الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موظفة الاستقبال

يحيى نوح مجذاب

2022 / 9 / 29
الادب والفن


تنورتها البُنِّية الضيّقة تلفّ أردافها بشوقٍ قاسٍ، وحذاؤها الشتوي الطويل بجلده الأملس الناعم يلامس ذيل هندامها كلما حركت جسدها في هذه الصالة المكتظة بأولئك الذين ضاقت بهم السُبل وهم يتوقون للهروب ليرتموا في أحضان العالم الحر.
العيون تلاحقها وتراقب حركة شفتيها، والآذان المُشنّفة تنتظر نطق الأسماء، لتأخذ دورها في مقابلة صاحب الشأن الكبير.
كنزتها الخضراء الفستقية تلتصق بقوة بنافورتي الحياة المندفعتين إلى الأمام وهما تتحديان أنوف الرجال.
بياض خمري يبرق بوجنة لامعة، وكحلة غامقة خطّت أهداب العينين. وكلما انساب الصوت بوداعة، وتدفق شهداً، تلألأت صفوف الأسنان وبريقها كنُدَف السحاب الأبيض.
صاحبنا المغامر نسي قضيته، ولم يعد يعرف ما الذي أتى به إلى هنا، وهذا شأنه دائماً كلما انفصلت ذاته عن وعيه اليومي المغمور في عالم الواقع، وغاص في متاهات الخيال حيث المشاعر المجردة.
لقد كان كثير الترحال طوال سني حياته، كثير التناجي وقد جعل من كشافتي بصيرته مثاراً لكل الأسئلة التي تكتنفها الغرابة دون أن يخطط في إطلاقها لاستجلاء الحقائق أو البحث عن إجابات شافية، فكل الأشياء في الغالب عصية على الإدراك في دنيا لم يُستكشف منها غير القشور.
لماذا يكبر العاشقون ويهرموا!؟
فالحب وقناطير العشق لا تمنعه الخلايا الذابلة ولا الأنسجة الرخوة أو الأعضاء المتهرئة من المضي في حِمى الملكوت الأعظم، فكلما تفجرت ينابيع الرغبة لاستنهاض الحقائق في أعماق النفس وَمَضَت الأحداث الغاطسة في المجاهيل وانبعثت من جديد بلباس أزرق برَّاق، حتى تُعاد عجلة الدولاب إلى الوراء بوتائر غريبة.
يُخطئ العاشقون عندما يقلّدون باقي بني البشر بأشواطهم المعروفة الرتيبة حيث تتسلسل خطوط الأحداث من تداخل أيام، وصراعات أفراد، وهموم عيش، وطموحات بائسة، وأهداف صغيرة منضوية في بؤر ضيقة لا تتناغم مع مستوطني السماء من كائنات أثيرية متماوجة في هيام أبدي خارج حدود الوجود والعدم.
إنهم نخبة الخلق في مساره السرمدي فأنى لهم أن يهبطوا نحو قاع السكون الخامد، فالعشق لا يتلاشى بدوران الفصول ولا يذوى بتقادم السنين. إنه عابر لأنطقة الأجساد البالية.
هو لا يدري ما الذي فجَر لديه هذه الطاقة المكثفة من الوعي المكنون في الحنايا الخفية. إن هذا الخيط الواهي الشفاف غير المرئي بين وقائع الأحداث المتلبسة لأجساد البشر والمغلفة لأرواحهم يكاد يسقط في يده عندما يُعمل العقل باحثاً عن قوانين الطبيعة الخارقة لينظمها في علائق مقبولة مع معطيات المنطق للوعي العام، لكنها لن تجد لها صدى في داخله سوى الفوضى العارمة، إذ لا جدوى من ترتيب عشوائيات الذرات والجزيئات المتلاطمة في منظومات خاضعة للتفسير العقلي المحض.
كان يقلِّب النظر ويقارن بين أسطح يديه المعروقتين والموجات الناعمة الممتدة المُرسلة من كفيها المضيئتين، وهما أشبه بنسمات هادئة منبعثة من أصابعها الرخصة.
أهكذا إذاً فعلت به الأيام ولعبت بمصيره خطوط الدهر القاسي وختمتها ببقع بنية داكنة وُشومَ خبرات أعوام خَلَتْ بمآسيها ولذائذها، لكنه ما زال يحتفظ ببقايا رونق شباب قديم لم تنطفئ شعلته بعد.
كان ينتظر أن تنطق اسمه لتخرج الحروف من بين شفتيها في رحلة قصيرة وهي مبتلة بالرضاب، مُمسَّدة بأطراف اللسان، لاثغة... ناغية.
قد يعتبره البعض رجلاً معتوهاً، وآخرون يطلقون عليه أينشتين الحارة، لقد فهم العالم على طريقته الخاصة واستوعب بدراية مسارات لعبته.
لقد دأب أن يتحلَّق حوله ثلة من الشباب كلما جنَّ الليل ليخوض معهم غمار الجدل في مفاهيم الطبيعة وحركة الأجرام ونظريات النسبية وأسرار الزمن والأوتار الفائقة، وعندما يتعمق بتفاصيل عجيبة تعلو وجوهم إمارات العجب. هو لا يبتكر شيئا جديداً من عنده، لكنه يمتلك القدرة على تجميع معلوماته ليصبّها ويرتبها بأنساقٍ مقبولة، فيلقيها بطريقته الخطابية الجذابة مما أسبغ على شخصيته هذه الهالة المميزة من الكاريزما الفريدة.
وبينما هو سابحاً في أفكاره جفل عندما نطقت موظفة الاستقبال اسمه. أومأت له بطارف عينها فاستجاب بجذل. حثَّ خطاه نحو بوابة المدير الفخمة وتلاشى خلفها أمام صمت الحاضرين. مضت الدقائق والثواني بتثاقل، وبعد انتظار مُمل انفتح الباب ليطل صاحبنا على الجموع المندهشة التي اعتادت أن يغادر المقابلون من البوابة الخلفية للمبنى دون أن يراهم أحد لكن يبدو أن شيئاً ما قد حصل غيَّر مسار الاحداث.
صُعق من في القاعة وتجمهروا حوله محدقين بأعين متسائلة غريبة
ترى ماذا جرى والتفوا حوله كما كان يفعل مُريدوه في دروب المدينة. لم تكن لديه الرغبة في التحدث بأي شيء فاختصرت المرأة عليه الطريق وحسمت الأمر وأعلنت: لقد انتهت المُقابلات لهذا اليوم. أما هو فلم يعد يعنيه تحقيق الهدف الذي دفعه للمجيء إلى هنا بعد أن أخفق في أجوبته للحصول على الموافقة في الهجرة. ألقى بأوراقه على إفريز النافذة. واتجه نحو هدفه الجديد المرأة الشامخة عند المدخل. كانا منجذبين لبعضهما بشكل غريب، كانت ملامحه السلافية التي قرأت عنها في قصص الصبا ذكّرتها بالراهب راسبوتين ومكره وسحره الذي أخذ بألباب النساء فأزمعت أن تخوض معه هذه التجربة. هو لم يتحدث إليها سوى بضع كلمات لكن حسّها الأنثوي رسم لها خارطة شخصيته جسدا وروحا بتفاصيل دقيقة. اتجهت اليه وأعينهما تسبر اغوار العدم في رحلة غير محسوبة ستستقطع كِسفة من زمن لانهائي ممتد بعيداً عن الرتابة.
هو لم يعد يهتم بهجرته إلى أرض الأبورجيين السكان الأصليين في الجزء الأسفل من الكوكب الأزرق حيث الشمس لا يشتد لهيبها إلاّ في أشهر الشتاء.
كانا يتقدمان الواحد نحو الآخر بتبختر رزين ويقتربان من بعضهما رويدا رويدا غير عابئَين بما يجري، فلحظات مكثفة مغمورة بهيولى السعادة تنتظرهما خارج توقيتات الذات المرتهنة بتكتكات الساعات قد تختصر وجودهما بأكمله لينصهرا في بؤرة جذلى من الهيام الطاغي خارج أنطقة الأزمان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق




.. شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا