الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القسوة والدلال: إسرائيل وتضافر فسادين

ياسين الحاج صالح

2022 / 10 / 9
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


كثرة الدلال تفسد. هذا قول يلقى القبول العام لأنه ينقل تجربة مألوفة يعرفها الناس من سنوات الطفولة. نعرف الدلال لأننا قد نحصل على قدر منه من أبوينا، وحين يحدث أن نحصل على الكثير ولسنوات طويلة، يصير التدلل "ملكة" مستقرة في نفوسنا، ويصير الواحد منا أنانياً، يتوقع رعاية الغير له، ولا يستطيع الاعتماد على نفسه، وقد لا ينجح في القيام بأبسط الأعمال. يفسد. على أن كثرة القسوة تفسد أكثر، وإن لم يكن ذلك ظاهراً بقدر ما ينبغي. حين يحدث أن نتعرض لقسوة متجاوز للحد أو مديدة، فإن الجرح المتولد عن ذلك يدفع إلى الاحتماء بالنفس، وتطوير نوع من الدرع النفسي الذي يقلل حساسيتنا تجاه العالم، وحتى ما قد نتسبب به نحن أنفسنا من ألم لغيرنا. يتوقع من طالته القسوة بالأحرى أن يتلقى العناية تعويضاً عما أصابه، فإن جرى ذلك كان فيه ما يساعد على التغلب على الجرح أو الرضة (تروما)، وهذا هو مبدأ المعالجة النفسية. وإن لم يحدث، وهو قلما حدث في أوساطنا، فقد يُسلِّم المرء نفسه للقسوة في التعامل مع الغير إن استطاع، ومع شعور بالاستحقاق. هذا الضرب من الأنانية مغاير للضرب المتولد عن الدلال من حيث المنشأ، ولكن ليس من حيث الأثر. فأنانية الجريح المظلوم قد تترجم نفسها إلى قسوة وعنف، فيما يغلب لأنانية المدلل أن تسبب بسوء تأهيله لحياة يعتمد فيها على نفسها، فتفضي به إلى التقاعس والضياع.
وفي زمننا هذا يغلب لتجارب الدلال أن تكون فردية مثلما كانت دوماً، فيما يغلب لتجارب القسوة أن تكون جمعية، أوجهاً لتجارب مأساوية يخبر مثلها مئات الألوف أو ملايين أو أكثر. هناك دون ريب تجارب قسوة فردية في نطاقات عائلية أو محلية هنا وهناك، في مجتمعاتنا أكثر من مجتمعات الغرب، لكن أظهر القسوات في عالم اليوم جمعية، ومنها بطبيعة الحال تجربتنا السورية خلال أكثر من أحد عشر عاماً ونصف في هذا الجيل. لكن منها التجربة الفلسطينية، والتجربة الكردية، وغير قليل من تجارب الإسلاميين في بلدنا عربية والكثير غيرها. وقبل ذلك هناك بالطبع الهولوكوست، قتلُ نحو ست ملايين من اليهود الأوربيين على يد النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية، وقبله الإبادة الأرمنية في مطلع الحرب العالمية الأولى، وغيرها كثير كذلك.
ويشيع أن تتحول مشاعر الظلم الجمعي التي تسببت به هذه القسوات إلى مظلوميات، سرديات حول الظلم تضفي عليه طابعاً نسقياً، فتنزع صفاته التاريخية العارضة، وتجعل منه عماداً لهوية الجماعة التي تعرضت له، وتشكل بالمحصلة معادلاً للدرع النفسي الذي يطوره الأفراد من حيث التمركز حول الذات وعدم الإحساس بالغير، وبالتالي الأنانية. بل يغلب أن تكون الذات نفسها نتاجاً للمظلومية، وليست شيئاً مستمراً سابقاً لها ولاحقاً عليها. قبل القسوات الكبيرة، تكون الجماعات أقل تمايزاً، أكثر اختلاطاً بغيرها، مُضبّبة الحدود. ليس هناك خطأ أساسي في القول إن الوطنية الفلسطينية لاحقة للنكبة، وأنها أخذت بالتشكل قبل ذلك بفعل التهديد الصهيوني المتزايد. لقد سبقت الصهيونية الهولوكوست، لكن محركاتها الأولى هي المجازر (البوغرومات) التي كانت يتعرض لها الجماعات اليهودية في أوربا الشرقية، ثم قضية دريفوس في فرنسا، وقد كان تيودور هرتزل، أبو الصهيونية الحديثة، متابعاً لها وشاهداً عليها، وأقنعته بحاجة اليهود إلى دولة تخصهم. على أن الهولوكست أعطى دفعاً هائلاً للمشروع الصهيوني، ويشكل اليوم عموداً أساسياً في بناء الذات الإسرائيلية.
والحال أن إسرائيل المعاصرة تنفرد بأنها تعرض الأثر المفسد للقسوة وللدلال في آن معاً. فإذا كان الجينوسايد اليهودي هائلاً من حيث المقدار، وفريداً من حيث المنهج (صناعة إبادة منظمة وواسعة البنية التحتية)، فقد سوغ نزع ملكية الشعب الفلسطيني لوطنه، وقلل ولا يزال يقلل من الإحساس بمعناة الفلسطينيين، ويسهل للمؤسسات الصهيونية واليهود المتشددين إيذاء الفلسطينيين بضمير مرتاح إلى اليوم. الأثر المفسد للمظلوميات هو مثل هذا في كل مكان. المظلومية هي أسوأ مدارس العدالة لأنها تسهل لمن يتعرض لها أن يعتقد أنه عادل لمجرد أنه مظلوم، بل لمجرد أنه ظُلِم يوماً. وهذا باطل. فالعدالة هي شيء نفعله وليس شيئاً حدث لنا، وهي بخاصة شيء طيب نفعله لغيرنا، من ليسوا منا، ومن ينازعنا شيئاً أو يطلب منا حقاً. الظلم الذي يقع علينا يعني أن مرتكبيه ظالمون، ولا يعني بحال أننا عادلون.
على أن ما يسهل الأثر المفسد للمظلومية اليهودية هو الأثر المفسد للدلال الذي تناله إسرائيل منذ نشوئها إلى اليوم من قبل القوى الغربية بخاصة. هذا الدلال فريد بقدر فرادة الهولوكوست إن لم يكن أكثر.
هناك نقاش متكرر حول فرادة الهولوكست، يقر باختلافه وحتى بفرادته بمعنى تاريخي للفرادة، لكنه ينكر الفرادة الجوهرية عليه وعلي أي حدث تاريخي. كل ما يحدث في التاريخ عارض، وإن تقاطعت العوارض على نحو مهول في كارثيته مثل "الشوا". فرادة الدلال الإسرائيلي عارضة كذلك، رغم أنه يجري التأسيس لها ماهوياً عبر الكلام على تراث يهودي-مسيحي، لكنها عنيدة ومديدة ومفسدة إلى أقصى حد. إنها تعفي المدللين من الإحساس بما تجني أيديهم، وبدلاً من درع واحد مانع من الإحساس بالغير، ثمة هنا درعان، يوفران للإسرائيليين الحماية من أسوأ جرائمهم، ويخففان عنهم الضغوط، ويسهلان تفهم مطالبهم مهما كانت مفرطة. في المحصلة يطبّعان واقع ألا يكونوا مساوين لغيرهم. هذا تشريع للعنصرية، على نحو يفسد فكرة الشرعية ذاتها. نتكلم على أثر مفسد للدلال لأن تشريع السوء هو من سوء التشريع، وذلك عبر تسويغ اللامساواة والعنصرية التي أثبتها تقرير صدر قبل شهور من منظمة العفو الدولية. قد نتذكر أن هذا التقرير يأتي بعد نحو 31 عاماً من إلغاء الأمم المتحدة قراراً يماهي بين الصهيونية والعنصرية، كانت قد اتخذته الأمم المتحدة ذاتها بأكثرية كبيرة عام 1975. هذه الهدية واحدة مما لا تعد من هدايا أميركية للمدلل الإسرائيلي، منها ما كان يقال علناً حتى بدء "عملية السلام" عام 1991، من تعهد أميركي بتفوق إسرائيلي عسكري نوعي على البلدان العربية مجتمعة. الواقع أن أوجه الدلال لا تعد، مالياً وتسليحياً وتكنولوجياً واستخباراتياً وقانونياً وسياسياً وكل شيء.
ومثل ذلك بخصوص ألمانيا التي قامت بفحص ضمير صحي بالفعل لماضيها النازي، لكن حس العدالة انحصر بمراعاة خاصة لليهود تُنفِّر، بين آخرين، يهوداً مستقلي الضمير مثل ابراهام ملتسر، مؤلف كتاب صنع معاداة السامية، أو تحريم نقد إسرائيل (مترجم إلى العريية)، وغيره كثيرين. هنا يجري التحول من معاداة اليهود أو السامية (الأنتي-سميتيزم) إلى حب خاص لليهود (فيلوسميتيزم)، على نحو يبقي اليهود مفروزين عن غيرهم، ويجانسهم ويقلل من تمايزاتهم وتعدد أطيافهم. تحكيم ماضي ألمانيا المشين بالفعل بحاضر فلسطين وأهلها ومن قد يتضامن معهم، يؤكد ما كتبه المؤرخ اليساري الإيطالي، إنزو ترافرسو قبل شهور من أن ألمانيا ما بعد النازية ليست مثالاً طيباً للتكفير عن الماضي.
وقد يمكن فهم الاستحضار المستمر للهولوكوست بإرادة إبقائه معاصراً، مسوغاً للتدليل والمراعاة الخاصة ومزامناً لهما على الدوام.
هذا المثال النادر لتضافر فسادين، فساد الدلال وفساد القسوة، له ما بعده مهما طال الزمان. إنه يسمم العالم اليوم، وليس حياة الفلسطينيين وبعض العرب فقط، ولن يكف عن التسميم. فإن كان لأي تطبيع لزوم، فهو تطبيع إسرائيل وضبطها بالقانون الدولي وليس التطبيع مع إسرائيل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص