الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة الحرية السياسية والتنمية الاقتصادية في مجتمعاتنا العربية

عزالدين معزة
كاتب

(Maza Azzeddine)

2022 / 10 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


يقول أحد المفكرين العرب " أن كمية اوكسجين الحرية الموجود في الوطن العربي كله لا يكفي رجلا واحدا حرا "
يكثر النقاش عن ارتباط حرية الرأي والتعبير بالتنمية الاقتصادية وعن أولوية كل منهما على الآخر ودورهما في بناء المجتمعات المتقدمة وإحداث الرخاء الاقتصادي.

وتطرح هذه القضية التقاء الجانب السياسي ونظيره الاقتصادي في تشييد الأمم والارتقاء بها حيث يؤثر كل جانب في الآخر بهدف صياغة سياسات عامة هادفة إلى خدمة المواطن فكانت الفكرة الرائجة لدى علماء الاقتصاد على مستوى العالم أن الحريات السياسية هي انعكاس وثمرة طبيعية من ثمار التخطيط التنموي السليم، فالحرية السياسية وبالأخص حرية الرأي هي إحدى وسائل التنمية الاقتصادية وأدواتها وليس نتيجة من نتائجها وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار الحريات السياسية هادياً للتنمية الاقتصادية حيث إن الأخيرة تنبني على مرتكزات ديمقراطية عديدة تتجلى في إرساء نظام للتعددية السياسية ومشاركة المواطنين في اتخاذ القرار من خلال عقد اجتماعي مدني بين السلطة والشعب، كما أن التنافس بين القوى السياسية يبرز تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيما يتعلق بالفقر والبطالة والنمو وذلك بالرجوع إلى آليات الانتخاب.
لا تنمو روح الابتكار هذه إلا في كنف الحرية السياسية والاقتصادية، وفي ظل توجُّه الحكومات نحو التنمية والنهضة، من خلال إطلاق حرية الأفكار والتعبير عنها. ولا تنمو تلك الروح مع سعي نظم مستبدة إلى زرع مشاعر الخوف في قلوب الشعوب؛ لأنه يجعل أفكار الناس تنحصر في الدفاع عن أنفسهم ضد القمع، كما أنها تنزع منهم الانتماء (المتمثل بالرغبة في تلبية احتياجاته وحل مشكلاته)، وتزرع بديلا عنها روح السخط على البلد الذي يظلمهم، ويعتدي عليهم بلا جريرة.
الكتابة عن "الحرية السياسية" في الوطن، حديث ذو شجون، ولا يُصدَّر إلا "بأزمة". كما أن الخطابات حولها مأزومة ولا تستطيع أن تتحرر من قيود المراقبة، وكيف السبيل إلى ذلك وكل شيء محاصر: الإنسان والكلمة، الفكر والهمسة،
يتناول الفكر المعاصر قضية الحرية الفكرية التي هي الأساس الأول للحرية السياسية والاقتصادية، من خلال التاريخ. والصورة الأولى للحرية التي اقترنت بها في التاريخ هي الحرية السياسية حين أحس الإنسان أنه مقيد بالنظم الاقتصادية والسياسية. وبالرجوع إلى القرون الأربعة الأخيرة في الفكر الغربي، نرى أن دعوى الحرية السياسية قامت بهدف كسر جدار التحجر الفكري الذي أشاعته سلطتا الدولة والكنيسة. ذلك لأن هاتين السلطتين كانتا تتدخلان في كل مظهر من مظاهر الحياة: في العقيدة وفي الممارسات اليومية وفي الفن وفي العلم وما إلى ذلك. وحسب جون بيوري، فإن المعبد والعرش يؤلفان مؤامرة شريرة ضد تقدم الانسانية. ونحن إذ نتطلع إلى الوراء يرعبنا هول ما حدث لأبطال الحرية العقلية على ايدي ذوي السلطة العميان الخبثاء.
فنعلم أن ولادة الحرية الفكرية في أوروبا كانت عسيرة واستمرت لقرون وكانت خطواتها بطيئة وصراعها مع أعدائها عنيفاً قدمت خلاله العديد من الضحايا.
كم هو مذعور إنساننا العربي في هذا الزمان. إنه مذعور من الحاكم المستبد الذي يتربص له ويضع أقفالاً على فمه وقلمه. ومذعور من رجل الدين التقليدي الذي لا ينفك يتوعده بجهنم وعذاب القبر، ومن الفقر والبطالة والشيخوخة ومستقبل أبنائه في التعليم والسكن والوظيفة. ومن مجتمعه الذي يتحفز لمقاضاته إذا تجرأ وخرج عن تقاليده، وحتى من أفكاره إذا ما جمح خياله إلى ما يغضب الله. أما جون بيوري فنسب الخوف من الحرية للكسل والركون إلى السهل والعادة. يقول:
"فعقل الإنسان العادي هو عادة عقل كسول. يفضل الأخذ بالسهل الذي لا يتطلب جهداً. والعالم العقلي لهذا الإنسان تستحوذ عليه معتقدات سلم بها دون اية مساءلة. هو بالغريزة يعادي كل ما يخلخل ما ترتب في عالمه المألوف. ففكرة جديدة لا تتطابق مع المعتقدات التي ألفها تعني اعادة ترتيب عقله. وهذه عملية شاقة تتطلب جهداَ ذهنياً مضنياً. فله ولأمثاله من العوام تكون الأفكار الجديدة والآراء التي تشكك بما ترسخ في ذهنه من معتقدات، أفكاراً شريرة لأنها غير مألوفة".

إن الحرية التي تمنحها دساتير الدول العربية لحزب أو جماعة أو لوسائل الإعلام هي حرية يمكن سحبها بقرار مفاجئ من السلطة العليا، فالحرية لكي تنجح وتترسخ في المجتمع تتطلب مؤسسات تمنع الدولة أو فئة من المجتمع من الاعتداء على مواطن أو مواطنين وسحب حقوقهم أو التدخل بحريتهم. والحرية لا قيمة لها إن لم تتثبت وتتجذر عبر دستور وقوانين واضحة وقضاء مستقل وهيئات ومؤسسات مدنية وصحافة حرة، تدعمها وتؤكدها وتدافع عنها. وتؤكد التجربة الإنسانية بأن الحقوق التي تمنح من الأعلى لا يمكن أن تصمد إن لم تعززها القيم القانونية والقضائية ومؤسسات المجتمع ذات القدرة على إيقاف عملية التراجع عن الحريات والحقوق بجرة قلم، أو نزوة حاكم متسلط. إن محاولة قتل السياسة والمساحة العامة وخنق حرية الصحافة وبقية وسائل الإعلام الأخرى، هي أحد أهم مسببات المشكلة العربية مع الحرية، لأنها تعني غياب نقاش وطني حول الشؤون السياسية والاجتماعية والإدارية والاقتصادية وحول الفساد وأثره واضراره على الأمة برمتها وحقوق المرأة وحقوق الإنسان وطريقة إدارة الحكم وقرار الحرب وقرار السلم والتفاوض. إن تفادي النقاش المفتوح سلم الدولة للجنة صغيرة (الدولة العميقة إن صح التعبير أو جماعة المخابر السوداء او الغرف المغلقة) التي تدير البلاد وفق منظورها الأمني الخاص ومصلحتها الضيقة التي جعلتها فوق مصلحة الوطن. الدولة العميقة في العالم العربي تعبير هي حالة احتكار واستحواذ واستخدام للقوة الأمنية والجيوش ضد المجتمع أو فئات منه.
لم يكتف الجيش في البلاد العربية، بدوره الطبيعي المتمثل في حماية السيادة الترابية، بل انتقل بكل ثقله الرمزي والمادي من حدود الوطن إلى حدود السياسة والسلطة، بل وإلى كثير من الفعاليات المجتمعية المدنية كالرياضة والثقافة والعمل الاجتماعي ...
فالمؤسسات العسكرية في العالم العربي، وكما يقول محمد نور فرحات "تباشر الحكم والسياسة إما بطريقة سافرة في شكل حكم عسكري معلن، وإما بطريقة غير سافرة من خلال موقعها المؤثر في قلب النظام السياسي العام".
فتاريخ الدول العربية وراهنها يؤكدان أن المؤسسة العسكرية لا تكتفي بدور مراقبة الحدود وحماية الأوطان من التهديدات الخارجية، بل تساهم في صنع القرار وصنع الرؤساء أيضا كما حدث في الجزائر وليبيا والعراق ومصر وسوريا واليمن والسودان. خصوصا وأن السلط الحاكمة، تعتبره "ملكية خاصة" لها، تستخدمه لحماية نفسها من المعارضة السياسية، ومن كل أخطار التهديد والمنافسة على المشروعية. وهو ما يزيد من حجم سلطة الجيش ويبرر تدخله في الشأن العام.
إنه وضع مختل يلوح فيه التباين المستمر بين مؤسسات عسكرية بسلطات واسعة وتقريرية، وسياسيين بمهام استشارية غير ملزمة في كثير من الأحيان، ما يزيد من تقوية تدخل الجيش في المجتمع العربي، بصورة تفيد الهيمنة لا غير.
إن جوهر الحرية وأساسها سياسي بالدرجة الأولى، وذلك لأن السلطة السياسية تمتلك أدوات عقابية وأمنية وعسكرية ولديها الاحتكار الأكبر لوسائل العنف في المجتمع، وبالتالي إن لم يستطع الفرد المواطن نقد سلطة الدولة والحد من صلاحياتها وجبروتها فحريته معرضة للمصادرة. لهذا بالتحديد برز في التاريخ الإنساني ذلك السعي للحد من صلاحيات الدولة والحكومة بهدف حماية المجتمع من سوء استخدام السلطة لصلاحياتها. إن قوة كل دولة وحكومة تتطلب تحديد لمداها.
إن الحرية في حدها الأدنى: هي تلك الحرية التي نمتلكها أولاً في نقد السلطات أكانت هذه السلطات حكومة قوية ومتنفذة أو برلماناً لديه سلطات تشريعية واسعة أو قرارات سلطة قضائية أخطأت في تطبيق القانون. والحرية هي أيضاً تلك الحرية التي يمتلكها صحفي وكاتب ومسرحي وسينمائي أو مثقف وفئات أو جماعات في قول رأيها بحرية وبلا موانع دون أن تتدخل السلطات وأجهزتها الأمنية في تحديد واعتقال تلك الحرية.
لقد أشارت أدبيات سميث وفريدمان وهايك وعدد آخر من علماء الاقتصاد الرواد إلى أهمية ودور الحرية السياسية والاقتصادية في زيادة النمو الاقتصادي. ففي «ثروة الأمم» كان آدم سميث يبحث عن أسباب النمو الاقتصادي حيث إن الأسواق الحرة وحماية حقوق الملكية والحد الأدنى من التدخل الحكومي في الاقتصاد تؤدي إلى الرخاء والنمو الاقتصادي. وقد أرجع آدم سميث حالة النمو الاقتصادي إلى سياسة المنافسة حيث آلية اليد الخفية، فالأفراد يتصرفون وفقاً لمصالحهم الخاصة ومجموع هذه المصالح تشكل المصلحة العامة. في حين يجادل فريدمان بأن كلتا الحريتين (الحرية الاقتصادية والحرية السياسية) تعززان نفسيهما بصورة تبادلية؛ فالتوسع في الحرية السياسية -أي ديمقراطية أكثر-يسرِّع الحقوق الاقتصادية والتي تؤدي بالتالي إلى تحفيز النمو. في حين يتساءل أمارتيا سين هل نظام الحكم الاستبدادي نسبيا مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة في عهد «لي» والصين بعد الإصلاح حققت معدلات نمو اقتصادي أسرع من بلدان أقل منها استبدادا (مثل الهند وكوستاريكا وجامايكا). ويضيف سين أننا لا نستطيع في الحقيقة أن نأخذ النمو الاقتصادي المرتفع في الصين أو كوريا الجنوبية في آسيا كبرهان حاسم على أن نظام الحكم الاستبدادي ناجح في النهوض بالنمو الاقتصادي. أما نورث North فقد أكد أن النمو الاقتصادي يمكن أن يحدث في الأجل القصير مع وجود أنظمة دكتاتورية ولكن النمو الاقتصادي في الأجل الطويل يستلزم تنمية حكم القانون وحماية الحريات المدنية والسياسية. وتشكل نظرية التغيير السياسي المقدمة من قبل هنتنغتون تقييدا لدور الديمقراطية في التنمية الاقتصادية،
فالعلاقة بين التنمية السياسية والديمقراطية السياسية تجعل النمو أولا والديمقراطية ثانيا. في حين عبر لبست Lipset عن أن الديمقراطية لا تتحقق إلا بعد تحقيق الإنجاز الاقتصادي، أي أن التنمية هي المطلب الأساس للديمقراطية. إن هذا الاستعراض الموجز لبعض المساهمات الفكرية لعلماء الاقتصاد يبرز المشاكل الأساسية المتعلقة بالممارسة الثنائية للديمقراطية والحرية الاقتصادية وعلاقتهما بالتنمية الاقتصادية، فكيف ستتحقق الحرية الاقتصادية في النظام الدكتاتوري حيث لا توجد الضمانات الكافية للتطبيق الفعلي للحرية الاقتصادية، وكيف ستحقق التنمية في ظل عدم وجود الديمقراطية. إن أهم ميزة للنظام الدكتاتوري مهما تعددت أشكاله وأسماؤه هي السلطة المطلقة لشخص أو مجموعة أشخاص، وهنا تكمن مشكلة النظام الدكتاتوري الذي حتى لو أسس مؤسسات خاصة للحرية الاقتصادية فإن روح هذا النظام القائم على النهب والسلب لن يحترم التزاماته بشأن الحرية الاقتصادية حيث الفساد والسرقة عنوانان للدكتاتوريات على مر التاريخ. فضلا عن أنه لا يتم احترام حقوق الملكية الخاصة، فكل الاقتصاد مخصص لخدمة النظام الدكتاتوري ونزواته التي لا تنتهي حيث كانت العقود الأخيرة حبلى بالعديد من المآسي التي حدثت في البلدان العربية النامية خاصة في الشرق الأوسط. وبالعودة إلى تجارب بعض البلدان التي نجحت فيها الدكتاتورية بالاقتران مع الحرية الاقتصادية مثل كوريا الجنوبية وبعض دول الشرق الأدنى بعد الحرب العالمية الثانية، فإن النمو الاقتصادي الكبير الذي حدث في هذه الدول يرجع أكثر إلى مجموعة القيم الآسيوية التي تقدس العمل والحكم الدكتاتوري الرشيد (نوعا ما) الذي يضع أهدافا للأمة أكثر من خدمة مجموعة أشخاص وهذه حالة نادرة لا يقاس عليها في البحث التجريبي، بينما ذهبت الأنظمة الدكتاتورية العتيدة في العالم الثالث إلى شن الحروب واضطهاد الشعوب ومصادرة الحريات المدنية في سبيل البقاء في السلطة رغم الثمن القاسي الذي دفعته هذه الشعوب دون أن تصل إلى المستوى الذي حلمت به في تحقيق التنمية والرفاهية. لذا فإن الاعتقاد بأن الحرية الاقتصادية قد توجد في نظم دكتاتورية هي مقولة بعيدة عن النهج العلمي المنطقي الذي يفترض وجود أسس لمؤسسات حرة لا تعيش إلا في مناخ صحي بعيد عن الفساد ومصادرة الحريات ومن ضمنها الحرية الاقتصادية، فالنظم الدكتاتورية تسهل عمليات مصادرة حقوق الملكية وعمل السخرة وتصعب دخول الأسواق، إضافة إلى إمكانية حدوث الانتفاضات السياسية والانقلابات العسكرية وبالتالي كل الحريات معرضة للمصادرة. إن دور الحرية الاقتصادية (التي تتضمن صيانة وحماية حقوق الملكية والمنافسة وحرية الدخول للأسواق) في التأثير الإيجابي على النمو الاقتصادي يتطلب توافر عناصر أخرى مكملة تضمن هذه الحرية من التشوهات التي من الممكن أن تؤثر سلبا على أداء الحرية الاقتصادية، وأهم هذه العناصر هو سيادة القانون الذي يمنع من حدوث التشوهات مثل الفساد والسرقة. وضمان سيادة القانون من أولى مهام الديمقراطية حيث وجود المؤسسات مثل السلطة التشريعية المنتخبة والصحافة الحرة وتداول السلطة تكفل هذه السيادة للقانون وذلك لا يتحقق إلا في وجود الديمقراطية
تسمح الحقوق السياسية الكافية للناس باختيار حكامهم والطريقة التي يحكمون بها. إن جوهر الحريات المدنية هو أن الناس أحرار في اتخاذ قراراتهم الخاصة طالما أنهم لا ينتهكون نفس حقوق للآخرين. يشير فريدمان إلى حقيقة تاريخية مفادها أن الحرية الاقتصادية والحرية السياسية ترتبطان ارتباطًا وثيقًا. ومع ذلك، فإن العلاقات بين الحرية الاقتصادية والحريات المدنية والحقوق السياسية معقدة.
لودفيج فون ميزس، شرح لنا كيف أن:
“الحرية كما استمتع بها الناس في البلدان الديمقراطية للحضارة الغربية في سنوات انتصار الليبرالية القديمة، لم تكن نتاج دساتير، وقوانين، وحقوق، وتشريعات. فكل تلك الوثائق تهدف فقط إلى حماية الحرية، التي أنشئت بحزم من خلال عملية اقتصاد السوق، ضد الانتهاكات والتجاوزات من جانب أصحاب المناصب الحكومية“
تطرق الاقتصادي فريديريك باستيا في كتاب القانون عندما قال أن:
“الاقتصاد السياسي يسبق السياسة : على الأول أن يكتشف ما إذا كانت المصالح الإنسانية متجانسة أو معادية وهي حقيقة يجب حلها قبل أن تتمكن الأخيرة من تحديد صلاحيات الحكومة“.
تسمح الحقوق السياسية الكافية للناس باختيار حكامهم والطريقة التي يحكمون بها. إن جوهر الحريات المدنية هو أن الناس أحرار في اتخاذ قراراتهم الخاصة طالما أنهم لا ينتهكون نفس حقوق للآخرين. يشير فريدمان إلى حقيقة تاريخية مفادها أن الحرية الاقتصادية والحرية السياسية ترتبطان ارتباطًا وثيقًا. ومع ذلك، فإن العلاقات بين الحرية الاقتصادية والحريات المدنية والحقوق السياسية معقدة.
إن ممارسة الحرية الاقتصادية في ظل الديمقراطية التي تحمي هذا النوع من الحرية هو أمر منطقي، حيث لا يمكن تصور وجود الديمقراطية من دون حرية اقتصادية فكلتا الحريتين السياسية والاقتصادية تحفزان النمو الاقتصادي بشكل تكاملي والتوسع في أي منهما يعني التوسع في الآخر. وبالعودة إلى فرضية ليبست Lipset التي اشترطت وجود التنمية للانطلاق إلى الديمقراطية فإن هذه الفرضية أهملت العوامل المحفزة للتنمية والتي تنشأ فقط في ظل الديمقراطية، مثل تعزيز الحرية الاقتصادية وحقوق الملكية الفردية وزيادة قدرة الأفراد على الابتكار والتنظيم والادخار والاستثمار في ظل الديمقراطية. فيما أشار عدد من الباحثين (Goodin، Goodell وPowelson) إلى أن التعددية الاقتصادية هو أمر جوهري بالنسبة للنمو الاقتصادي، فالمتطلب الضروري للنمو الاقتصادي هو وجود شرط كون الأفراد أحرار في زيادة وتراكم مواردهم من خلال الأسواق، وفقط تحت شرط التعددية الاقتصادية فإنه تنبثق التكنولوجيا المبدعة والمتنافسة. والأمر الضروري الآخر هو التعددية السياسية الحاسمة لبقاء وحيوية التعددية الاقتصادية. حيث تعتمد الأخيرة على المنافسة المفتوحة وإمكانية التنبؤ، فقط عندما يكون النظام السياسي منظما حسب القواعد الديمقراطية، حينها سيكون الأفراد والمؤسسات حراس أساسيين ضد هيمنة الحكومة لإيجاد الشروط المؤدية إلى المنافسة. إن التنمية الاقتصادية لا تتحقق في ظل النظم الدكتاتورية سواء التي وجدت بها حرية اقتصادية ناقصة أو التي لم توجد فيها هذه الحرية على الإطلاق مثل منظومة الدول الاشتراكية التي انهارت في بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين، فمقولة فريدمان بأن كلتا الحريتين (الحرية الاقتصادية والحرية السياسية) تعززان نفسيهما بصورة تبادلية هي الأصح وغياب إحداهما يجعل التنمية مشوهة وناقصة في الأمد الطويل.
الحرية كمطلب سامي لا يحمل همه -في الغالب-إلا المثقفين والصحفيين الذين يعتبرون دوما قلة بالنسبة لتعداد الناس؛ ولذا بقدر زيادة الوعي والثقافة في أوساط الناس زادت حصة الحرية ضمن مطالبهم. التنمية أيضا وبلوغ الرفاه الاقتصادي وخروج أغلب الناس من دائرة الفقر وبلوغ معظمهم حد الكفاية يعزز من دور الثقافة والفنون والذي بدوره يعزز من ظهور قضية الحرية ضمن المطالب الشعبية وإن كان ذلك بصورة أقل.
ما الحاجة للتذكير بهذا، مع أنه من قبيل البديهيات؟
واقع الأمر أن «الحرية» ليست من الأمور البديهية في المجتمعات المسلمة، بل في عامة المجتمعات التقليدية. من المفهوم طبعاً أن الحرية قيمة عُليا، وهي من المسلّمات التي لا يجادل العقلاء في ضرورتها وحاجة الإنسان والجماعة إليها، وفي كونها من أسباب التقدم والقوة. هذا كله أمر مفهوم؛ أن مجتمعاتنا لا تعتبر الحرية قيمة عليا، ولا تصنفها بين المسلّمات. وهي تقول ذلك صراحة، أو تقوله مداورة، حين تدّعي أنه لا يوجد معنى دقيق للحرية، أو حين تشدّد على الربط بين الحرية والانفلات السلوكي أو انتشار الفساد الأخلاقي.
هذا يظهر غالباً حين يعيق المجتمع رغبة الأفراد في التعبير عن أنفسهم بطريقة غير مألوفة، الأمر الذي يكشف عن ارتباط عضوي بين الحرية والتمرد على حدود المجتمع وتقاليده.
التصادم بين الرغبة في الاستمرار التي يعبر عنها العرف الاجتماعي، وإرادة التغيير التي تعبر عنها محاولات الأفراد للتحرر من ذلك العرف، يكشف عن منهجين مختلفين للتفكير في الحرية:
المنهج المحافظ: وينطلق من فرضية أن النظام الاجتماعي هو الأصل، وأن سعادة الإنسان رهن بالمحافظة عليه. وينصرف هذا إلى معنى احترام الأعراف والهوية المشتركة والتعريف الاجتماعي للمصلحة العامة. وفقاً لهذه الرؤية فإن للفرد حقوقاً يستمدها من عضويته في الجماعة، ولذا فإن تمتعه بها، ومن بينها ممارسته لحريته، يجب ألا يُعارِض -بأي شكل-العرفَ الاجتماعي أو إرادة المجتمع.
أما المنهج الليبرالي: فينطلق من فرضية معاكسة، فحواها أن الحرية حق أصلي للإنسان، وهي من لوازم إنسانيته وعقلانيته. في الوضع الأصلي كانت حرية الإنسان مطلقة، لكن حاجة الفرد للعيش في المجتمع أوجبت تحديدها؛ كي يستطيع كافة أعضاء المجتمع ممارسة حريتهم، من دون تزاحم. هذا التحديد استثناء من القاعدة أو خروج عن الأصل، فيجب تقييده بقدر الضرورة؛ كي لا يتحول إلى قاعدة بذاته.
فكرة التزاحم، لا سيما تبريرها لتقييد الحرية الفردية، بدت في أول الأمر بسيطة ومعقولة؛ لكن تطبيقاتها العديدة كشفت عن تعقيد غير متوقع. كان جون ستيوارت ميل بين أوائل الفلاسفة الذين تنبهوا للحاجة إلى معيار للفصل في تنازع الإرادات بين الأفراد، أو بينها وبين أعراف المجتمع ومصالحه، فوضع قاعدة اشتهرت فيما بعد باسم «مبدأ ميل» أو "مبدأ الضرر". صنف ستيوارت ميل الأفعال إلى نوعين: فعل يتعلَّق أثره بالفاعل دون غيره، مثل التدين أو الإلحاد، والعمل أو ترك العمل، فهذه وأمثالها أفعال لا ترضي بعض الناس؛ لكنها لا تضر أحداً غير الفاعل. أما النوع الثاني فهو الأفعال التي تترك ضرراً جسيماً على الآخرين، كالدعوة لكراهية الملونين أو أتباع الأديان الأخرى. رأى ميل أن الحالة الأولى لا تبرر للمجتمع ردع الفاعل، حتى لو كان فعله مناقضاً لأعراف الجماعة أو إرادتها، بخلاف الحالة الثانية التي يعتبر فعل الفرد فيها (التحريض على الكراهية) نوعاً من العدوان، فلا يمكن تبريره بحرية التعبير.
يمكن اعتبار الحريات السياسية هادياً للتنمية الاقتصادية، حيث أن الأخيرة تنبني على مرتكزات ديمقراطية عديدة، تتجلى في إرساء نظام للتعددية السياسية ومشاركة المواطنين في اتخاذ القرار، من خلال عقد اجتماعي مدني بين السلطة والشعب، توفير قضاء عادل وفصل بين السلطات، عبر ربط المسؤولية بالمحاسبة، وكذلك تدعيم المواطنة الحقة واللامركزية في تدبير الشأن العام، بما يشجع على المبادرات المحلية والتنمية المجالية، ويضمن توزيعاً عادلاً لثروات الوطنية في كل ربوع الوطن، ويساعد في تقريب الخدمات للمواطنين، من أمن وتعليم وصحة في المدن والأرياف.
وفي هذا الصدد، تحظى الحرية الاقتصادية بأهمية بالغة في الارتقاء بالبعد المجالي، من خلال تحفيز ريادة الأعمال، واتخاذ زمام المبادرة و التنافسية، وتساهم حرية الفكر والتعبير في اقتصاد المعرفة، فالانفتاح والإبداع والابتكار دوائر مركزية في المجتمع التكنولوجي، الأمر الذي يعزز الرأسمال المعرفي.
يظهر الترابط بين الديمقراطية والتنمية في اتباع الديمقراطية ممارسات مؤسساتية، موجهة لتحقيق أهداف التنمية من خلال: النقد العام للحكومة، المساءلة والمحاسبة، مراقبة السلطة التشريعية ومتابعتها، ودور المعارضة السياسية في التقييم، وتوجيه حركات تصحيحية وبدائل تطويرية. كما أن التنافس بين القوى السياسية يبرز تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فيما يتعلق بالفقر والبطالة والنمو، وذلك بالرجوع إلى آليات الانتخاب. إلى جانب ذلك، تتيح الحريات المجال الواسع لتسيير عمل المجتمع المدني، والذي بدوره يساهم في تحقيق التنمية. وعلى هذا النحو، تنتهج دول كثيرة التفاعل والترابط بين مثلث الدولة، السوق والمجتمع المدني الذي يشكل حاضنة شعبية لهواجس المواطن، ومهام المجتمع المدني تتمثل في وضع رقابة مجتمعية وقوة اقتراحية تغني الرصيد القيمي والأخلاقي في المجتمع.
وجدير بالذكر أن إسهامات الديمقراطية في التنمية تظهر في نماذج كالهند والبرازيل وتركيا التي نجحت في الانتقال من جمهورية الموز المحكومة من نظام عسكري ديكتاتوري متفرد في اتخاذ القرار إلى نموذج تنموي يصنف من بين 20 أقوى اقتصاد عالمي، ويحقق نسبة نمو الأعلى في أوروبا بما يفوق 9%.
وفي المقابل، نجد من يعتبر الحرية السياسية غاية للتنمية الاقتصادية، حيث تهدف التنمية إلى اقتناء القدرات الأساسية وتحسين جودة الحياة، ثم الاندماج في المجتمع، عبر تقوية الحريات، فالقضاء على التهميش، باعتبار هذا الأمر جانباً تنموياً، يؤدي إلى تعزيز الحريات والأمن الوقائي، وكذلك تمكين الثقافة الديمقراطية.
إجمالاً، الحرية والتنمية متلازمتان لا غنى عنهما، والتكامل بينهما واضح بما يعزز العدالة الاجتماعية، كحالة ينتفي فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو كلتيهما، ويغيب فيها الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي، وتنعدم الفروق غير المقبولة اجتماعياً بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة. علاوة على ذلك، يتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية متساوية وحريات متكافئة، ويعم فيها الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن والمشاركة الاجتماعية. كما يتاح فيها لأعضاء المجتمع فرص متكافئة لتنمية قدراتهم وملكاتهم وإطلاق طاقاتهم من مكامنها، وحسن توظيفها لصالح الفرد، فلا يتعرض فيها المجتمع للاستغلال الاقتصادي، وغيره من مظاهر التبعية من جانب مجتمع أو مجتمعات أخرى.
للمقال مراجع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: اجتماع أمني تشهده وزارة الدفاع حاليا


.. القسام تعلن تفجير فتحتي نفقين في قوات الهندسة الإسرائيلية




.. وكالة إيرانية: الدفاع الجوي أسقط ثلاث مسيرات صغيرة في أجواء


.. لقطات درون تظهر أدخنة متصادة من غابات موريلوس بعد اشتعال الن




.. موقع Flightradar24 يظهر تحويل الطائرات لمسارها بعيداً عن إير