الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-هشام سليم-… الأبُ الجسور

فاطمة ناعوت

2022 / 9 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نُخفي عنها الجرائد! وأتمنى ألا يتسرّب لها هذا المقال، وهي المعتادة على قراءة جميع مقالاتي! ولا أدري كيف سأُعزّيها؟! وكيف سيكونُ الحوارُ بيننا بعد رحيل ابنها! أخشى زيارتها؛ وأطمئن عليها من خلال صديقتنا المشتركة السيدة "مشيرة محمود"، والممرضات المرافقات. رحل "هشام" الجميل قُرّة عين أمّه السيدة "زينب لطفي"، ولا ندري كيف نخبرها بالفجيعة وهي بعدُ لا تعرفُ شيئًا عن مرضه الذي خطفه منّا! كان حريصًا على ألا تعرف، وكنّا حريصين؛ نخترع الحيلةَ تلو الحيلةِ لإخفاء الأمر عنها. استوحشته حين تأخر في مهاتفتها. قبل عام كانت في زيارتي وأخبرتني باكيةً أن "هشام" الحنون لا يسأل عنها! اتصلتُ به ومازحتُه بأنني خطفتُ والدتَه، فقال إنه مطمئنٌ عليها معي. جاهدَ ألا يبدو صوتُه واهنًا وأخبرها أنه بخير ومعتكفٌ في الغردقة. هو الابنُ البارُّ الذي صوتُه يردُّ إليها روحها العطشى لاحتضانه والشبع من عينيه الطيبتين وملامحه التي اقتطف وسامتَها من والده مايسترو كرة القدم كابتن "صالح سليم” رحمه الله. في جميع لقاءاتنا في بيتها الأنيق بالزمالك، كانت تقول لي: “سيلڤوبليه، هاتي الصورة اللي على الكونسول." فأنهض وآتي بصورة تجمع الشقيقين خالد وهشام؛ طفلين على البلاج. تشير إلى هشام قائلة: “عمرك شوفتي طفل أجمل من كده؟!” ثم تُقبّل الطفلين، وتعطيني الصورة لأعيدها. يتكرر هذا الطقسُ في كل زيارة وكأنه صلاةُ عشق أمٍّ لولدين صارا كلَّ حياتها بعد رحيل الزوج الآسر الذي كان وسيظل أيقونة الموهبة والرقي والأخلاق، لا في الملاعب فقط، بل في فنّ الإدارة النزيهة، حتى صار مثلا يُضرب في السمو والتحضّر. باغت المرضُ "هشام" منذ عام ونصف، فسقط في حبائله التي لا فكاك منها إلا بالإذعان. والحقُّ أن المرض لم يباغته بل أعطاه مؤشراتٍ واضحةً خلال السنوات الماضية، لكن هشام "الأب" كان مشغولا بمعركة أخطر وأنبل مع ابنه "نور". بدأ الأبُ المحترم "هشام سليم" الرحلة الطبية الشاقة مع الضنى الغالي، حتى استقام "نور" على عوده شابًّا وسيمًا كامل الرجولة. انتهت المعركةُ الطبيّة، لتبدأ المعركةُ التنويرية مع مجتمع لا يرحم؛ فيه بعضُ بشر "حِشريين" يزجّون بأنوفهم الطولى في حيوات الناس ويقررون لهم مصائرهم ويُنصّبون من أنفسهم قضاةً وجلادين، وهم لا يعرفون شيئًا عن عذابات الناس. أوجعوا "هشام سليم" بسياطهم وأهلكوه بألسنٍ أحدَّ نِصالا وأشرسَ من سيوف التتار. كل هذا والسرطانُ المُهلكُ يرعى في الجسد النحيل ويعطي إشاراتِه المتكررة، لكن هشام "الأب" تجاهل أوجاعَ الجسد ليساند الابن "نور" في معركته المجتمعية مع غلاظ لا يرحمون. ولمّا استقر حالُ الابن، بدأ الأبُ معركته الشخصية مع المرض اللعين، لكن الوقت كان قد فات! أنشب السرطانُ أنيابَه المخيفة في الجسد، فوهنَ وخارَ وسقط. تحمّل من الآلام والأوجاع جبالا قاصمة لا قِبَل لإنسان بتحملها. هل سانده أحدٌ؟ لا أحد. "هذا الزحامُ لا أحد” كما يقول الشاعر. نسيه الجميعُ، والأمُّ لا تدري عن مرضه شيئًا لتكون سندًا وعونًا ودعاءً. كنّا، ومازلنا نخافُ عليها في كِبَرِها لئلا تسقطَ إن علمت. كان "هشام" وحيدًا في مرضه إلا من قليلين. ويُطلُّ الآن السؤالُ الموجع: “آلاف المقالات والبوستات ومظاهرات الحبِّ والتمجيد والتعبير عن الحزن لرحيل "هشام سليم"، أين كانت في حياته وهو في أمسِّ الحاجة إليها؟!!! لماذا لا نبدأ في إعلان الحب إلا بعد رحيل المحبوب؟! لماذا نسينا هشام، فلم يرشحه مُخرجٌ أو منتجٌ لأيَّ عمل يساعده على الصمود ومواجهة المرض؟ دفاترُ العزاء التي فتحها الناسُ لرثاء هشام، لماذا لم تكن زهورًا تُقدّم له وهو بيننا ليعرف أنه محبوبٌ على هذا النحو الهستيري، الذي ظهر بعد رحيله؟! لماذا؟! حقًّا لماذا نُمجّدُ موتانا، وننساهم أحياء؟!
احترامي لك أيها الجسور المثقف "هشام سليم" الذي واجه مجتمعًا قاسيًا وكان صخرة صلبة لابنه، وعَبَّدَ مع الطبّ طريقًا وعرة شائكة لم يسبقه إليها كثيرون بهذا الجهر النبيل والجسارة المثقفة. تلك الطريق التي قد يسلكها اليوم كلُّ مأزوم يعاني من غموض الهوية الجسدية مثلما عانى ابنه الجميل "نور”. أشكرك يا هشام لأنك كنتَ سببًا في صداقي مع والدتك الرائعة "أبلة زينب"، حينما كنتُ ضيفةً في برنامجك، وقالت لك: "أحبُّ هذه الكاتبة، هات رقمها.” وهاتفتني الجميلةُ في يوم جميل قبل عشر سنين، وصرنا صديقتين حميمتين. قلبي مع الجميلة الثكلى التي مازلنا نخفي عنها خبر رحيلك. نخفي عنها الجرائد والموبايلات والتليفزيون وكل ما قد يخبرها بالفاجعة. ففي معرفتها موتٌ أكيدٌ لها. أطال الله في عمرها، وأحسنَ مُقامَ "هشام" الجميل؛ كفنان محترم وابن بارّ وأبٍ مثقف.


               ***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية طيبة
عدنان اللبان ( 2022 / 9 / 28 - 12:02 )
سلمت وسلم قلمك النبيل .

اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53