الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نوستالجيا -سيد لميلود-

زكرياء مزواري

2022 / 10 / 9
الادب والفن


كانت لحارتنا الشعبية طقوس خاصة تُميّزها إبّان كلّ عيدٍ، حيث يجنّد الصّغير قبل الكبير للاحتفاء بالحدث، حدثٍ يُعيد بناءَ الذاكرة التاريخية، ويقوّي من عُرى الروابط الاجتماعية.
كان عيد المولد النّبوي الشّريف في زُقاقنا حدثاً فريداً ومتفرداً عن باقي الأعياد الدّينية الأخرى، إذ كنا نحن الصّغار نستعدّ لاستقبال أيّامه بطقوسنا الخاصة. مَنْ منا لم يدخر بعض الدّريهمات المعدودات، وَمَنْ منا لم يقصد الأسواق السوداء للمفرقعات؛ نعم، كانت أسواقاً سوداء في مخيلتنا، حيث ننسج حولها قِصصاً خيالية عن طبيعة هذه الأسلحة الثّقيلة التي تُحدث أصواتاً مدويةً في الحيّ، وأساطير تراجيدية عن المهرّبين الذين كانوا يستوردون مثل هذه السلع من الحدود الجزائرية، كما توهّمنا أنّ الجهاز القمعي للدولة يهاب انتشار هذا النوع من المفرقعات، لأنه ببساطة ينافس مسدساتها وبنادقها الرّشاشة التي تبثّ الهلع في البلاد والعباد.
كان صوت أسلحتنا النارية البدائية آيةً في الآفاق على دنو عيد المولد النّبوي الشّريف، عتادنا الحربي كان مكونا من: "لمحارقْ"، "لقنابلْ"، "لكاربينْ"، "سوارخْ"، "فلونبو"، "نجومْ"، "لميشْ"، و"سلكْ"... وما عداها من الأسلحة النّارية التي كانت توفرها لنا السلع الجزائرية المهربة. جميع أنشطتنا نحن الصغار تتعطل، ننسى الدراسة أولا، إذ كنا نسلم أنفسنا طواعية للمعلمين ولا نبدل أي جهد في إنجاز تماريننا الصفية، كما ننسى لعبتنا المفضلة كرة القدم، إذ لا شيء يعلو حينها عن بهجة العيد. كانت المدرسة عندنا نحن أبناء الأحياء الشعبية فرصة لرد الاعتبار، ونزع الاعتراف من أبناء "الفشوش"، كنا نقذف في قلوبهم الرّعب حين نهتبل فرصة الانفراد بهم، ونرميهم ببعض أنواع المفرقعات، كما نقتنص المناسبة ليلاً حين نجوب فيلاتهم وأحيائهم الأنيقة، ونرمي منازلهم بأسلحتنا الثقيلة!!، هذا فضلاً عن سخريتنا من ألعابهم الفاقدة لحس المغامرة والشجاعة.
أما عن حيّنا، فلا يلبث أن يتحول اللّعب المُسالم في البداية إلى حالة حربٍ مزريةٍ، حيث يأكل القويّ الضعيف؛ ذلك أن المالك لوسائل إنتاج الرّعب الثّقيلة من "قنابل" و"كاربين" هو وشلّته من يضمن سحق الخصم وإعلان الظّفر بالمعركة. بجانب هذا العنفوان، كان زقاقنا الشّعبي، يزدان مساءً بعبق رائحة "تَقْنَتَ" و"بَرْكُوكَشْ"؛ وهي أكلات وجدية خالصة لا ترى النّور إلا أيّام عيد المولد النّبوي الشّريف، هذه الوجبات الدّسمة كانت نسوة الحي تبرعن فيها، وتتبادلن بموجبها الأطباق عملاً بحقّ الجار والجوار.
زيادة على هذا الجو المفعم بالتّراحم، كان مسجدنا العتيق، مسجد "عكاشة" ليلة عيد المولد يتزيّن بمُسحٍ جماليةٍ لطيفةٍ، تُضفي على جنباته سكينةً وروحانيةً غير مألوفتين؛ إذ يبادر المأموم الفقيه "عمي الصحراوي" رحمه الله بفتح أبواب المسجد مبكراً، وحرق بعض "أعواد القماري" و"حبات الجاوي" حتّى تفعل فعلها في اللّيلة المباركة، ليلة ولادة خير الخلق.
عريس من عرسان السّماء هو مسجد "عكاشة" تلك اللّيلة، ريح ٌ طيب، حضورٌ وقور، نشوة بادية تكسو وجوه الجميع، جو تراحمي بديع، تؤدة تؤثّث المشهد، وطعام في الأخير يجمع أواصر أبناء الحي. مسجد تلك الليلة خزّان حقيقيّ من خزّانات الأرض للقداسة السّماوية، كلّ أيقوناته وعلاماته ورموزه تعرج بك إلى ملكوت الرّب، فيقتات قلبك من معين الحضرة الإلهية، وتعبر روحك في مدارج السالكين، ثم تظفر بأعزّ ما يُطلب في باب مشاهدة منازل الجمال.
هكذا، كان مسجدنا العظيم في اللّيلة المباركة، مسجد كلّه دفءٌ ورحمةٌ ومودّةّ، والكلّ منشد خلف الإمام:
وُلِدَ الهُدَى فالكَائِناتُ ضِياءُ*** وَفَمُ الزّمَانِ تَبَسُّمٌ وَثَنَاءُ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق