الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العميل السري.. جوزيف كونراد

وليد الأسطل

2022 / 9 / 29
الادب والفن


كنت منهمكا في قراءة أعمال أدبية لكتاب مختلفين، عندما أوصلتني الصدفة إلى أعمال جوزيف كونراد.

موباسان، زولا، و غراي، مزيج غريب قد تخلل قراءاتي دون أن يصبح ضروريا بالنسبة لي كما أصبح شكسبير أو تولستوي أو كونراد. مزيج آخر غريب.

كونراد إذن. مفتونا بروايتيه "اللورد جيم" و "نوسترومو"، لم أستكشف كتاباته إلا ببطء، ربما خوفا من تبديد روعة السحر الذي مارسه علي هذا الكاتب العظيم. خشية تلاشي سحر البراعة النفسية، جرأة البناء السردي، واستخدام ملكة التعجب الهشة للغاية.

كونراد، لأنه كان أول الكتاب العظماء الذين شغفت بأعمالهم، سيتمتع دائما في نظري بميزة، بنوع من التفوق على نظرائه في الأخوة. اللورد جيم رواية بحرية، إستعمارية، قديمة، هذا ما سيقوله القارئ المستعجل. لا تشجع رواية نوسترومو الدعوات التقدمية، كما أتوقع أن يقول الحزبي حسن النية، الذي يتطلع إلى الأدب بحثا عن العقائد السياسية بدلا من البحث عن الحقيقة الإنسانية. أما أنا فأعتبر هاذين العملين تحفتين ضخمتين من روائع الأدب. جيم، قبطان بحري، كان يرى نفسه شجاعا، ذا قيمة، وشخصا يتمتع بحس المسؤولية. هروبه الغريزي من الخطر حوّله إلى جبان في نظر معاصريه وخاصة في نظرته إلى نفسه. إن عدم التناسب بين أفعاله والفكرة التي لديه عن سلوكه سيقوده إلى مأساة حتمية. في جمهورية كوستاجوانا، وهي أمة خيالية، فإن التحريضات السياسية بين المحافظين والثوار ليست سوى المسرح الوهمي للعواطف الإنسانية. إن تمرد سولاكو الفاشل يؤكد غرور الآمال المادية والروحية للبشرية. بناء رومانسي جريء يخدم الغرض، متشائم بشكل متطرف. يحاول كونراد أن ينير الظلام، لكنه لا يضع نفسه في خدمة أيديولوجيات العصر، التقدم، العلم، العمل. لا للشعور بالذنب، فنخن ألعاب في أيدي قوى عليا. جيم رجل ذو شغف فريد، يقدّر نفسه، ويمتلك صورة رائعة عنها، لا يستطيع تحمّل التناقض بين الصورة التي يتصورها عن نفسه وبين أفعاله. تواجه جميع شخصيات سولاكو قوة واقع لا سيطرة لها عليه.

ربما يكون هذا العالم من القوى العليا، هو الله. إنه الأحداث، والعواطف البشرية، والأسباب المعقدة التي تعرقل الخطط التي وضعها ذكاؤنا الضعيف، أصل توقعاتنا البسيطة للغاية لدرجة أنها لا يمكن أن تتحق!

في رواية "العميل السري"، سيؤدي افتراض الدبلوماسي الروسي المضلل إلى التدمير الكامل لعائلة بروليتارية متواضعة، وفي النهاية فشل تشكيلاته الخاصة. العميل السري هو فرلوك، المحرّض اللاسلطوي اللندني، العميل الثلاثي للقيصر والشرطة والمنظمات التحررية، الذي لا يتردد في بيع علاقاته للعيش، في الخيانة من أجل التقدم على طريق الوجود المؤلم. واقتناعا منه بالأهمية القصوى لمهمته، والإهتمام الكبير بالمعلومات التي يبيعها لمن يدفع أكثر، فإنه لا يقبل الانتقادات الشديدة التي وجّهها له السفير الروسي الجديد. وقد أجبره هذا الأخير على القيام بعملية اغتيال مباشرة وعبثية، على أمل إجبار حكومة جلالة الملك على القتال بلا هوادة ضد الجماعات اليسارية التي منحها حق اللجوء. يتطلب الأمر عملا إرهابيا، بلا سبب وجيه، ضد مرصد غرينتش، وبالتالي ضد المعبود العلمي، حتى يتم تشجيع سكوتلاند يارد على وضع حد للأنشطة الخطيرة للفوضويين والإشتراكيين. لكن "فرلوك" لا ينوي التضحية بنفسه، ولا يبدو أن مجموعة غير الأكفاء - الذين ينشطون داخل مجموعته الأناركية - قادررون على أن يخلفوه.

يتمتع كونراد بعبقرية خاصة في البناء. لا يتخذ السرد شكلا خطيا(لا يعتمد على التسلسل الزمني): إن قلب الحبكة، سواء كان حطام السفينة الذي يتصرف خلاله اللورد جيم بجبن، أو فشل ثورة سولاكو أو تفجير غرينتش، ليس هو قلب الرواية أبدا.

يكتشف القارئ عبر الصفحات المسار الحقيقي للهجوم بعد حدوثه. سيبرز كونراد ذلك شيئا فشيئا من خلال المحققين. يقود التحقيق ضابطا شرطة، ومفتش ورئيسه نائب قائد الشرطة. وهنا يظهر تفرد وعبقرية كونراد، ذلك أننا لسنا إزاء أحد التحقيقات الرائعة التي اعتاد القارىء عليها، والتي تتم بواسطة محققين بارعين. لا، إنه يصف المبارزة النفسية الشديدة بين المرؤوس ورئيسه. من خلال فهم كبير للهياكل الإدارية والبيروقراطية، يُظهر كونراد التعارض الضروري بين من هو مقتنع بأن الشرطة الجيدة لها أسرارها وشبكاتها، ومدير يسعى قبل كل شيء إلى جني مكاسب سياسية من حل القضية. المقابلة بين الرجلين بارعة. كل فن كونراد موجود هناك. يطرح الخصائص النفسية للرجلين دون انحياز. يسعى كل منهما إلى مصلحته الخاصة والمنطقية. المواجهة، التي ستتحول لصالح نائب محافظ الشرطة، تسمح للقصة بالمضي قدما. القارئ الذي يترك في الظلام، سيبدأ بعد ذلك في تكوين رأي، قبل العودة إلى فرلوك. يتألق كونراد بمجرد أن يضع منطقين وتصورين وحجتين متضادتين في حوار.

ينتقل تباعا من أفكار أحدهم إلى انطباعات الآخر، ويرسم بعبقرية الطبيعة العميقة للحديث. سوء الفهم، الممانعة، الإعترافات، الجلاء والقَتَمَة، وأنصاف الحقائق، كل شيء موجود.

لقد فهم القارئ الآن. لقد سعى فرلوك في الواقع إلى اكتساب ثقة صهره الشاب، ستيفي، المعتوه قليلا، الذي تجعله العديد من الهواجس قابلا للتأثر بشدة. إن هذا الأحمق هو الوحيد الذي كان قادرا على إلقاء القنبلة. لن يسأل فرلوك أي أسئلة محرجة بعد ذلك، كما أنه لن يكشف عن الطبيعة الدقيقة لأنشطته المشبوهة للمحاكم. فلسوء الحظ، لقد فجر نفسه معها. ستنسف هذه المصادفة المأساوية آمال العميل السري فرلوك، فقد كان ينوي الإفلات من العقاب، تاركا صهره ليُحكم عليه، ويفوز هو بخدمات السفارة الروسية بشكل أفضل.

الموت المفاجىء لـ "ستيفي" يضع حدا لأحلامه. لا يعلم ذلك، لكن نائب رئيس الشرطة، بموافقة الوزير، كشف اكتشافاته - أو بالأحرى اعترافات مرؤوسه - للسفير، وطلب منه إيقاف مناوراته. كما أخبر السيدة فرلوك بكل شيء. سلسلة من الظروف غير المتوقعة أدت إلى خروج الوضع تماما من أيدي أولئك الذين قاموا بهندسته. سيفلت السفير الروسي من العقاب. أما بالنسبة للزوجين فرلوك فلن يكون هذا هو الحال.

لأنه يؤمن بصدق بحب زوجته له، يعتقد فرلوك أنها يمكن أن تسامحه. لكن ما لم يفكر فيه أبدا هو أنها تزوجته من أجل أن يعولها وشقيقها الأصغر ستيفي، الذي مات، وبالتالي لقد أصبح العقد باطلا. وهنا يبرز مشهد رائع جديد بين شخصيتين فرق بينهما الدم المراق: يركض الزوجان فرلوك إلى المأساة، ويدفع كونراد، للمرة الثانية، بعبقريته في الرومانسية وعلم النفس في الحوار إلى ذروتها.

لا تمتلك رواية العميل السري بالتأكيد القوة الأخلاقية العالمية لرواية اللورد جيم ولا العمق الإجتماعي والسياسي لرواية نوسترومو. ورغم هذا يمكننا اعتبارها رواية ناجحة للغاية. في مطلع القرن العشرين، في لندن الممطرة والقاتمة، حيث يصور كونراد دوائر التحريض اللاسلطوي والشرطة بحدة ساخرة. كان الهجوم الذي نظمه العميل السري سخيفا. وفاة الشاب ستيفي أيضا. حروب سكوتلاند يارد الداخلية كذلك. يمكن أن تكون المأساة قبل كل شيء غبية، فهي سلسلة غير متوقعة من الظروف المؤسفة. يحطم الواقعي المُثل، يحطم الآمال، يدمر المشاريع. وعلى الجميع مواجهته دون أي ضمان للبقاء على قيد الحياة. ومع ذلك يمكن ملاحظة الظلام عند كونراد، في ظل المسافة(بدرجة متفاوتة)، الأمر الذي يمنح الرواية قيمة كبيرة، هذا الفارق الدقيق الكئيب والساخر الذي يجعل ظلام مصير البشر محتمَلا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة