الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تنبيه لِذَوي الأجنحة

أحمد دلول
كاتب وباحث فلسطيني مُقيم في الدنمارك.

(Ahmad Dalul)

2022 / 9 / 29
الادب والفن


عشتُ قرب حياتي كما هي
لا شيء يثبت أني حي
ولا شيء يثبت أني ميت
"محمود درويش"

كان إيقاعه في الآونة الآخيرة قد فتر كثيرا، لدرجة أنه لم يعد يُرصَد له أي نبض؛ قد يكون ماتَ بسبب عدم الرغبة في الحياة. أو ربما قد ماتَ بفعل عامل الوقت، مثل باقي البشر، ولكن وطأة الوقت كانت مُضاعفة عليه، فكَبُر فجأة أكثر مما ينبغي، بعد أن أمضى حياته كلها وهو يثبُ من فكرة إلى فكرة بحثا عن السَكينة. أو ربما، بحثا عن نوع من الانتماء.

هو لم يكن قد ادَّعى النبوة، ولم يزعم بأنه قد بلغ مقام المعراج، حتى أنه لم يكن قد أخبر أحدا عن محاولاته لملامسة السماء. ولكن منذ أن ابتعدَتْ عنه وانقطع اتصاله بها، وهو يفقد كل يوم قطعة من روحه، لكونه لم يتمكن أصلا من أن يحطَّ على الأرض؛ فراح يحمل أحزانه ويجول فوق أفراح الآخرين كما يجول الطائر الغريب. ولَكَم حاولوا أن يكيدوا به بأن يُقنعوه، لكي يضّم جناحيه إلى قلبه، ويدّب على الأرض مع من يدبّون، أو أن يوجِد لنفسه جُحرا يأوي له؛ إذ أن الأرض أولى بالمتعبين التائهين في مجاهل الفضاء. وكان يجيبهم بتهكم وحسرة: لو كان لي أرض، لما التجأتُ إلى الأفق، ولما عيَّرتني الزواحف بجناحي.

لقد كان في حياته يُحب النبيذ العتيق ويهوى مباهج الحياة، ويحاول اختلاس مسرَّاتها. وكان مثل غيره يحب أرداف النساء ونهودهن. ولم يكن يطمح بأكثر من حياة سهلة وبسيطة، يلهو بها مع أيامه كما تلهو مع بعضها صغار القطط، من دون أن تشاغله ألغاز الحياة الكبرى. ولكنه كَبُر كثيرا رغم عنه، ولم يعد يُشغله ما يُشغل الناس؛ إذ افترقت لغته عن لغتهم، وصار يرى أبعد مما يرون، ويدرك ما لا يدركون. حتى أنه أصبح ندا لكل من حوله؛ يسير في الاتجاه المعاكس للطرق ذات الاتجاه الواحد، ويعاند كل المُسلَّمات.

وما أن اقترب من أرضهم، لكي يُحاورهم ويُحاججهم، حتى أخذوه وقيَّدوا أجنحته، ثم اجتمعوا حوله وأجمعوا على أنه قد مات، وذلك لكي يُخلِّصوه ويَخلصوا من عربدته؛ فأحضروا شهادة دفنه ووضعوه في نعش، لكي ينفوا حياته بالدفن، قبل أن يجد وسيلة ما، ليُثبت أنه ما يزال حيا. ولكنه غافلهم وخرج من النعش، ثم راح يصرخ وهو محمول على الأكتاف: يا ناس، أنا ما زلتُ حيا، والدفن للموتى. ثم خطر له أن يحاول إقناعهم بأنه ما يزال حيا ويحب الحياة، فراح يرقص وهو يغني ويترنم. ولكنهم عاجلوه وقذفوا به في الحفرة ثم أغلقوها بإحكام. وبعد أن أقاموا بعض الطقوس، راحوا يتهامسون ويتغامزون مُهنئين بعضهم بكسبه. ثم انصرف كل إلى جحره، فأغلقه وخلد فيه.

في العالم السفلي، أحس بادئ الأمر بوحشة غريبة، ولا سيما بسبب حلكة الظلام وضيق المكان. ولكن لم يكن في اليد حيلة، فقرر أن يتقبل الواقع الجديد كما هو؛ إذ حَرَّر أجنحته واستلقى، لكي يستريح من عناء الجنازة والدفن، مترقبا ما سوف يحدث له في العالم الجديد. ولكنه ما لبث أن سمع مسامرة الموتى من حوله، فأخذ ينصت لهم وهم يتأوهون ويتهامسون عن ميعاد قيامهم وعودة أجسادهم، وهي نضرة مكسوة باللحم، وعن الطريقة التي ستصعد بها أجسادهم إلى السماء، وعن امتيازاتهم الحصرية هناك، وعن إله مُشخَص له أهواء ورغبات، سوف يخرج لاستقبالهم ليدغدغ حواسهم وليعتني بغرائزهم، ثم ليرمي كل ما عداهم في الجحيم. ولكنه تعجَّب بأنهم لا يتحدثون في الفلسفة والمنطق، ولا حتى في المُطلَق والنسبي أو الجوهر والعرض، وكأنهم يريدون أن يُثبتوا فعلا بأنهم موتى. فكر أن يهمس لهم، بأنه هو كذلك مؤمن ووَرِع، ولكن أمورا كتلك لا يصّح أن تؤخذ على ظاهر حرفها، وبأن هناك هامشا واسعا للتأويل والمجاز؛ إذ لو كان هناك حقا خلود شخصي للأنفس البشرية، فإلى أي مكبّ للنفايات سيتحول هذا العالم! وودَّ أن يحدثهم عن نسبية الحقيقة، وأن ينصحهم لو أنهم يستثمرون وقتهم بحوار مفيد، علَّهم يستطيعون التعايش مع ورطتهم؛ كمناقشة مفهوم الحقيقة، عبر ما قاله "كانط" مثلا، حول مفهوم "الشيء في ذاته". أو محاولة التعرف على "شوبنهاور" الذي قد يأخذهم في نزهة إلى "كهف أفلاطون" لكي يُطّلوا على خفاياه. وإن بحثوا في الكهف جيدا، فقد يجدون "سبينوزا" هناك، والذي سيساعدهم حتما للعثور على فوهة في الكهف، تطل على خفايا تجارب الأنبياء، تلك التي لم يستطيعوا البوح بها للناس أثناء حياتهم. وبذلك فقد يتمكنون من التحرُّر من ذواتهم وإيجاد عزاء يبلسم لهم محنة فنائهم. أما إذا ظلّوا على هذا الحال بقية موتهم، فلسوف يقتلهم الضجر، وسيبقون غارقين في أوهامهم، وبذلك سوف يتخلفون، حتى عن ركب غيرهم من الموتى. أو أنهم قد يموتون بفعل التكلس، من فرط تمسكهم بجحورهم، موتة لا رجعة فيها. ثم قال في نفسه: ما أخبث الموتى وما أشد جشعهم وأنانيتهم، يريدون أن يصطحبوا معهم أجسادهم وغرائزهم، حتى بعد مغادرتهم للوجود. فكيف لي أن أنتمي إلى هذا العالم السفلي البائس، وأنا الذي كنت أطمح دائما لملامسة السماء!

ثم أقسم بانه لن يقبل المكوث في ذلك الجحر اللعين، حتى لو بقي يجول هائما فيما تبقى من عمره، ما بين الأرض والسماء. فأخذ يحفر حتى خرج، ثم اندفع بأقصى طاقته. ومن جديد، أخذ يثب من فكرة إلى فكرة، ثم راح يحمل أحزانه ويجول فوق أفراح الآخرين كما يجول الطائر الغريب. وبينما كان يتأمل متسائلا: كيف استطاع الموتى أن يَدفِنوا حيا! فطن فجأة إلى أنه هو أيضا، يبدو أنه قد عَبَرَ البرزخ المجازي الذي يفصل ما بين الحياة والموت، وأدرك بأنه على الأغلب قد مات... أما هو، فقد مات بسبب انتفاء الدافع للحياة.

*ثمة مُقتطتفات في هذا النص، من رواية لكاتبه، بعنوان "الحج إلى الحياة"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما