الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بناءأطر القيادة والعمل التنظيمي

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 9 / 29
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


قبل عام الهجرة كان الرسول محمد ص يكابد لؤم وحنق قريش وجهلها المركب بالصبر دون أن يختار المهادنة والمساومة على المبادئ التي تضمن له القليل من الهدوء والسلام، أصحاب الرسالات والأهداف العظيمة يبنون الحياة بالقيم الإيجابية الفاعلة ولا يتحججون بالظروف والعوامل المعاكسة، فقط عيونهم معلقة بالهدف الأسمى والعقل يطحن المصاعب بالتفكير والتدبير العملي العلمي وبسلاح الصبر، وحتى تأتي المقادير والنتائج النهائية وفق القدرة وعامل التحمل والمطاولة في تحمل عبء المسئولية، إذا مقولة أن النصر العظيم لا بد أن يأتي بقدر العمل العظيم معادلة نسبة وتناسب حقيقية، والامور الكبرى تنتج ما يلائمها وأما صغائرها فلا تأت بالفتح المبين أبدا .
إن دراسة التاريخ الإنساني وخاصة في المؤشرات والملامح القيادية للعناصر التي ساهمت في صياغة التاريخ ورسم ملامح أوجه عصرها، عمل مهم وضروري لاستكشاف العوامل التي ساعدت على الحركة للأمام دوما، والبحث دوما عن العوامل التي عطلت فرص وفرضت أوضاع قد تكون مغايرة لسير الاحداث بتأثيراتها السلبية ونتائجها الوخيمة على الحركة، وبالتالي يصبح من المنطقي إن عملية فهم التاريخ على أنه التجربة العملية بكل وجوهها وسيرورتها وربط كل ذلك بهدف أو غائية سامية مما يسهل ويساعد على أستنباط قوانين عامة أو ربما وضع تصورات تجريبية ممتحنة لها، هذه التصورات التجريبية تكون أما نقدية تصحيحية أو تقييمية في مفهوم القيادة والتسيير العملي للحركات الفكرية والاجتماعية التي تمهد لترسيم علامات طريق الإنسان، وهذا لا يغني عن التسليم بحقيقة كونه أي فهم التاريخ يبقى متجدد الحاجة لمفاهيم وتجارب مماثلة أو مشابهة، فلا يمكن للتاريخ أبدا وفي جميع الظروف ما يغنيه عن التجريب مرة أخرى مما يقلل الخسائر ويكسب الزمن .
بالعودة للمثال السابق عندما أمر الله تعالى رسوله بالجهر بالدعوى لم يمنحه أكثر من الأذن بذلك مضافا له الوعد بالنصر مشروطا بالعمل الجاد والصبر، ورسم له منهج عام يتعلق بالفعل الأخلاقي ودوره في الكسب للدعوة، لم يكن سلاح النبي محمد ص يتعدى هذه المفاهيم الثلاثة وهي التربية الأخلاقية النموذجية التي عمادها الحب والصدق والاخلاص والتفاني، وثانيهما الفكر المتفتح على فهم كونية الصراع وعدم التجاوز على قواعد المجتمع العاملة بإيجابية، وثالثهما الإيمان بالهدف والقدرة على الإنجاز طالما أن الأمر إنساني ويسير في قضية الإصلاح، وأعادة ترتيب الواقع الإنساني على مبدأ الصحية والخير والحق .
الوسائل المادية سواء أكانت في الجانب العملي أو بالتخطيط وتهيئة المناخات الفعلية مما يعرف اليوم بالحواضن الطبيعية للفكرة أو الخطة، ضرورة ومهمة جدا في الصراعات والتحولات الإيجابية والكبرى منها على الخصوص، ولكن لا يمكن تقديم العامل المادي كليا برغم فاعليته على الركن المعنوي المتمثل بنقطتين، الأولى ذاتية وهي التهيئة والأعداد النفسي والحولي وما يستوجب من منهجية تترافق مع عظمة ووجودية الهدف التي تسعى له الذات، وهذا أهم ما يمكن تأشيره في هذا الجانب وعليه تقوم دائرة الفعل الإيجابي اللاحق، أما الركن المعنوي الثاني أن تكون المؤديات التي يراد لها أن تغير المجتمع قادرة فعلا أن تنجز الغائية بالطريق والمنهج المعد، فلا يمكن مثلا أن نهيئ خطة تغيرية تتنافى مع الواقع التكويني للإنسان جذريا وهو لا يمكنه أن يفكر لمجرد التفكير فيها، لذا جاءت دعوة النبوة في مكة بما يتلاءم مع الكونية التكوينية وهي المناداة بالحرية الطبيعية وببسط الإنسانية خارج قيود الأنا .
التسلح بالركن المعنوي مهم جدا ومؤثر فاعل مع توفر القدرة المادية على الإنجاز، وهنا نشير أن قدرة الركن المعنوي متناسبة وبالضرورة على تفعيل الماديات وتسخيرها في ضوء الواقع، لكن من المفارقة هنا أن العكس لا يمكن أن يؤدي لذات النتائج بشكل معكوس بمعنى أن التركيز على العنصر المادي سيحصد نتائج مادية بالضرورة، ولا يمكن تحقيق الهدفية ذاتها بالاعتماد على العنصر المادي لوحده، لذا جاء النص القرآني الذي يشير بصراحة لهذه الجدلية (كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله)، هنا الأذن ليس بمعنى الفرض من الله ولكن يعني الترتيب الذي أشرنا له في المقدمة، وهو تهيئة العوامل حتى تتكامل وتنضج لتؤدي الدور بصورة مثالية .
إن أختيار الظروف المعنوية التي يمكنها أن تساهم في تأسيس حاجة للتغيير أو ما يعرف بمقدمات التغيير وأسبابه وعلاته، هي النقطة المحورية التي من خلالها ومن خلال صلاحية أختيار مفرداتها والتوازن بين الحاجات والواقع والهدف، هو من يضمن لهدف التغيير التأسيس الصحيح والظرف الملائم للحصول على نتائج وفقا للترابط بين المقدمة والوسيلة والهدف، فكم من الأهداف النبيلة والرؤى الصالحة ضاعت في مسارات قد تكون مشوشة أو غير واقعية أو لا تتوافق مع المطلوب الواقعي، منها مثلا قلة الخبرة في التقدير أو التقرير أو الخطأ في بناء المقدمات بما يتناسب مع الهدف حجمه وكونيته وأثره وفائدته، أو حتى في أختيار أساسيات العمل التغيري قد أطاحت بها أحلام أكبر من واقعها أو غريبة عنها، هذا لا يعني أبدا أننا يجب أن نحصر أحلامنا وأهدافنا التغييرية بالممكن والمتاح ونترك العمل الخلاق والأستثنائي وحتى البطولي، إن أمتلاك الإرادة والسعي الجاد وفهم حركة المجتمع وقوانينه وقواعده مع التخطيط السليم والصبر على النتائج والمكاسب، هو وحده من يكون ممكنا ومتاحا وهذا ما لمسناه في حركة الدعوة الإسلامية في دورها المكي الأول.
في الدراسات التاريخية الحديثة والتي أشارت لبعض الجزئيات فيما يخص تقسيم الدعوة الإسلامية لمرحلتين، مكية ومدنية وأنها جاءت ليس فقط زمانيا متعلقا بالمكان كما يشرح مؤرخوا الإسلام التقليديون، ولكن كان الإنقسام والتقسيم ضروري وحتمي في واقع يرفض التغيير الثوري والتفكير الإنقلابي بالصورة التي تبلورت في ما يعرف بالعهد المدني أو العصر ما بعد الهجرة، التقديم المعنوي الذي يعتمد أساسا على التنبيه الناعم والحث على تغيير الواقع بخطوات صغيرة وقصيرة وغير مباشرة، التي تعتمد على الإرشاد اللين والنصيحة بحكمة تتلائم مع روحية العقل العربي والمكي تحديدا، "إن في البيان لسحرا" هذه المقولة الأدبية تعبر عن الذائقة المزاجية للعقل العربي وتفكيره التي تؤثر سحرية البيان فيه كما يؤثر السحر في الإنسان، لذا أعتمدت المرحلة المكية على البيان الإيجازي المعنوي أكثر من تسطير الأحكام والبدء بالوعد والوعيد والتحذير والضبط المباشر.
هذا التفريق كان مهما وضروريا وحتميا للتهيئة وبناء مقدمات سليمة لفكر جديد ومستجد نهايته تحطيم كل الواقع الاجتماعي والفكري والعقيدي المخالف له، لو طرح العنوان والمقدمة بهذه الحدية والوضوح والمباشرة لا يمكن لأحد أن يسمح للنبي ولا لفكره القائم على تسفيه المجتمع والهزؤ منه ومن ثقافته وقيمه بشكل مباشر، لكن خطة النبي كانت تشير بأسلوب إرشادي بياني مهذب على تعرية نقاط التوحش في ثقافة وواقه مكة ليسهل من خلالها العبور إلى نقاط أقوى ومحاور أهم في ما أبتناه الوعي المكي في حينه، كانت عملية التسلسل للعقل العربي تمر عبر مراحل صغيرة ومتتابعة وقادرة على التوسع والبناء من حولها، لذا نجد أن الأسئلة التي كانت تطرح من خلال النص الديني المكي هي بالغالب أسئلة أخلاقية ومعرفية تشكل محفزات للوعي الإنساني الظاهر والباطن في أن واحد.
عندما بلغت البذور التي زرعها النبي محمد في ارض الذاكرة الذهنية لشعب مكة ومن تأثر بها، وأصبحت جزء من نسيج التفكير داخل منظومة قيم المجتمع وعلى الأقل من منظومة قيم الصراع بين الجديد والقديم، صار لزاما تطوير الخطاب المفاهيم المفردات بالعموم تغيير تدريجي في عملية جذب حقيقي هذه المرة لمنظومة ما يريد أن يصل للعقل الديني المتولد حديثا، فما كان من الماضي لم يعد قادرا على أن يأت بجديد يجمع بين البيان السحري وبين البيان الحديدي الأمر والناهي، ولا يمكن لهذا المجتمع الذي أظهر نوعا من العداء الجدي مع فكر التجديد حتى ببيانه الساحر، وبين متطلبات مرحلة صياغة الشريعة الجديدة، لذا وتوافقا مع مجريات الحدث والصراع الدائر وفي وحدة منسجمة بين ما في الأرض وما في العقل كان قرار التغيير المكاني والذهاب لمجتمع أخر قادر ومن خلال تجاربه السابقة أن يفهم ويتفهم معنى الشريعة الدينية، ويعني ويعرف التبدل بين الخطاب البياني الإرشادي إلى الخطاب التفصيلي الجديد.
هنا تمت عملية مبادلة حقيقية بين الوسائل والمناهج، بين ما هو معنوي خطابي شعوري يدغدغ العقل والوجدان البشري، وبين ما يفرض الآن من وقائع يراد لها أن تكون حاكمة ومفترضة وأساسية في الواقع، نأت الآن للدور المادي في صنع مفهوم القيادة وما يلحقه من مفهوم في الأركان، العمل القيادي المنظم والذي يراد له أن يكون فاعلا ومنفعلا بالغائية والمنهج، لا بد أن يبنى على توزيع وتنويع الأدوار والممارسات، وتوزيع في مجالات الفعل بما يتماشى مع التبدلات والتغييرات الواقعية التي تتطلبها التغيرات والتحولات والواقع على الأرض، لكنها جميعا وبالضرورة يجب ان تكون وفق المنهج المحدد ومرتبط بالنتيجة، وهذا الامر يحتاج للتصنيف العملي بالواجبات والمسئوليات كلا حسب ما يمكن أن يؤدي على أكمل وجه من الناحية الشخصية ومن الناحية التعبوية، لذا كان أعتماد الرسول محمد ص على مجموعة من القادة الاكفاء كان متسقا مع عامل القدرة وعامل الإيمان، دون أن يعتمد على المظاهر المادية الصرفة القائمة على الحسابات المجردة دون النظر لجوهرها الفعلي وما تحمل من مكنون، كان أختيار الإمام علي مثلا في قيادة بعض المفاصل والوقائع على سواه من القادة برغم الفوارق المادية القياسية السائدة في وقتها، كان متماشيا مع المؤهلات القيادية له وتنويع في أستخدام الأركان لتحقيق النصر في المواجهة كلها وليس في المواجهة العسكرية فقط.
إذا الدرس العملي الذي من الممكن أن يكون واحدا من دلالات العقل العملي في إدارة وتنظيم المجتمع في فتراته الأنتقالية من إرهاصات التغيير إلى التجسيد العملي للفكرة، هي ربط تحولات السيرورة بعوامل الترتيب بين ما هو عملي وما هو معنوي ليس وفقا للإمكانيات بل وفقا للمتطلبات الواقعية والحقيقية، وتجريد أسباب ومسببات القرارات القيادية المدروسة من الأحاسيس الذاتية أو العاطفية، وجعل الضرورات هي التي تحدد المسارات وتقدم وتؤخر ما وجب وما أستوجب وفقا لمنطق الترتيب بين ما هو مهم وأهم وشديد الأهمية، إن التقييد بهذه الأفكار وجعلها منهج عملي مرن يتفاوت في مقدار الأخذ به مع مناهج أخرى، تقوم كلها على تنفيذ الفكرة بالطريقة الأكثر ديناميكية وأسرع في توافقاتها لتكون وحدة عملية ناجحة في تنفيذ مشروع حالم وخلاق.
لقد كانت تجربة القيادة النبوية لما قدمنا لها من دراسة في تقديم المادي والمعنوي وفقا لحقائق الواقع ومتطلبات التغيير، مثار أهتمام علماء النفس الإداري والاجتماعي فيما بعد وخاصة عندما يتم التجرد من الأنتماءات التي أساسها الـ مع أو الضد، وصارت مستخلص مهم من أساسيات علم الإدارة السياسية التي يمكن أن تتحول إلى قواعد وقوانين معرفية، لأنه أعتمد الواقعية العملية في تسيير النظام وترجمة الهدف دون الأعتماد المطلق على العامل الغيبي الذي يركز عليه رجل الدين المسلم عادة فيما بعد مرحلة النبوة والبناء الممهد، ويظن أن التدخل الغيبي هو المفتاح الأساسي الذي علق الرسول عليه كل مهماته، لذا فما زال الفكر الإداري الإسلامي لم يستوعب منهجية النبي محمد ص في ترجمة العمل التنظيمي الناجح إلى تجربة حسية مادية، رسمت أثارها وبصمتها على الواقع، وهو ما يدعو لإعادة النظر في الكثير من المفاهيم التي يتبناه الخط الفكري التنظيري الإسلامي لفهم معنى القيادة والعوامل المحركة والمؤسسة له في العمل الرسالي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص