الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هذيان في براغ .. الجزء الثاني .. ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2022 / 9 / 30
الادب والفن


أخيراً .. كأن القدر قد أشفق عليه وأنصفه ، فوضع في طريقه تلك الفتاة .. شعر بالراحة وبالسعادة لأن مسعاه لم يذهب سدى .. لكن مشكلة جديدة قد برزت .. أين سيذهب في هذه الساعات الطوال ؟ فالساعة الآن التاسعة ، وحتى الثانية هناك خمس ساعات بدت له كأنها دهراً .. عليه أن يجد المكان الذي سيقضي فيه هذا الوقت الطويل .
سقطت عيناه بالصدفة على اعلان لفلم ( البؤساء ) لفكتور هيجو ، وقد سبق له أن قرأ هذه الرواية وأعجبته ، فوجدها فرصة أن يستعيد أحداثها التي أحبها ، وفي نفس الوقت يقتل الوقت حتى اللقاء المرتقب ، فذهب الى السينما وقطع تذكرة .. دخل وأخذ مكانه ، وكان عدد الرواد قليل يكاد يُعد على الاصابع ، فالكل في هذا الوقت من النهار في اعمالهم .. ساعدته الظلمة في أن يرحل مع حلم جميل صوّره له خياله مع هذه الفتاة ، ومالذي يجب عليه أن يفعله معها ، وما الذي يجب أن لا يفعله .. حتى انتهى الفلم ، وخرج من السينما ، وهو لم يرى منه شيئا ، ولم يفهم منه شيئا ، فقد كان مدبلجا باللغة الچيكية أو السلوفاكية لا يدري ، وذهنه كان مبعثرا لم تنجح احداث الفلم المشوقة في لملمته !
والساعة قد بدأت تقترب من الثانية .. أسرع في طريقه الى الموعد ، وزرع نفسه أمام الفندق لا يتحرك ، وعيونه شاخصة على الباب لا ترمش ، ولم تمضي سوى دقائق حتى رآها ، وقد خرجت من باب الفندق ، وبمجرد أن رأته حتى هبت متجهة اليه .. أشرقت ملامحها عن ابتسامة طفولية هادئة .. أحس بالراحة ، وهو يراها تسير بجانبه ، وابتسم في فرح كأنه تذكر أروع أيام الصبا .. أما مشاعره فكانت خليطا عجيباً من الزهو بهذا الانجاز الذي انتظره طويلا ، وأحساساً غريباً فيه دغدغة لأوتار قلب رجل طيب قليل الخبرة بمشاعر الحب ونبل أحاسيسه !
أخذ يختلس النظر الى وجهها ، فرآه أكثر جمالاً مما كان في عتمة الفندق .. تاه في افكاره يبحث عن السبيل الى مد جسور التواصل بينهما .. وهل لغة الاشارة ، وما يحفظه من كلمات قليلة بلغتها ( الچيكية ) وما تعرفه من كلمات انجليزية مبعثرة ستفي بالغرض ؟ لا يدري .. وكانت هي البادئة عندما أخبرته بأن يشتريا طعاماً وشراباً ، ويذهبا الى شقتها .. فغر فاه دهشة لهذه المباشرة التي رقص لها قلبه طرباً .
اشترى كل ما أرادت من طلبات ، وأصر أن يشتري زجاجة وسكي مستوردة .. رفضت لان سعرها لا يُحتمل .. لكنه أصر .. قفزا في أقرب سيارة أجرة ، ثم القت على السائق عنوان الشقة ، وانطلقت السيارة بهما الى النعيم الذي كان ينتظره الاستاذ بلهفة ، وما هي إلا دقائق حتى وصلا الى شقتها ، وعندما اقتربا من بابها .. انحنت والتقطت رسالة كانت ملقاة باهمال أمام الباب .. ألقت نظرة سريعة عليها دون أن تفتحها ، ثم فتحت الباب ودخلا .
وقف في وسط مدخل ضيق ، فالشقة صغيرة ، واثاثها غاية في البساطة والتواضع ينطق بحالة اصحابها المادية الصعبة .. مضى الاستاذ يجول ببصره ماسحاً الشقة بناظريه ، وتساؤلات كثيرة تدق في رأسه دقاً خافتاً .. لكنه لم يلبث أن عاد الى نفسه ، ولم يصدق انه انفرد بها بهذه السرعة وبهذه السهولة ، وبدون أية مقدمات أو تعقيدات .. سألها عن اسمها فقالت أن اسمها ( دانا ) .. لكنها واجهت صعوبة في لفظ العين في اسمه فحولته الى ألف .. ليكن ، وهكذا بدء التعارف بينهما .. خطت نحو المطبخ وجاءت بصينية صغيرة وقدحين ، وبدئا يتبادلان الانخاب في أجواء رومانسية حالمة .
كانت تشرب وتدخن كثيرا كأنها كانت تحت ضغط معاناة من نوع ما ، وبعد أن لعبت نشوة الخمر في رأسيهما .. ارتفعت وتيرة الاشجان عند الاثنين ، ثم تركته واختفت في غرفة صغيرة لعشر دقائق تقريبا عادت بعدها ، وبيدها الرسالة .. تفاجأ عندما رآها ، وهي تحدق في سطورها ، وقد انخرطت في بكاء حار .. دموع صادقة .. تورد وجهها وأحمرت عيناها ، وبان الحزن على محياها .. يا الهي من أين جاءت بكل هذه الدموع .. ؟ كم تمنى في تلك اللحظة أن يعرف ما المكتوب في تلك الرسالة .. ومالذي تضمنته من كلمات اثارت فيها كل هذا الكم من الشجن ، وانزلت من مآقيها كل هذا السيل من الدموع .. ؟
ينخلع قلبه وهو يشاهدها تبكي ، لم يستطع أن يتماسك ، ويمنع نفسه من احتضانها وضمها الى صدره .. أخذت تنشج كأنها طفلة أو كأنها شخصاً فقد عزيزاً .. أخذ يهدهدها ويربت على ظهرها .. لم يصدق وهو يرى نفسه بهذا الضعف ، ما أعجب الانسان وما أعجب تقلباته .. سألها عن سبب بكائها ، فاخبرته بأن الرسالة كانت من زوجها الذي قُبض عليه ، وهو يشارك في مظاهرة مناوئة للنظام الحاكم ، فأدخلوه السجن ، وقد تطول مدة سجنه .. لاحظ في عينيها ظل خاطف من كراهية للهيمنة الشيوعية على بلدها ، ربما كانت تبكي حزناً على نفسها ، وحياتها ، ومستقبلها ومستقبل ابنتها أكثر مما كانت تبكي على زوجها المسكين .
احتواها في حضنه بحب ، أو بإحساس قريب من الحب ، وقبلها على جبينها .. لا يدري لماذا مسه شعور أبوي مفاجئ في تلك اللحظة .. حتى بردت رغبته التي كان يخطط لها في أن ينالها .. غمغمت معتذرة لانها حولت اللقاء الى فاصل حزين ، وعندما سألها عن الحل هزت كتفيها بلامبالاة علامة اللاحل ، فالنظام صارم والحياة صعبة .. لا يدري لم شعر كأنه هو المهموم ، وليست هي .
تأخر الوقت ، وشعرا بحاجتهما الى الطعام ، فحملت نفسها ، وتوجهت الى المطبخ ، وبعد دقائق أقبلت ، وهي تحمل صحاف الطعام ، وقد امتلأت بأنواع المأكولات ، تناولا الغداء في جو جديد مملوء بالود ناءت بحمله مشاعر الاستاذ البكر .. ! ثم قادها الى فراشها ، وطلب منها أن تنام وترتاح .. قبلها على جبينها .. وغادر .
تمر الايام .. وهو يقضي جُل يومه معها .. لا يفترقان إلا وقت النوم ، ولم يتركا مكانا لم يذهبا اليه .. كان يقرأ وجوه المارة أثناء جلوسهما في المقاهي أو تسكعهما في الشوارع ، وكانت ردود الافعال تختلف بين مبتسم وعابس ولا مبالٍ ، وطوال تلك المدة لم يطلب منها شيئاً لا تريد أن تعطيه اياه .. أكتفى منها بالصحبة الجميلة ، والعناق والقبل السريعة الصادقة ، وشئ من التلامس ، وكانت تشب على اطراف أصابعها كأنها تتسلق جسده كلما ارادت تقبيله ، ويساعدها هو بأن ينحني قليلا ليلتقيا بقبلة طويلة سيبقى أثرها ما بقيت الحياة .. !
حتى جاء يوم التقى فيه بأحد العراقيين المقيمين في براغ ، فسأله الرجل فيما اذا كان قد زار مدينة ( كارلو ڤي ڤاري ) .. وجد الاستاذ صعوبة في حفظ الاسم ، وحتى في نطقه ، فاضطر الى تدوينه في دفتر مذكراته .. أجاب بالنفي طبعا ، فهو لم يشاهد سوى براغ وضواحيها ، ولم يسمع بهذا الاسم في حياته ، فقال الصديق كأنك قد ضيعت نصف عمرك ، وكأنك لم تزر هذا البلد اذا لم تزر هذه المدينة .. مدينة الفن والثقافة والمهرجانات السينمائية و و و .. !
وعندما التقى ب ( دانا ) في اليوم التالي ذكر أمامها اسم المدينة ، أو بالاحرى قرأه من دفتر المذكرات .. رفعت رأسها اليه ، وابتسمت ابتسامة عذبة كأنها تهنئه على هذا الاختيار الموفق ، والذي جاء في وقته .. اتفقا على يوم معين ليكون موعداً للسفر الى ( كارلو ڤي ڤاري ) .. بعد أن تأخذ اجازة من ادارة الفندق الذي تعمل فيه .. !
وفي ذلك اليوم الجميل الذي لن ينساه مهما امتد به العمر .. قادته الى موقف الباصات ، ومن هناك استقلا إحداها متوجهين الى تلك المدينة الساحرة ، وفي الباص كان معظم الركاب من الشباب .. يجلس على كل مقعد شاب وحبيبته أو ربما زوجته ، وكان مشهداً رائعا ترى فيه رؤوس الفتيات الجميلة ، وقد تثاقلت بفعل حركة الباص الرتيبة ، والجو الصيفي الساحر ، ثم تراخت الاعناق ، والقت بحملها على الصدور تارة ، وعلى الاكتاف تارة أخرى ، والبعض منهن استسلمن فعلاً الى سكينة النوم ، وهو ما فعلته دانا إذ القت برأسها الصغير على صدر الأستاذ ، وسرعان ما غطت في نوم ثقيل ، فالمسكينة كانت عبارة عن آلة بشرية لا تهدأ ، ولا تستكين .. حياتها كلها جري في جري .. ممزقة بين العمل المضني والبيت ، وابنتها الصغيرة التي أودعتها عند أمها في حي آخر .
وقضوا هناك ثلاثة أيام بلياليها كأنها العمر كله .. أتعرف يا صديقي أن النساء هنا في براغ أو في غيرها من المدن الأوربية يدركن مدى حاجة الجسد واهميتها ، وينظرن الى الجنس على أنه طقس عادي مثل غيره من طقوس الحياة .. لذلك لم تستطع دانا أن تمد في عمر مقاومتها أكثر من ذلك .. فاستسلمت طواعية ، ومنحته كل نفسها .. أقبلا على بعضهما بلهفة وبجنون .. كانت جسدا جائعا هادرا يتلوى بين ذراعيه .. يشكله مثلما يريد .. حتى روت كل ظمأه ، وارتوت .. الى أن نال منهما التعب اللذيذ ، فناما متعانقين .
وكانت تلك الأيام الثلاثة أجمل ما في الرحلة بل أجمل ما في حياته كلها ! ما أحلاها وما أسرعها .. أيام مرت .. كطيف مر بنائم .. كهمسة في أذن حبيب .. كنسمة ندية هبت على وجه وسنان .. يجزم الأستاذ عبود مبالغاً بأن لا أحد على هذا الكوكب قد تمتع بأيامه مثلما تمتع هو بأيامه الثلاث برفقة حبيبة القلب دانا .. !
واستمرت حياتهم .. يلتقون في شقتها كل يوم ، ويتعاشرون معاشرة الازواج .. تعلق بها وأحبها ، وتعلقت به هي الأخرى ، وعندما انتهى الشهر في لمح البصر ، وجاءت اللحظة الفاصلة ، وأزفت ساعة الرحيل التي لا مفر منها ، والعودة الى ربوع الوطن كان مشهد الوداع دراميا .. بكى فيه الاثنان .. أخذت تتفرس في وجهه كأنها تريد أن تحفظ ملامحه قبل الفراق ، أما هو فقد اختزن منها ما يملأ صندوق ذكرياته العمر كله .. !
اشترى هدية وقدمها لها ، ثم فاجأها بأن أفرغ كل ما تبقى من مال في جيوبه ، واعطاها اياه ، ولم يُبقي لنفسه سوى مبلغ بسيط يكفيه للوصول الى البيت ، رمقته بنظرة منكسرة لا يزال يتذكرها .. ربما تصورت أنه يدفع ثمن متعته ، وعادت الى البكاء مرةً أخرى ، وقالت بانجليزية ركيكة من خلال دموعها ، وبصوت ملئ بالانفعال :
— أرجوك .. يكفي .. لقد عشت معك أسعد أيام حياتي ..
ضمها بحنان الى صدره كأنه يتمنى أن يُدخلها فيه ويُغلق عليها .. لم تسعفه الظروف من حوله : المادية والأسرية ، وظروف البلد السياسية في قادم السنين من زيارتها .. حتى أصبح السفر بعد ذلك خارج العراق من المستحيلات ..
والآن .. وبعد مرور سنين طويلة ، وحتى وهو في ضمور الشيخوخة لا يزال الاستاذ عبود عبد الواحد يعيش ذكرى تلك الأيام التي قضاها بين ذراعي حب حياته .. دانا .. ذكرى ذلك الحب اليتيم .. حب بلا غد .. وبقي شديد الاعتزاز بذلك الجزء من حياته .. حتى الرمق الأخير .. !!
( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في