الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوطن العربي وحالة «الإنهاك»

فهد المضحكي

2022 / 10 / 8
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


تكفي مطالعة الأخبار يوميا عن ما يجري في المنطقة العربية كي تفسر، على سبيل المثال حالة التفاعلات المتوترة على وسائل التواصل الاجتماعي، فالضغوطات، كما كتب د. خالد حنفي علي، تتوالى على المنطقة منذ أكثر من عقد، حتى بات التقاط الأنفاس عسيرا ليس فقط للأفراد، وإنما للدول والمجتمعات. في ليبيا وسوريا واليمن لا أحد يعرف متى ينتهي الصراع الأهلي الممتد، فيما تعقد المأزق الطائفي أكثر في العراق. أما اللبنانيون فأمنهم الغذائي بات في خطر وشيك بفعل التأزم السياسي والاقتصادي، فيما تدور السودان في صراع انتقالي مفرغ بين الجيش والمدنيين وسط تردي معيشي، ونذر عنف تطرح سيناريوهات خطرة على بنية الدولة ذاتها. حتى بعض الدول، التي حققت قدرا من الاستقرار، كمصر والجزائر والمغرب والأردن وتونس، فإنها تواجه تحديات اقتصادية حادة جراء جائحة كورونا والحرب الأوكرانية. وسط هذا التأزم تبدو دول الخليج استثناء، بما قد يفسر تصاعد أدوارها الإقليمية خلال العقد الأخير. ومع ذلك، لا يمكن إغفال التحدي الإيراني الضاغط على أمنها. وبينما درجت الأدبيات السياسية والفكرية، على مدار عقود ما قبل الثورات، على وصف منطقتنا المأزومة بسمات عديدة، كالتخلف والعجز والتأخر الحضاري وغيرها، فإن الأزمات والضغوطات المتناسلة بلا هوادة خلال عقد ما بعد الثورات أضافت لها سمتا جديدا هو الإنهاك. قد يرى البعض ممن يفكرون بالتمني أو المؤامرة او حتى الزبائنيون الجدد الذين يستثمرون في الضعف العربي أن هذه السمة للمنطقة، كسابقتها، تنطوي على قسوة واختزال وتشاؤم، ومع ذلك، فإنها تلامس ولو جانبا، من الواقع والصورة العربية نراه بأعيننا وتتأثر به حالتنا الفسيولوجية والنفسية والذهنية ما يقتضي به كي يتسنى التفكير في أبواب التعافي الممكنة.

ينصح الأطباء عادة الأشخاص المتعبين من فرط الإجهاد في العمل أو كثرة الضغوطات بأخذ قسط من الراحة لاستعادة حيوتهم، لكن عندما يتحول هذا التعب إلى إرهاق أو إنهاك مزمن لفترة طويلة، فإنهم يبحثون عن اختلالات فسيولوجية ونفسية وذهنية، لأن هذا قد يكون له تأثيرات سلبية، كالاكتئاب ونقص التركيز وتراجع الإنتاجية، والإحباط والغضب، وغيرها. انتقل هذا المعنى الشائع من مجالات الصحة والنفس إلى السياسة والمجتمع والاقتصاد، على أساس فرضية أن البشر أنفسهم (سواء قادة أو فراد عاديين) هم من يصنعون بالأساس تفاعلات هذه المجالات، وبالتالي، قد تتأثر قراراتهم وسياساتهم بحالتهم الجسدية والنفسية والذهنية إن كانت منهكة من عدمه، وهو ما دللت عليه بجلاء تجربة جائحة كورونا، عندما أنهكت الأفراد والمجتمعات والحكومات، وعرضتهم لتداعيات خطرة سياسية واقتصادية واجتماعية. حتى قبل الجائحة، فقد نالت مصادر الإنهاك الفردي والجماعي اهتماما في الدراسات الاقتصادية. إذ برز على سبيل المثال اتجاه يربط بين تعب الأفراد بسبب قلة النوم وصعوبات بيئة العمل وتضرر اقتصادات الدولة. فنشرت مؤسسة راند الأمريكية في عام 2016 نتائج دراسة أجرتها حول خمس دول في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (الولايات المتحدة، كندا، اليابان، ألمانيا، بريطانيا) أشارت فيها إلى أن قلة النوم للفرد يوميا(أقل من ستة ساعات) قد يؤدي إلى فقدان 3% من الناتج المحلي الإجمالي للدول، وانخفاض إنتاجية العمالة وزيادة مخاطر الوفاة.

مع تصاعد الاهتمام العالمي بإصلاح بيئة العمل «المنهكة» للأفراد، صنفت منظمة الصحة العالمية في العام 2016 «الإرهاق المهني» كمرض شائع في العالم، وعرفته بأنه إجهاد مزمن في أماكن العمل لم يتم التعامل معه، كما حددت ملامحه في مشاعر استنفاد الطاقة، ووجود مشاعر سلبية إزاء العمل، وتراجع الفعالية المهنية. لكن الإنهاك، كما أوضح حنفي في هذه الدراسة، أخذ ارتباطات وتفسيرات أخرى في المجالين الاجتماعي والسياسي، يمكن طرحها عبر اتجاهين أساسيين: فإذا كان الأول يعود إلى ارتباط الإنهاك بالتحولات الكبرى في المجتمعات، وذلك استنادا على أن تغير أنماط الحياة في مراحل التحولات الكبرى قد يخلق أعباء على الأفراد تنعكس بدورها على السلوك الاجتماعي، فإن الثاني يعود إلى ارتباط الإنهاك بتراجع فاعلية السياسات، وبعبارة أكثر وضوحا، يشير الإنهاك السياسي إلى تراجع قدرة سياسية معينة سواء لقيادة أو جماعة أو دولة ما على تحقيق أهدافها، نظرا للتمسك بها لفترة طويلة دون مراجعة، برغم ما قد تفرضه من إجهاد واستفاد للطاقة. يرتبط هذا المعنى بصعود وهبوط الدول، كإرهاق الاتحاد السوفييتي السابق جراء استنزافه في حرب أفغانستان وسباق التسلح مع الغرب، وكذا إرهاق القارة الافريقية إثر الاستنزاف الاستعماري للموارد والبشر. أيضا تعرضت القوة الامريكية للإنهاك نتاجا لكلفة أعباء الهيمنة على العالم، بخلاف فشل حروبها في العراق وأفغانستان، في وقت بدت الصين محتفظة بفائض قوة اقتصادية وظفته تدريجيا خلال العقدين الأخيرين في الصعود العالمي. على جانب آخر، ارتبط أحد أشكال الإنهاك السياسي بالانتخابات ليعبر عن عزوف الناخبين عن المشاركة إذا تكررت على آماد زمنية قريبة، أو لم يعبر المرشحون عن طموحاتهم، أو فقدوا الثقة في التغيير إلى الأفضل.

في منطقتنا العربية، تأخذ ظاهرة الإنهاك خصوصية لا تنفصل بالأساس عن إرث وتطور أزمات المنطقة. إذ تدلل العديد من المؤشرات الدولية التي صدرت على سبيل المثال في العام 2022 أن المنطقة بلغت حدا من الإنهاك انعكس على مكانتها عالميا. فيما تصنف المنطقة بأنها الأسوأ عالميا في إنتاجية العمالة، في تقرير منظمة العمل الدولية كذلك، لم يمنع الجمود النسبي الراهن الصراعات الأهلية في المنطقة من أن تظل دولها الأقل سلاما في مؤشر السلام العالمي، بفعل تعثر التسويات. الحال ذاته لم يختلف في مؤشرات كالابتكار العالمي ومدركات الفساد الذي تصدره مؤسسة الشفافية الدولية في 2021، حيث شهدت تراجعا لغالبية الدول العربية في ضوء إشكالية الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية. وبغض النظر عن أن نهج المؤشرات لفهم أحوال الدول قد ينطوي على إشكاليات بسبب الاختزال الكمي والمعايير الغربية وعدم مراعاة خصوصية السياقات، مع ذلك، فإنه يكشف عن حالة عربية منهكة في مجالات اجتماعية وسياسية واقتصادية. إلا أن هذا الإنهاك لم يبرر فقط نتاجا لعقد الأزمات والضغوطات بعد الثورات، وإنما هو تعبير عن تطور تاريخي مأزوم منذ أن أصبحت المنطقة العربية مجالا لتنافس القوى الاستعمارية على مواردها ومعابرها وخطوط التجارة، ناهيك عن معضلة إسرائيل المزمنة والممتدة التي سعت القوى الغربية إلى ضمان أمنها وحقوقها على حساب الحقوق العربية والفلسطينية.

وحتى ما بعد استقلال الدول العربية، فقد استمر الاستنزاف دون توقف، إذ عرفت خلال العقود الممتدة ما بعد الاستقلال أزمات خارجية متتالية، كالحروب العربية - الإسرائيلية بين عامي 1948 و1973، وحرب إيران والعراق في الثمانينات، والغزو العراقي للكويت في عام 1990، والغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 وحرب إسرائيل والقوى الوطنية والتقدمية اللبنانية في عام 2006، فضلا عن أزمات كالإرهاب في مصر والجزائر في التسعينيات والحروب الأهلية في لبنان واليمن ودورة الانقلابات في السودان. وأرهقت كل هذه الأزمات دول المنطقة وأفقدتها موارد كان يمكن توجيهها لتعزيز التنمية، بل وعطلت المسار الديمقراطي لاعتبارات تتعلق بمواجهة العديد من التحديات الخارجية، لينتج عن ذلك عقد اجتماعي تهيمن فيه الدولة العربية على المجتمع. لكن تلك الهيمنة تعرضت للتآكل باضطراد، إذ نزعت الدولة يدها تدريجيا عن خدمات اجتماعية وخدمية، كسياسات التوظيف والصحة والتعليم وغيرها، بفعل، تراجع الموارد والضغوط الرأسمالية عبر صندوق النقد وسياسات الخصخصة وغيرها. فاقم ذلك فجوات الفقر والبطالة والتفاوت الاقتصادي - الاجتماعي، في وقت لم تعد الطبقة الوسطى التي تنامت بفعل وظائف دولة ما بعد الاستقلال أو الكتلة الشبابية الغالبة على الهيكل الديمغرافي والمتأثرة بالعولمة راضيتين بالأساس عن تراجع وظائف الدولة العربية وفي الوقت نفسه استمرار تسلطها. الخلاصة باختصار، وبينما تعج الدراسات الطبية والنفسية حول مكافحة الإنهاك بنصائح من قبيل الراحة والبعد عن وسائل التواصل وغيرها، فإن التعافي من الإنهاك الهيكلي للدول والمجتمعات والعلاقات البينية في المنطقة العربية يتطلب اعترافا ومصارحة بعمق المشكلات، وتصالحا مع الذات والآخر، والأهم إرادة سياسية تعيد الاعتبار للعدل والمساواة وإفساح الحريات في المجال العام للخروج من مسار الإنهاك ومخاطره.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا، أي تداعيات لها؟| المسائية


.. الاتحاد الأوروبي يقرر فرض عقوبات جديدة على إيران




.. لماذا أجلت إسرائيل ردها على الهجوم الإيراني؟ • فرانس 24


.. مواطن يهاجم رئيسة المفوضية الأوروبية: دماء أطفال غزة على يدك




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا الحربية أغارت على بنى تحتية ومبان