الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم العنف الاجتماعي : دلالاته وأشكال تجليه (الحلقة الثانية عشرة) ما هو التطهير ؟!

ثامر عباس

2022 / 10 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


(الحلقة الثانية عشرة) ما هو التطهير ؟!


يعد مفهوم (التطهير) وليس (التطهّر) من المفاهيم الدخيلة على حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية ، بعد أن استعاره علماء الاجتماع المحدثين من حقل العلوم الطبية والصحية ، لكي يصار إلى تكييفه وتبيئته ومن ثم استخدامه بما يتناسب وإيحاءاته ودلالاته السوسيولوجية ، وذلك لوصف ما جرى ويجري داخل المجتمعات البشرية المأزومة من صراعات بينية وتصفيات متبادلة ما بين الأقوام والطوائف ، على خلفية ما بينهما من اختلاف في الانتماء الاثني أو تباين في الولاء المذهبي . ولعل تجربة العراق المرعبة أثناء حملات (التطهير الطائفي) التي أعقبت تفجير الإمامين في سامراء عام 2006 ، كانت من الشواهد الدامية التي حفرت لها في الذاكرة العراقية أخاديد من الفواجع والمواجع لن تمحى أبدا".
ولعل هناك من يماهي ما بين مفهوم (التطهير) في معناه السوسيولوجي وبين نظيره مفهوم (التطهّر) في مدلوله الديني تارة أو النفسي تارة أخرى – كما ورد عند الفيلسوف الإغريقي أرسطو ، على سبيل المثال لا الحصر - لكي يسبغ عليه بعدا"تاريخيا"ويضفي عليه قيمة فكرية تتجاوز حدوده وأبعاده . وحيث إن هذا المفهوم (التطهير) ينبئ - في حقله الأصلي (الطبي) – عن وظيفة محاربة / القضاء على الكائنات المجهرية المعدية والمسببة للأمراض مثل الجراثيم والبكتيريا والفايروسات ، فهو عظيم الفائدة وكبير الأهمية بالنسبة لحياة الإنسان وسلامة المجتمع . إلاّ انه حالما يزج في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية – وهو ما تتبنى مقاصده ودلالاته هذه المقالة – للتعبير عن الأزمات السياسية الحادة ، والاحتقانات الاجتماعية المتفاقمة التي يعانيها المجتمع المعني ، حينذاك يشي بدلالات خطيرة وعواقب وخيمة توحي بأعمال القتل الكيفي والمذابح العشوائية والإبادة الجماعية .
ومن الغريب أن يلجأ بعض الكتاب إلى التعاطي مع مفهوم (التطهير) كما لو انه يحيل إلى مفهوم (الترحيل أو التهجير) مفهوما"ودلالة ، وهو الأمر الذي لا يعطي - دوما"وفي جميع الحالات - النتائج ذاتها ولا يولد الانطباعات نفسها ، إزاء ما يترتب على المفهوم الأول من خصوصيات تتسم بالعنف والتوحش . صحيح إن كلا المفهومين ينتميان إلى ذات الأرومة من ترسانة العنف المنطوية على معنى الإيذاء الجسدي والإضرار النفسي ، إلاّ أن لكل منهما أنماطه التعبيرية وسياقاته الاجتماعية وحدوده الدلالية . إذ ليس في كل الأحوال وجميع الظروف أن يقترن مفهوم (الترحيل / التهجير) السكاني بأعمال تنطوي على التنكيل والتقتيل ، بل على العكس من ذلك ، فانه من النادر – إلاّ في حالات معينة - أن تكون سياسات الترحيل أو (التهجير الديموغرافي) مصحوبة بأعمال عدائية وانتقامية مقرونة بالإيذاء الجسدي للضحايا ، بينما نجد إن مفهوم (التطهير العرقي أو الطائفي) لا يكاد ينفصل عن ارتباطه بالممارسات اللاانسانية واللاأخلاقية واللاوطنية من مثل ؛ القتل على أساس الهوية والإبادة على أساس الانتماء .
وعلى الرغم من ارتباط مفهوم (التطهير) بسلوكيات تنم عن (العنف) الاجتماعي التي تمارسها هذه الجماعة الاثنية ضد تلك ، أو يلجأ إليها هذا الطرف الطائفي ضد ذاك . إلاّ أن الدلالات التي يحملها والتداعيات التي يمثلها لا تتوقف عند حدود الممارسة المباشرة (للعنف الجسدي) ، أو إظهار مظاهر (القسوة) و(الوحشية) في مثل هذه الممارسة ، وإنما هو (أي مفهوم التطهير) يضيف إلى تلك الدلالات والتداعيات العدوانية التي ينطوي عليها ، مشاعر وأحاسيس لا تقل عدوانية عن سابقتها من مثل ؛ (الكراهية) و(الاحتقار) التي من شأنها تبخيس القيمة الإنسانية للطرف أو الجهة المستهدفة ، كما وتضفي الشرعيات الوطنية والأخلاقية على عمليات (الاجتثاث) و(الاستئصال) المصحوبة بإجراءات (التطهير) سواء العرقي أو الطائفي أو غير ذلك .
ولعل تجربة العراق – مرة أخرى – بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 وسقوط النظام السياسي ، حيث انخرطت مكوناته السوسيولوجية وجماعاته الانثروبولوجية في أتون (صراع طائفي) ضار ، تشكل مثالا"/ نموذجا"لهذا النمط من الممارسات الاستئصالية المرعبة . إذ لم تكتفي المليشيات الطائفية المسلحة بالتصفية الجسدية كل من يقع بين يديها من الطائفة الأخرى ، وإنما عمدت إلى حمل سكنة أحياء بكاملها على ترك منازلهم ومغادرة مناطقهم والنجاة بأنفسهم ، تحت وطأة التهديد بحرق البيوت أو تفجيرها وقتل سكانها . وهكذا فان عمليات (التطهير) لم تقتصر على (الإنسان) بوصفه كائنا"مدموغ بهوية طائفية مخالفة فحسب ، وإنما شملت (المكان) بوصفه حيزا"جغرافيا"يمثل تحديا" طائفيا"ينبغي (تطهيره) من رجس الآخر الذي كان يسكنه ويعيش فيه . وهو الأمر الذي اعتبر باكورة لانقسام إقليم العراق لاحقا"إلى جغرافيات محلية متباغضة ومتكاره على أساس طائفي مغلق !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأرمن في لبنان يحافظون على تراثهم وتاريخهم ولغتهم


.. انزعاج أميركي من -مقابر جماعية- في غزة..




.. أوكرانيا تستقبل أول دفعة من المساعدات العسكرية الأميركية


.. انتقادات واسعة ضد رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق لاستدعائها




.. -أحارب بريشتي-.. جدارية على ركام مبنى مدمر في غزة