الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هذيان في براغ … الجزء الأول ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2022 / 9 / 29
الادب والفن


صيف 1976 …
تتصاعد وتيرة النقار وتشتد ، ويعلو الصراخ بين ( الاستاذ عبود ) وزوجته منذ اللحظة التي أعلن فيها عن نيته السفر الى أوربا هذا الصيف للسياحة ، فزوجته من أشد المعارضين لفكرة سفره لوحده الى بلاد الغرب .. بلاد الشقراوات والعلاقات المجانية المفتوحة ، فهي تخاف أن يحدث المحظور ، وتُعجب به واحدة من بنات الأصفر ويتزوجها ، وعندها أين سيكون موقعها هي وأولادها من الاعراب ، وعندما أصر على موقفه أخذت اطفالها وغادرت الى بيت أهلها .. زعلانة …
يذهب الاستاذ عبود الى المطار وحيداً ، وليس معه من يودعه ، وكانت وجهته الأولى ( براغ ) لكثرة ما سمع عنها من زملاءه الذين زاروها قبله .. مدينة جميلة ورخيصة ، ونساءها فاتنات وسهلات ، وهو عز الطلب .. هكذا كانت الصورة الوردية المرسومة في ذهنه .. لكنه مع ذلك لا يدري أين ستنتهي به هذه الرحلة !
سمع صوت المذيعة تنادي المسافرين الذاهبين الى براغ .. التوجه الى الطائرة .. وقف مذهولا .. حائراً مثل غريق ، وعندما شاهد الركاب يتحركون في مجموعات اندس بين صفوفهم ، وصعد معهم الى الطائرة يتعثر في مشيته ، وعيناه تائهتان .. يشق طريقه في زحام الركاب باحثا عن المقعد المخصص له ، والمكتوب رقمه على التذكرة ، فهو لم يركب الطائرة في حياته ، ولا يعرف أين يكون هذا المقعد ، فبقي واقفا مرتبكاً مزروعاً في الممر كالابله يقطع الطريق على الركاب حتى لمحته احدى المضيفات ، فتقدمت منه ، وأخذت التذكرة ، وقادته بسرعة الى مكانه في مؤخرة الطائرة .. اتجه الى المقعد الذي أشارت اليه ، وجلس صامتاً يلهث من الانفعال .
بقي صامتا يستعرض في ذهنه ذكريات الايام التي مرت ، ويصد بهدوء وبأدب محاولات جاره التحدث اليه ، فهو لا يريد أن ينشغل بشيء سوى تلك الأوهام التي تدغدغ خياله منذ اليوم الأول الذي بدأت فيه نية السفر تغلبه ، وتسيطر عليه .
حلّقت الطائرة في السماء ، وأختفت الأرض ، ووجد نفسه يسبح بين السحب ، يغمض عينيه دون نوم ، وترتخي ملامحه ، وتبدو عليه إمارات الراحة ، وبعد مرور ساعات قضاها الاستاذ في قلق ، وترقب وأحلام يقظة حتى هبطت الطائرة في مطار براغ .. شعر منذ اللحظة الأولى انه انتقل الى عالم آخر غريب ومختلف .. كل شيء فيه جديد يبهر عينيه .. سار في طابور الركاب متتبعا خطواتهم .. مروا على موقف التفتيش ثم موقف الجوازات .. ثم وقف مع الواقفين بانتظار وصول حقيبته على السلم الدوار .. لمحها من بعيد ، وهي تتدحرج ببطء .. استلم حقيبته وخرج .
وقف وحده كطفل تائه في مدينة غريبة لا يعرفها ، لا يدري الى أين يخطو .. لا يعرف أين هو ، ولا اسم المكان الذي هو فيه ، ولا حتى الوجهة التي سيذهب اليها .. تقدم منه رجل كان يرصده من بعيد .. عرف فيما بعد انه سائق تكسي .. ربما جذبته سحنته الشرقية ، وعرض عليه بتواضع خدماته .. استسلم له دون أدنى تفكير ، فهو لا يملك خياراً آخر ، وسلمه حقيبته الصغيرة ، ثم ردد على مسامعه الكلمة التي يعرفها كل البشر :
— هوتيل .. هوتيل ..
أومأ الرجل برأسه إيجابا كأنه فهم ..
لم ينقضي وقت طويل حتى توقفت السيارة أمام بناية قديمة لفندق .. مبنية على الطراز الكلاسيكي القديم .. عرف فيما بعد أن براغ ظلت تحتفظ بطابعها القديم لأن الجيش الالماني في الحرب الكونية الثانية دخلها دون قتال .. لهذا لم يدمرها هتلر ، ويساويها بالأرض كما فعل مع وارسو ، وغيرها من المدن والعواصم التي احتلها !
حجز غرفة مفردة في الطابق الاول .. تبدو صغيرة لكنها نظيفة ومرتبة .. تمدد على الفراش .. فكر أن يأخذ غفوة تمتص التعب وتعيد له نشاطه .. لكنه نهض فجأةً كالملسوع ، فهو لم يأتي الى هنا لينام ، فكل لحظة تمر محسوبة عليه .. يكفيه أنه نام العمر كله .. قام واغتسل وغير ملابسه ثم خرج .. واجه الشارع والناس ، وهذا العالم الجديد الضاج الصاخب الذي لا يعرف كيف يتعامل معه !
أسلم سيقانه للشارع تقودانه كيفما اتفق .. سار لساعات طويلة بين الشوارع والأزقة والمحلات والمقاهي حتى شعر بالتعب يكاد يطيح به .. سارع فألقى بجثته .. منهاراً على احد المقاعد في مقهى قريب من الفندق يرتاده الكثير من العرب ، وهناك تعرف على البعض منهم ، وعندما عرفوا بأنه يزور براغ لأول مرة زودوه بمعلومات عن الأماكن التي يجب أن يزورها ، كأماكن الترفيه وتصريف العملة .. الخ .. ثم عزمه أحدهم على كأس بيرة قال انها سوداء ، ونصحه أن يتذوقها ، فهي لذيذة ، وعندما تذوقها لم تعجبه ، فلم يستطع أن يكمل الكأس ، وطلب كأسا له وآخر لصاحبه من البيرة التي اعتاد عليها في بلده !
التفت حوله التفاتة مباغتة ، فلمح في الجانب الآخر من الصالة فتاة شقراء تضع على وجهها قناعا من الاصباغ تجلس لوحدها في ركن من المقهى .. تدخن سيجارة ، وتركز نظرها عليه من دون الجالسين ، ورغم انه لا يحب المرأة التي تبالغ في مكياجها الا انها على أي حال امرأة وجميلة ، وهو لا يريد أكثر من ذلك ، فهو لا يريد الزواج بها ، فكل ما كان يريده هو اخماد هذا الجحيم المستعر في أعضاءه ، وها هي الفرصة تأتيه بسرعة لم يكن يتوقعها ، وعلى طبق جاهز من فضة ، وعليه اغتنامها .. فُرجت .. إن الطبيعة تنادي ، وعليه أن يلبي النداء .. أنه بعيد عن زوجته ، وزوجته بعيدة عنه ، ولم يقرب أنثى منذ أيام ، وماء الحياة المتدفق يكاد يصل الى مجرى التنفس فيردمه ، وهو لم يعتد على مثل هذا الحرمان حتى عندما كان أعزباً .. انها تشير له بطرف اصبعها بأن ينظم الى مائدتها .. ترفع كأسها ، وتغمز بطرف عينها .. تحركت شهيته الحيوانية الشرسة ، وتعالى لهاثه .. قد تكون عاهرة .. فليكن .. انه ضبع جائع ليس له خيار في فريسته حتى لو كانت رمم .. هل يكتفي في مغازلتها ، ومبادلتها الانخاب من بعيد مثل المراهقين ، أم يقتحم عليها مخدعها كالفرسان ؟ يعرف أنه وسيم وجذاب ، والصمود أمامه أشبه بالمستحيل .. أين أنت يا أم الاولاد لترين ماذا يفعل زوجك في بلاد العم سام ؟ فليبادر اذن وينهي الامر .. أليس هو الذكر ؟ ماذا ينتظر ؟ أسكره الحماس ، فوقف منتصباً منتشياً واثقاً من نفسه ، واذا بيدٍ تمتد وتُمسك به ، وتسحبه الى أسفل ، ويسمع صاحبه يقول ، وهو يومئ برأسه ناحية الفتاة ، وابتسامة غامضة بين شفتيه :
— اجلس يا صاحبي .. لا تضيع وقتك .. انه .. رجل .. إلا اذا كنت من ذلك الصنف إياه ..
أفاق من نشوة الفرحة التي تبددت كفقاعة ، وصعدت الدماء الى وجنتيه .. شعر بالخجل والحرج معاً … أي فخ داعر هذا الذي سقط فيه ؟ استأذن من زميله ، وابتلع الاهانة ومضى على الفور ، وهو يلعن حظه العاثر ، وصوت صاحبه يلاحقه :
— لا تهتم .. مجرد ضربة طائشة تحت الحزام .. تتعوض !
لقد مضى عليه أسبوع كامل ، وهو يدور كالثور في الساقية .. ينتهي من حيث يبدأ .. كأنه يطارد الريح ، والنحس هو هو لا يزال يلازمه كظله ، ولم يتعرف بعد على أية فتاة .. تلك الامنية التي أصبحت كما يبدو بعيدة المنال ، ولأول مرة منذ وطئت قدماه هذه الأرض .. بدأ يشعر بالضيق والملل والغربة .. حتى شرد ذهنه الى زوجته وأولاده وبلده ، وتملكته حالة من ( النوستالجيا ) ذلك الحنين المرضي ، والعشق الابدي الى الارض الأم ، وانساق وراء أفكار كان يخشاها ، ويتجنبها كأن يقطع زيارته لهذه المدينة ، وينتقل الى مدينة أخرى قد يكون حظه فيها أوفر .. كأن تكون وارسو مثلا ، أو ينهي الرحلة كلها ، ويعود الى بلده وزوجته واولاده ، وكأنك يا عبود ما غزيت !
وقبل أن تُكمل الفكرة مشوارها بلحظات بدأت الوحشة تزايله تدريجياً ، وبدء يستعيد نفسه التي كانت على وشك الانهيار ، واطلق العنان مجددا الى خياله ، وأخذ يتنقل في نظره بين وجوه المارة ، وبالخصوص النساء منهم .. يرش الابتسامات بغير حساب ، ويقفز من مكان لآخر كالضفدعة لعله يلفت انتباههن الى سمرته وشعره الاسود وملامحه العربية الأصيلة .. يكاد يصرخ : اني هنا .. انظروا .. لعل واحدة ترحمه وتبل ريقه ، وتكون أولى صيده في هذه الرحلة .. لكنه لم يرى واحدة تخصه بنظرة .. أكثر من نظرتها الى أي كلب يتنزه مع صاحبه في الشارع !
لقد خدعوه حين قالوا بمجرد ما تنزل من المطار بشعرك الاسود ، وسحنتك السمراء ، وملامحك العربية الصحراوية الدسمة سترتمى النساء بالعشرات تحت قدميك ، وكل ما عليك هو أن تختار منهن ما تريد وما تشتهي .. لكن الاستاذ لا يريد العشرات ، فهو ليس السلطان عبد الحميد ولا الخليفة المتوكل .. يريد واحدة فقط .. أين هي .. يا ترى ؟ هل سيلتقيها أم سيعود الى بلده خالي الوفاض ، وسيضطر حينها الى الكذب ، ونسج قصص خرافية من وحي خياله .. يملأها بالمغامرات الكاذبة يكون هو بطلها كما يفعل بعض التعساء الخائبين .. واعيباه !
عاد مجددا الى الشارع ، وشاهد أثناء تجواله مجموعة من السياح نساءً ورجالاً يحتشدون أمام بناية قديمة كأن تكون كنيسة أو شيء من هذا القبيل ، وعيونهم شاخصة الى فوق كأنهم ينتظرون شيئاً ، ورغم أنه رماهم بالسخف والحمق إلا أنه شاركهم وقفتهم .. لا لشيء .. انما لمجرد الفرجة وقتل الوقت .. شبان وشابات من جنسيات مختلفة ، وكل فتى يحتضن صديقته .. يقبلها ويلثم رقبتها ، ويد تداعب نهديها ، وأخرى تتلمس مؤخرتها يكاد أن يضاجعها أمام الناس ، وعلى رؤوس الاشهاد عيني عينك ، والاستاذ يقف وحيداً يبحلق بعينيه الزائغتين لا يرى من المشهد أمامه غير الصدور والارداف والسيقان والمؤخرات !
وبعد دقائق ، وعندما تعانق عقربا الساعة عند الثانية عشرة .. هلل الجمع ، فخرجت من النافذة دمى صغيرة تتحرك ، وترقص بشكل آلي ، والسياح يلتقطون لها صوراً كأنها أعجوبة من عجائب الدنيا السبع .. شعر الأستاذ بخيبة أمل كبيرة ، فهو لم يتكبد مشقة السفر ، ويقطع كل تلك المسافات ببحورها وجبالها ، ويعاند زوجته من أجل أن يرى دمى سخيفة بلهاء تتراقص ، وتخرج اصواتا غريبة !
شعر بالسأم وبالتعب ، فقرر أن يعود الى الفندق ليستريح ، ويبدء من الغد بحثه عن فريسته المنشودة .. دخل وهو يترنح من التعب كأن الدنيا تدور به من أثر كؤوس البيرة التي تناولها ، وعندما هم بالصعود الى غرفته أصطدم دون قصد بأحدى العاملات .. التفت اليها .. هز رأسه يحيها .. التقت عيناه الملبدتين بالغيوم بعينيها .. ابتسمت له إبتسامه ضيقة .. بادلها ابتسامتها بابتسامة أخرى لكنها باردة ، وواصل طريقه .. لقد دفعه انهاكه ، والحاح النوم على أجفانه الى أن يفوّت هذه الفرصة الثمينة ، وعندما دخل غرفته ألقى بنفسه على الفراش بكامل ملابسه كجثة حية ، وراح على الفور في سبات عميق !
وفي صباح اليوم التالي ، قرر أن يبحث عن الفتاة إياها ، فبدأ بحثه في المطعم ، ثم واصله في تلافيف أروقة الفندق العنكبوتية ، ما ازعج التلافيف حين تتشابه .. حتى هم أن يعود خائباً ، واذا به يراها أمامه كحلم ، وهي خارجة من أحدى الغرف .. تحمل أدوات التنظيف والتعقيم .. وجهها الجميل يبدو متعباً ومتجهماً .. انها بلا شك عاملة تنظيف .. لم يهتم سواء أكانت عاملة تنظيف أم صاحبة الفندق .. سيان عنده .. المهم انها شابة وجميلة رغم قصرها قياساً بطوله الفارع .. ابتسم في وجهها ابتسامة ترحيب وتعارف .. لكنها قطعت عليه فرصة التعارف التي ينتظرها ، وواصلت سيرها ، وهي تدير وجهها الى الناحية الاخرى كأنها مترددة في الاستسلام لمحاولته .. هدأت فرحته ، وخفت حماسه .. لم يجروء على رفع عينيه والقاء نظرة أخرى .. تراجع وهو تائه في احساسه ، يجر خطواته المتعثرة ، واحساسه بالفشل يعود اليه ثانية ، وينغص عليه .. لكنها سرعان ما تراجعت كأنها لانت ، وهمست بصوت خافت :
— أنت .. يا .. إنتظر .. !
التفت اليها ، وهو يلتهمها بعينيه ، ثم عاجلها ووجهه يشتعل خجلاً :
— عبود …
لم تهتم لما قاله كأنها لم تسمع ، ولم تفهم …
وهمست له بلغة الإشارة بأن ينتظرها الساعة الثانية أمام الفندق .. !!

( يتبع يوم غد .. إن كان في العمر ثمةَ غد .. ! )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض


.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا




.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه