الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكالية مجهولية المالك بين النص والأجتهاد. ح9

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 10 / 10
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ملكية الدولة وملكية الأمة
يختلف الأمر في الاقتصاد الإسلامي تماماً في النظرة إلى ما يعرف بالمال العام، لأن الدولة ككيان معنوي لها حق التملك كمؤسسة من مؤسسات الأمة، وبالتالي لها الحق طبيعيا أن تتصرف بما تملكه وفقا لرؤيتها ووظيفتها وقانونها العام والخاص نيابة عن الهيئة الأجتماعية بموجب قواعد العقد الأجتماعي المتبادل بينها وبين الأمة، وعلى وفق هذا التفريق بين ملكية الدولة وملكية الأمة بأعتبار أن الأخيرة هي الملكية العامة العمومية والأولى ملكية عامة مخصوصة، فيمكن أن نعرّف أن ملكية الدولة في النظام الإسلامي هي (كل المؤسسات والمنشآت والأموال الخاصة والحقوق والألتزامات المادية والمعنوية التي تكون تحت تخويل أجهزة الدولة وتديرها المؤسسات الحكومية خدمة للصالح العام)، من هذا التعريف يمكننا أستنباط أوصاف عامة وخاصة للمال العام المخصوص وهو مال الدولة وهي:.
I. مال الدولة هو جزء من ثروة المجتمع وإن تخصصن الدولة في التصرف به فإنها تتصرف به وفقا لتخويل المجتمع رضاء أو أتفاقا، ينوب عن الدولة التي هي نائب المجتمع إمام المجتمع بأعتبارة صاحب السلطة الزمنية وفقاً لما تمليه المصلحة العامة، بناء على السلطات المخولة له من قبل الجماعة.
II. هذا المال معلوم المالك ومحسوب ومراقب وموثق لا يمكن أن يتصرف به شخص أو فرد دون سبب شرعي وإلا عد جريمة أجتماعية تقع تحت طائلة الحرام.
III. حتى رئيس الدولة (الإمام) لا يملك حق الرقبة في هذا المال ولكن له في حدود ما شرع له أن يمنح حقا الأستعمال أو الأستغلال لجهة ما وفقا للمصلحة العامة وضبطا مع الصلاحيات الشرعية، فالإمام وإن كان رئيسا للسلطة الزمنية لا يحق له تملك المال لنفسه فالأولى أن لا يمنحه لغيره.
IV. بموجب السلطة الدينية للإمام أيضا لا يحق له أن يتصرف بالمال العام خارج حدود الصلاحيات الشرعية الممنوحة له في ممارسة دوره الديني فقط، فما يتصرف به خارج الضوابط الشرعية المحددة للأموال والمنافع التي تجبى كفرض ديني والمحددة بدقة في أوجه إنفاقا تعد خيانة لله، هذه الخيانة تسقط عدالة الإمام أصلا ولا تبقي له قيمة أعتبارية وفقا للعقيدة الدينية.
V. المال الذي تديره الدولة كملكية مخصوصة لا يمكن أن يخرج عن قواعد الماهية للمال العام، فهو معروف المالك أصلا ومحمي بالحدود التشريعية موقوف على الصالح العام، التعدي على هذه الملكية تعد جريمة مزدوجة ضد المجتمع وضد حرمة المال المعلوم، فلا مجال أن تتغير ماهيته لا بقرار مخالف للقواعد الحاكمة شرعية أو قانونية، ولا أفتراض إمكان أنتقاله بما يعرف بالأسباب الأنتقالية الطبيعية بين الناس، والسبب يعود أن المجتمع ليس بميت حتى يرثه الورثة ولا هو من المحتمل أن يغيب أو بفقد سند ملكيته حتى يتحول إلى مال مشكوك بعائديته.
هذه المميزات تضعنا أمام حقائق كثيرة منها أن الأمة في الأصل هي المالك الثاني بعد الله، وما توزيع الملكية داخل الأمة إلا على أساس أتفاقها أو رضاها بما تم توزيعه على ملكية فردية أو خاصة، إنّ الملكية إذا حكمٌ وضعيّ عائد للأمة أصلا في التقرير والتسطير، والسؤال هناْ هل هذا الحكم مُسبَّبٌ عن غيره من الأسباب؟ أو مجعولٌ بلحاظ شيءٍ آخر وراءه؟ أو هو مجعولٌ ابتداءً؟ أو له حالاتٌ شكلية متعددة لا تتعارض في مجموعها في بيان الماهية التمليكية المتعدّدة؟ وممّا لا شَكَّ فيه أنّ الملكية في بعض حالاتها مُسبَّبة عن أمرٍ كالملكية الناشئة من العقود، أو الملكية الناشئة من الحيازة.
والمتعارف في الفقه الوضعيّ هو إطلاق مصطلح (أسباب الملكية) على شكليات الماهية التمليكية محل بحثنا هنا، والمُراد به عند الحقوقيين العناوين الكلّية السبعة التي تنطوي تحتها جملةٌ من المصاديق كالعقود والإرث والحيازة القانونية وغيرها،. وهذه الأسباب تقابل مصادر الالتزام في القانون المدني، وأمّا في فقهنا الإسلامي فقد ورد عنوان (أسباب الملكية) أيضاً في طيّات بعض عبارات الفقهاء المتأخِّرين، كالمحقِّق العراقي والنجم آبادي ومحمد تقي الآملي والكوهكمري وغيرهم، ومن المعلوم أنّ فقهاء الإسلام منذ القِدَم قد بحثوا أسباب الملكية بالحمل الشائع، أي بحثوا مصاديق أسباب الملكية، كالبيع والإجارة والهبة والمساقاة والمزارعة والصيد وإحياء الموات والغنيمة وغيرها، وهذا من الواضحات التي يعرفها الجميع، حتّى العامّة من الناس. ولكنّ هذا لا يُغني عن بحثنا وهو حصر الأسباب في عناوين كلّية الغرض منه بيان هل من الجائز أو الحقيقي أن المال العام المخصوص أو عموم المال العام الشائه بالإباحة في الأستغلال يمكن أن يكون محلا ومصداقا لمفهوم مجهول المالك.
إن من أمثلة الملكية العامة الأموال والأعيان والمنافع والموجودات الطبيعية التي من المعروف عنها والأعتياد على استغلالها من العامة دون أن تكون محصنة أو ممنوعة أو موقوفة على إذن أحد، فهذه الأموال وملكيتها من أملاك الأمة وتحت تصرفها وسلطتها لكونها أساسا تتبع ملكية عامة مطلقة، أما من أمثلة الملكية العامة المخصوصة والتي تديرها الدولة أو ممثل الجماعة لمصلحة الجميع فهي أما تكون مباحة مقابل ثمن أو مباحة لأجل منفعة تدخل في وظيفة الدولة أو ممثل المجتمع ، فهي معالجات بمال أو قيمة أنفقتها الدولة أو الحكومة للاستفادة من الملكية التي أوجدها الله تعالى بعنوان خدمات عامة، مثل الآلات التي يتم بواسطتها ضخُّ الماء، وآلات التحلية، وأنابيب الجر، وآلات توليد الكهرباء، وأعمدتها، وكابلاتها، وآلات استخراج النفط، وأنابيب جرِّه، وموانئ تعبئته، وتفريغه، ومصافي تكريره، ومناجم الفحم، وآلات استخراجه، والمحاجر أو المقالع، والطاقة النووية، والأفران الذرية، ومنشآت استغلال الطاقة الشمسية، والسدود، والجسور، والأنفاق، والقنوات الاصطناعية، والبحيرات الاصطناعية، والشوارع، والطرق الدولية، والساحات العامة، والحدائق، والملاعب، والمدارس، والمساجد، والمستشفيات، وسكك الحديد، والموانئ البحرية، والمطارات، والملاجئ… وهذه من ترتيبات البشر، فهم أحق الناس بملكيتها بوصفها ملكية عامة.
نقدم هذا القول للتفريق بين نوعين من الملكية العامة ونكرر ذلك في هذا المبحث وغيره للإشارة والتنبيه بأن مرافق الجماعة الواردة في الحديث الشريف “المسلمون شركاء في ثلاث في الماء، والكلأ، والنار”. لا يجوز معه وبأي حال أن تملَّك للأفراد على سبيل الإمكان إلا إذا كان الأمر يتعلق بالتنظيم وهذه ليست ملكية في المعنى والدلالة، ودليل ذلك ما رواه الترمذي “عن أبيض بن حمال، أنه وفد إلى رسول الله ص ، فاستقطعه الملح، فقطعه له، فلما أن ولَّى، قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت له؟ إنما قطعت له الماء العِدَّ، أي: جبل ملح، أي الثروة الكبيرة التي لا تنقطع. قال: فانتزعَه منه”. وقد شبَّه الملح بالماء العد لعدم انقطاعه، ولما علم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأنه معدن لا ينقطع، بمعنى كثير، أي جبل ملح، أرجعه، ومنع ملكية الفرد له لأنه ملكية جماعية، وهذا ينطبق على المعادن كلها، ولا يقتصر على الملح فقط.
هذا المثال يوضح طبيعة وماهية مفهوم ملكية الأمة التي تنحصر في الأشياء الطبيعية التي تكون بوجودها جزء من الطبيعة التي يعيش فيها المجتمع، وعنوان ملكيتها ينبع من عنوان ملكية عموم الأرص بالنسبة للمجتمع، فملكية الأرض مثلا سواء كان للسكن أو للزراعة أو الرعي أو الصناعة هي ظاهر ما ينتفع به فعلا فقط دون العمق والعلو، فنا تحت الأرض لا يخضع للملكية الفردية أو الخاصة ولا سماء ما فوق الأرض خاضع تبعا للملكية، لذلك سميت الملكية ملكية رقبة وليست ملكية وجود، فما تحت الرقبة من أفول وقيم مثل: النفط، والغاز، والذهب، والفضة، و المعادن الأخرى وأمثالها هي من المواد الاستراتيجية التي يحق لكل أفراد الرعية الانتفاع بها على أن يستأذن بذلك وفق القواعد العرفية والقانونية الحاكمة في المجتمع، لأنها ملكية المجتمع عاما ولا بد من إحراز الأذن منه أولا لتكون حلالا في المفهوم الديني للأنتفاع والأستغلال، ولأنها من الثروات التي خلقها الله سبحانه، وكنزها للبشر في باطن الأرض، كما أن هذه المواد تكمل قدرة الدولة على ممارسة سيادتها على الموارد الحساسة التي تنعكس على المال، والنقد، والصناعة المدنية، والصناعة العسكرية، وغزو الفضاء، وعلى تراكم الثروة.
هناك أهوال عامة بطبيعتها لكن من جعلها مال ممكن الأستغلال والأنتفاع به شخص أو مجموعة أشخاص، وبدون وجودهم لا يمكن أن تكون تلك الأموال والأعيان قابلة لأنتفاع بها ومنها، رتب القانون والشرع حق عيني عليها لمصلحة فرد أو مجموعة دون أن يخرجها من دائرة الأملاك العامة مقل الآبار المحفورة أو المراعي المنشأة بجهود فردية، ويجوز للفرد إذا أن يمتلك عين ماء حفرها أو أعتنى بها حراسة أو حماية مثلا، إلا إذا كانت الجماعة لا تستغني عنها أو تتعلق حياتها بهذه العين، ولكنه لا يجوز له مثلا تملك الطريق، أو الرصيف، أو شاطئ البحر، أو ما شابه ذلك من مرافق الجماعة، أو ما يتعلق به نفع عام، إلا أنه يجوز له الانتفاع بهذه المرافق دون أن يحوزها حيازة ملكية شرعية أو طبيعية تستند إلى القواعد المتفق عليها في قانون الجماعة، ومن المباحات كذلك كالجلوس في الطريق، أو المسجد، أو الصيد في البحر، أو النهر، أو الجلوس في الحديقة… وحالما يغادر هذه الأمكنة لا تعود له أفضلية في الانتفاع بها ولا يجوز له احتجاز المكان الذي استعمله، ويحق لأي فرد آخر أن ينتفع بهذه الأمكنة، وقد ينظم وليُّ الأمر الانتفاع.
إذا من المؤكد وفقا للعام من العرف والقانون والشريعة دينية أو أجتماعية أن لا تسمح الدولة بحصول اعتداء على أملاك الملكية العامة من أية جهة كان هذا الاعتداء، فهي المكلفة شرعًا بحماية هذه الملكية وتنظيمها ومنح حق الأنتفاع بها وفقا للقواعد المتفق عليها شرعا أو قانونا، ومنع الطامعين أو العابثين من تخريب أي مال عام أو مرفق أو آلة أو طريق أو ساحة أو شاطئ أو ما شابه ذلك من ممتلكات الجماعة وبخلاف ذلك تكون سلطة الدولة أو الحكومة مأثومة وخارقة ومنتهكة للقواعد التي اؤتمنت عليها في العقد الأجتماعي، كما ولا يجوز لوليِّ الأمر امتلاك بعض أجزاء الملكية العامة له أو لغيره خلافا لنفس القواعد التي منحته الولاية ونصبته في المنصب، ومن حق المجتمع مراقبته بالتصرف ويحاسبه على ذلك مما يجرده ووفق مقدار الأنتهاك من حق الولاية، وعلى الأمة صياغة نظام لمحاسبة ولاة الأمر.
وفي هذا المجال، يقول الماوردي: “والذي يختص بنظر المظالم يشتمل على عشرة أقسام: فالقسم الأول: النظر في تعدِّي الولاة على الرعية… والقسم الخامس: رد الغُصوب (أخذ مال متقوَّم محترَم بلا إذن مالكه دون خفية)، وهي ضربان: أحدهما: غصوب سلطانية، قد تغلب عليها ولاة الجور، كالأملاك المقبوضة عن أربابها، إما لرغبة فيها، وإما لتعدٍّ على أهلها، فهذا إن علم به والي المظالم عند تصفح الأمور أمر برده قبل التظلُّم إليه، وإن لم يعلم به فهو موقوف على تظلُّم أربابه” ولكنه مع عدم التظلم يبقى مالا مشبوها غير حلال ولا يمكن تحليله أو تملكه وفقا لقاعدة وضع اليد وسكوت المغصوب عما أغتصب منه ولو طال الزمان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيقاد شعلة دورة الألعاب الأولمبية بباريس 2024 في أولمبيا الق


.. الدوري الإنكليزي: بـ-سوبر هاتريك-.. كول بالمر يقود تشيلسي لس




.. الصين: ما الحل لمواجهة شيخوخة المجتمع؟ • فرانس 24 / FRANCE 2


.. إسرائيل تدرس -الأهداف المحتملة- للرد على الهجمات الإيرانية




.. سلاح الجو الأردني ينفذ تحليقًا استطلاعياً في أجواء المملكة م