وتباركها؟" ص27، وهذا يشير إلى أن الكاتب لم يستطع أن يخفي حبه لجدته "عريفة" فجاء حضورها في الرواية كتأكيد لهذا الحب، على أنه غير قادر على إبقائها مستترة خلف "الجليلة" الشخصية المركزية في الرواية.
ونجد "كميل" من خلال رفيقه الشهيد "فادي" الذي يكن له الحب والاحترام، فأوجد شخصية "فادي" ابن "عودة" والتي تتماثل تماما مع شخصية الشهيد الثائر والمقاوم. وما العلاقة المتميزة بين الجليلة/ عريفة وبين "فادي" إلا انعكاس لصورة كميل مع جدته "عريفة". من هنا كان التوافق الكلي والانسجام بينهما.
الرواية من منشورات دار الشامل للنشر والتوزيع، نابلس، فلسطين، الطبعة الأولى








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع