الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البُعد المنسي للعالم،ثورة فتجنشتاين الفلسفية

القاسم محمد
طالب

(Al-kasim Mohammed)

2022 / 9 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ُيقال إن الفلسفة بدأت في اليونان ومع طاليس تحديدًا، إذ وضع هذا الاخير أول تصور فلسفي عن العالم مرو ًرا بأفلاطون وارسطو وفلاسفة العصر الذهبي للإسلام ثم الفلسفة المدرسية في اوروبا إلى فلاسفة عصر النهضة وما بعدها، سلَّك هؤلاء جمي ًعا النهج الذي سلكه طاليس في تفسيرهم للعالم مع تطورات ومناهج و ُسبل جديدة صبغت فلاسفة كل جيل حسب روح عصرهم السائدة انذاك. و لاشك ان الجدل الفلسفي تطور كثي ًرا خلال تلك القرون إلى الحد الذي قد تبدو فيه مناهجنا الحالية غريبة ومعقدة جدًا لو ُبعث أحد الفلاسفة الأقدمين وأطلع على ما وصلنا إليه. و هذا التطور صاحبه ولادة تفسيرات جديدة للواقع الخارجي والاخلاق ًوالنظريات السياسية وغيرها من مجالات الفلسفة، إذ ان لكل فيلسوف نه ًجا محددًا على أثره ُينتج فلسفة ما تبدو مختلفة عنما سبقها أو من عاصرها ممن يتبنونمدارسفلسفيةمغايرة، ُربماقديدفعناًهذاالتباينالكبيرإلىالتساؤلحتًماعنأسبابه، لكن المنطقالسليم ُيحتمعليناأننتساءلأولاعنمشروعيةالعملالفلسفيوحدودهوعنإمكانية تعبير اللغة المستخدمة في حياتنا اليومية البسيطة عن مصطلحات ميتافيزيقية أو ما شابه ؟
حقًا ان الفلاسفة مارسوا الفلسفة لقرون عديدة دون ان يعيروا انتبا ًها أو اهتما ًما للأداة التي يستخدمونها للتعبير أو مدى قابلية الكلمات على تحمل تلك المعاني التي حملوها لها، لم يهتم فلاسفة كبار من أمثال كانط وغيره باللغة اطلاقًا واعتبروها بمثابة شيء ثانوي مقارنةً بالأفكار والمفاهيم. والحقيقة أن التيار
اللغوي في الفلسفة بدأ ينشط في أواخر القرن التاسع عشر بالتزامن مع التيار المنطقي، إذ نذكر هنا لغويين ومناطقة من أمثال جوتلوب فريجة الذي سلط الضوء على جهازنا الرمزي والمنطقي ووضع نظريته الشهيرة في المعنى والدلالة، قاصدًا بالمعنى ما ُيكتسب من السياق وبالدلالة ما يقع في العالم والخارجي وللتوضيح أكثر استعمال مثاله الشهير نجمة الصباح ونجمة المساء اللتان تشيران إلى نفس الجرم السماوي. لقد مهدت ملاحظات فريجة الطريق لفلاسفة أخرين أمثال جورج إدوارد مور و برتراند راسل، انطلق راسل من ملاحظات فريجة ليضع لنا رؤيته الذرية المنطقية، إذ إن العالم ينحل إلى ذرات هي ليست فيزيائية بطبعها بل منطقية يمكن التعبير عنها بواسطة قضايا لغوية لتكون هذه الاخيرة بمثابة تمثيل للوقائع الموجودة في العالم الخارجي التي نختبرها بالتجربة. واستمرا ًرا على هذا النهج جاء لودفيغ فتجنشتاين وهو من نعنى بدراسته اليوم، إذ د ّرس هذا الاخير في كامبردج وقرأ لفريجة وراسل ومور ووضع هو الآخر خلاصة جهده في مؤلفه الشهير "رسالة منطقية فلسفية " التي كتبها اثناء مشاركته في الحرب ووقوعه أسي ًرا أما مقدمتها فقد كتبت على يد أستاذه راسل.
يمكننا أن نعتبر فتجنشتاين تمثي ًلا لروح عصره وأن نرى فلسفته على أنها امتداد لفلسفة راسل وفريجة، ألا إن مساهمات فتجنشتاين وإن كانت اعتمدت على كتابات هؤلاء ألا انها اخذت سياقًا مختلفًا وبالتالي نتائج مختلفة رفض بعضها راسل ولم يفهم بع ًضا منها فريجة وأخذ فلاسفة حلقة فيينا منها ما يسمح لبناء جهاز رمزي منطقي في سوء فهم واضح لفلسفة فتجنشتاين. والحق أنه هو شخص ًيا يتحمل جز ًءا من سوء الفهم الذي حصل، إذ كتب الرسالة بلغة منطقية معقدة تبدو للقارىء المتبدئ إنها رموز أو طلاسم يصعب تفسيرها.
لغرض التأصيل الفلسفي لمبادئه، اعتبر فتجنشتاين ان قضايا المنطق ليست قضايا حقيقية بل هي أشباه قضايا واعتبرها على إنها تحصيل حاصل، فمث ًلا عند قولنا ان السماء قد تمطر غدًا أو لا تمطر فأن هذه القضية ستأخذ كل المكان المنطقي وبالتالي هي قضية تحصيل حاصل. وعلى النقيض عند قولنا إن السماء تمطر غدًا ولا تمطر فأن هذه القضية تعتبر تناق ًضا ولا تأخذ أي حيز من المكان المنطقي. بنا ًءا على هذا يصبح المنطق وقضاياه قبل ًيا أو سابقًا على التجربة لا يعتمد على الواقع الخارجي. أما القضايا الحقيقية فهي ما تصف الواقع الخارجي فتأخذ حي ًزا محددًا من المكان المنطقي على عكس قضايا المنطق -التي تمثل اقصى حدود المكان المنطقي- ولكي تأخذ هذا الحيز فأنها يجب أن تحمل معنى وهو الشرط الاساسي للقضايا الحقيقية، أما ما قصده فتجنشتاين بالمعنى هو الإمكانات، أي امكان حدوث القضية ولا يشترط بالمعنى ان تكون القضية وقعت فع ًلا أم لا ، إذ أن الوجود في العالم الخارجي يعني صدق القضية وعدم الوجود يعني كذبها، هذه الثنائية القطبية للقضايا ( صادقة، كاذبة ) تختلف -حسب فتجنشتاين- عن معنى القضايا وهي لا تدخل في المعنى. أما القضايا الحقيقية ذات المعنى فهي تتألف من قضايا ذرية وهذه الاخيرة تتألف من أسماء تشير إلى مدلولات موجودة في العالم الخارجي، ترتبط هذه الاسماء مع بعضها في ترتيب معين لتكون بنية القضية، إذ بدون هذه البنية تصبح القضية عشوائية بلا دلالة حقيقية، والجدير بالذكر هنا أنه عند فتجنشتاين تكتسب الاسماء معناها عند وجودها في قضايا ذرية، إذ بهذه القضايا تُعرف الاسماء ، وللقضايا ذرية صورة عامة تمثل صفاتها الداخلية التي بواسطتها تشرح إمكان ارتباطها مع بعضها البعض لتكون القضايا المركبة وهذه تتألف من قضايا ذرية ترتبط مع بعضها بواسطة الثوابت المنطقية، والثوابت المنطقية -كثابت النفي مث ًلا- عند فتجنشتاين بلا معنى لأنها لا تمثل شيئًا في الواقع الخارجي ولا تضيف شيئًا في فهمنا للقضية المركبة إذ ما يهم فع ًلا هو القضايا الذرية، فعند معرفتنا لجميع القضايا الذرية وبوجود الصورة العامة للقضية يمكننا معرفة جميع قضايا اللغة، فهذه الأخيرة تعطى لنا مرة واحدة وإلى الأبد.
أما الواقع الخارجي الذي يعطي المعنى للقضايا فهو يتألف من مجموع الوقائع لا الأشياء، لأن الاشياء مثل الاسماء توجد ضمن الوقائع كما توجد الاسماء ضمن القضايا الذرية ولا يكتسب كل منهما معنى إلا بهذا الوجود، وهنا نلاحظ اختلاف فتجنشتاين عن فريجة، اذ أن الاسماء لدى فتجنشتاين لها دلالة فقط أما المعنى فهو يكون للقضايا هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فأننا نلاحظ إن انطولوجيا الرسالة تعتمد تما ًما على حدود اللغة فحدود لغتي هي حدود عالمي كما يعبر فتجنشتاين، وهذا التطابق بين الاسماء في مقابل الاشياء والوقائع في مقابل القضايا هو جوهر نظرية الرسم المنطقي، التي ترى ان وظيفة اللغة هي تمثيل للعالم -وهو رأي تراجع عنه فتجنشتاين لاحقًا في كتابه "تحقيقات فلسفية"، وأعتبر ان للغة وظائف اخرى غير التمثيل- إذ بهذا التمثيل تتحقق ماهية القضية وهي الإمكانات وبالتالي تكون القضية ذات معنى. أما الفكر لدى فتجنشتاين فهو لا يختلف كثي ًرا عن اللغة إذ هو الرسم المنطقي للوقائع والقضية ذات المعنى.
بنا ًءا على ما سبق تسائل فتجنشتاين عن جدوى النشاط الفلسفي، اذ ان القضايا التي تستعمل في اللغة الفلسفية لا تحتوي على شرط الإمكان وهي قضايا ناتجة عن سوء فهمنا واستخدامنا لمنطق اللغة، فهي إذن قضايا غير ذات معنى لأنها تتكلم عن ما لا يمكن التكلم به لغو ًيا لكنه يظهر ضمن منطق اللغة وما
لا يمكن قوله -حسب فتجنشتاين- ينبغي لنا ان نصمت عنه وما يمكن قوله، يمكن قوله بوضوح
بإستعمال منطق رمزي صحيح، فلا تُطرح الاسئلة إلا بوجود الاجوبة، فعدم وجود الاجوبة يعني ان الاسئلة خالية من المعنى وفي هذا هدم لفلسفة الشك التي تتسائل عن طبيعة الواقع ووجوده. ومن نتائج هذا أي ًضا ان تكون قضايا الجماليات والاخلاق مما لا يمكن قوله في اللغة وفيها أي ًضا رفض للميتالغة وبعض نظريات راسل اللغوية. وينبغي هنا أن نذكر ان هذه النتائج لا تنطبق على قضايا المنطق لأن قضايا المنطق -كما أسلفنا- لا تحتوي على الثنائية القطبية (صادقة، كاذبة) فهي تعتبر قضايا خارجة عن المعنى ( تقابل اللفظ الألماني sinnlos), وتعني أن المعنى لا يطبق على هذه القضايا وهي تختلف بذلك عن القضايا الخالية من المعنى (تقابل اللفظ الألماني unsinn) التي لا تقابل شيئًا في الواقع الخارجي. أما وظيفة الفلسفة لدى فتجنشتاين هي وضع توضيحات وشروحات لقضايا العلم الطبيعي التي تمثل كل ما يمكن قوله لا أن تأتي بقضايا جديدة فالفلسفة كلها نقد للغة. وهذا الكلام ينطبق أي ًضا على قضايا رسالة فتجنشتاين، وهو ما اعترف به صراحةً قائ ًلا أن قضاياه اعتمادًا على ما سبق تعتبر غير ذات معنى لأنها تتكلم فيما لا يمكن التكلم فيه ويمكن اعتبارها بمثابة السلم الذي يوصلنا إلى هدفنا ثم نتخلص بعدها منه.
وسوا ًء اتفقنا أو لم نتفق مع فتجنشتاين فأننا لا يمكننا أن نبخس جهوده أو نهمل نظرياته في المعنى والقضايا والرسم المنطقي، فهذا الالتفات للغة في تمثيلها وتصويرها للعالم وإمكانياتها وأسسها المنطقية يمكن اعتباره بمثابة ثورة في المفاهيم ازاحت الستار عن شيء كان خف ًيا عنا لفترة طويلة ولم ندرك مدى أهميته أو سوء استعمالنا له الذي نتج عنه خلط في التفسيرات وتحميل الكلمات بما لا تحتمل من معاني، هذا الالتفات هو ُربما يشبهإلى حدما التفات اينشتاين إلى البعدالمنسي في المعادلات الرياضية، أعني بذلك بعد الزمن الذي يشكل مع الطول والعرض والارتفاع العالم الخارجي كما تشكل اللغة والفكر والوقائع العالم الخارجي لدى فتجنشتاين، فكما أن فيزياء اينشتاين كانت ثورة على الفيزياء الكلاسيكية منذ عصر نيوتن بعد أن عجزت هذه الفيزياء عن وصف العالم وصفًا دقيقًا فجاءت النسبية لتصحح مفاهيمنا بالنسبة للعالم، كذلك الأمر بالنسبة لفلسفة اللغة التي مثلت ثورة على الفلسفة السائدة، ينبغي علينا أن نأخذ مبادئها بالحسبان عند وصفنا للعالم و أن لا نفرط في التفصيلات اللغوية التي لاتمثل اي شيء في الواقع. ُربما أفرطت الفلسفة في مثل هذه التفصيلات وأبتعدت كثيًرا عن العالم الخارجي إلى أن اصبحت محدودة بعدد ضئيل من الفلاسفة في عصرنا الحالي، فإذا رفضنا نتائج فتجنشتاين واستنتاجاته فعلينا ان نتذكر هذه النقطة دائ ًما وأن نعود بالفكر إلى مجاله الحقيقي كي تتحقق أهدافه المرجوة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ثورة فنجنشتاين الفلسفية
Magdi ( 2022 / 9 / 30 - 15:54 )
ثورة فنجنشتاين الفلسفية
1-تعريف الفلسفة -محبة الحكمة -و السؤال الجوهرى - لما الوجود
( Etre)
وليس العدم -?.بعد فنجنشتاين أصبح السؤال الجوهرى : ماذا تعنى هذه العبارات ?مما دفع داريدا إلى الإدعاء - لا يوجد شيئ خارج اللغة .أرى أنه توجد اشياء كثيرة خارج اللغة : الصمت ، الأكشن ، الرسوم،صورة (image
)
2- كان يعتقد أن وظيفة اللغة هى مجرد تمثل الواقع أو العالم ثم تراجع وأكتشف أن اللغة - أداة نستخدمها - أعطيكم مثلا لم يذكره :لو قلت - الشمس مشرقة - فى الظاهر أصف هذا الكوكب ولكن قد أستخدم هذا الوصف ككلمة سر .
3- فرق بين أن تقول شيئا ذى معنى
( -dir-e) أ
و شيئا لا يمكن التحقق من صحته فيكفى الأشارة إليه
(montrer) مثل العبارات الميتافيزيقية ( فى نظرة ثرثرة بلا معنى ).سبق ان كتبت فى الحوار المتمدن: لا يمكنى فهم كامل القدرة تماما مثل النملة غير قادرة على أستيعاب نظريات أنشتاين.
4- كان يرى أستحالة لفة خاصة ( اللغة ظاهرة أجتماعية) لا يفهمها سوى مخترعها..أريد أن أعرف، هل روبنسون كروزو يعيش وحيدا فى جزيرته فى أمكانه خلق لغة خاصة كما يعتقد Ayer
--
تحياتى .مجدى سامى زكى
Magdi Sami Zaki

اخر الافلام

.. حماس تواصلت مع دولتين على الأقل بالمنطقة حول انتقال قادتها ا


.. وسائل إعلام أميركية ترجح قيام إسرائيل بقصف -قاعدة كالسو- الت




.. من يقف خلف انفجار قاعدة كالسو العسكرية في بابل؟


.. إسرائيل والولايات المتحدة تنفيان أي علاقة لهما بانفجار بابل




.. مراسل العربية: غارة إسرائيلية على عيتا الشعب جنوبي لبنان