الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(إعلام الشِجار) أم (إعلام الحوار) في قضايا الأمة

حسن خليل غريب

2022 / 10 / 12
الصحافة والاعلام


عندما يتحول الإعلام من رسالة تنويرية تنقل الحقيقة إلى الجماهير، إلى أداة تعبِّر عن مصالح فئة محدودة، فيعني ذلك أنه ابتعد عن رسالته الإنسانية في الدفاع عن قضايا الأمة وتطوير أوضاع المجتمعات نحو الأفضل. تلك الرسالة التي من أجلها تبوَّأ الإعلام أهميته وهو الكشف عن الحقيقة. فهل يعبِّر الإعلام العربي في هذه المرحلة عن مصالح أوسع الشرائح الاجتماعية؟ وهل يعبِّر عن حق الشعوب في تقرير مصيرها؟ وهل يعترف للمغبون بحقه، ويعلن كلمة الحق في وجه ظالم؟ وإلى غيرها من الأسئلة التي تحضُّ الإعلاميين على ممارسة رسالتهم الإنسانية. فمن أجل الإجابة عن هذه الأسئلة سنعمل على نقل صورة الإعلام في هذه المرحلة.

تطورت وسائل الإعلام بشكل متسارع، واتسعت وسائله بشكل كبير، حتى لا يكاد المرء أن يستوعب الجديد فيها حتى يأتي جديد آخر. وبالترافق مع التطور الهائل في وسائله، فقد تعددت وظائفه، وتنوعت أهدافه، وتحول عن رسالته الإنسانية وأخذ يصب في مصالح الطبقات الاجتماعية الأكثر غنى، وفي مصالح الدول الأكثر رأسمالية، ومصالح الاطماع الاقليمية ومشاريعها المعادية للامة العربية . ولكثرة وسائله، خاصة المرئية منها، فقد دخل إلى كل بيت وبقعة في العالم، مستقطباً اهتمام أوسع الجماهير الشعبية. ولأن الجماهير تلك،بأوسع

شرائحها، تفتقد الحس التحليلي- النقدي، فقد وقعت ضحية للإعلام الراهن الذي فقد نزاهته ورسالته.

نحن نعرف أن الإعلام لكي يقوم برسالته عليه أن ينقل حقائق الواقع كما هي، لكي يتم توظيفه من قبل المثقفين الثوريين في نصرة الحقائق، وتعميم القيم العليا، وفي الدفاع عن حقوق الشعب، وانتقاد كل هيئة أو منظمة، أو نظام رسمي، لحضِّهم على القيام بواجباتهم تجاه المجتمع الإنساني عامة والمجتمعات الوطنية خاصة. أولئك المثقفون هم الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن مصالح أوسع الجماهيرفي الامة العربية على المستوى العام والخاص. ولأن تفسير الوقائع، حتى من قبل المثقفين الثوريين في هذه المرحلة لا يخضع لمنهج واحد، أو انهم قد لا يصلون إلى نتائج واحدة، يترتب على وسائل الإعلام أن تعطي الفرص المتساوية لكل منهم كي يعرض النتائج التي توصل إليها، وليدافع عنها. وإن الإعلام عندما يشرِّع بواباته على أسس الحوار الهادف إلى الوصول للحقيقة يبدأ بالخطوة الأولى نحو تحقيق وظائفه الإنسانية.

وإذا كان ما نقوله عن رسالة الإعلام يُعَد بالنسبة للبعض من قبيل (إعلام أفلاطوني) بعيد التحقيق على ارض الواقع، فهذا قد ينطبق أيضاً على النضال من أجل تحقيق هدف العدالة الاجتماعية والحرية السياسية لأنهما، كما يحسب اؤلئك البعض، (قيم إفلاطونية). ولأن النضال من أجل تلك القيم لم يحقق غاياته لعظمة التحديات وشراسة الصراع بين القوى التحررية القومية وبين القوى الطامعة والاستعمارية القديمة - الحديثة، فهذا لا يعني أبداً أن ننفضَّ عنها وعن المطالبة بها، والنضال من أجلها. فليست هناك قيم (أفلاطونية) مستحيلة التحقيق، وإن كانت تبدو بعيدة من حيث التطبيق الميداني احياناً، فلعلِّةٍ في قوانين الصراع بين الطبقات، أو التيارات الفكرية الناشئة منه والمتصارعة على تحقيق المصالح، او قصور ذاتي في القوى التي تحمل الراية والذي لابد ان تواجهه بكل صراحة وشجاعة وموضوعية إن ارادت الديمومة.
وهنا نتساءل: هل تعدد المصالح وحصرها في أضيق رقعة من المستفيدين منها، سواء القوى الحاكمة، أو القوى الرأسمالية، او الاقليمية الطامعة أو تلك المجموعات من الموظفين التي تخدم في بلاطاتهم، يدفعهم إلى بناء أسس لـ(إعلام الحوار)؟ لنجيب: إن التاجر الذي يروِّج لسلعته ليس على استعداد لنقاش موضوعي، يصل فيه إلى قناعة بأن سلعة الآخرين قد تتفوق على سلعته بمواصفات أفضل. بل يسود بينهم عامل التنافس غير الشريف القائم على كشف عيوب سلع الآخرين، وإضفاء مواصفات غير حقيقية على سلعته. وما ينطبق على التجار ينطبق أيضاً على (تجار السياسة) عندما تتحول السياسة إلى تجارة. ولهذا لن تتحول وسائل الإعلام المملوكة لأولئك التجار، إلى وسائل للحوار، بل ستبقى منابر للشجار.
ونحن هنا، إذ نولي مبدأ (إعلام الحوار)، وننقد (إعلام الشِجار)، فلأننا في حزب بنى مبادئه على قواعد فكرية قيمية ذات أبعاد إنسانية. ولأننا أعضاء في هذا الحزب، لمواصفاته المذكورة، علينا أن لا نُغفل أهمية الإصرار على النضال من أجل تلك القيم التي يعتبر (إعلام الحوار) قيمة تنتسب إلى منظومتها.

نحن نعي أن القوى الدولية الكبرى المتطورة صناعياً أغرقت العالم بصناعتها، وابتكرت وسائل الإعلام للترويج لمصالحها و لمنتجاتها. ولأنها تمثل تياراً اقتصادياً رأسمالياً صُمِّم من أجل منفعة الاطماع الاجنبية الامنية والمصالح الاقتصادية والطبقة الصناعية في مقدمتها، فكان لا بُدَّ من أن يتم تصميم وسائل الإعلام، آلة وقواعد فكرية وثقافية، من أجل خدمة منفعة تلك المصالح. ولأنها، أي تلك الدول والطبقات، تحسب أن ما يسمى ب(حضاراتها) وقيمها أنموذجاً للحضارة العالمية وعليها أن تبتكر وسائل الترويج لها، أما غيرها من الحضارات، ومنها الامة العربية، والقيم الأخرى فهي تعدّها متخلِّفة وعلى الرأسمالية أن تبتكر وسائل محاربتها، فلا بُدَّ إذن، من وجهة نظر تلك الأوساط، ولكي تنتصر (الحضارة) الرأسمالية أن يسود مبدأ ما يسمى (صراع الحضارات) وليس تكاملها أو الحوار بينها. سيما وان مثل هذا الصراع ،

الذي انطلقت الدعوة له من اميركا في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، سيوسع دائرة الاصطدام فيحولها الى حضارة ضد حضارة، بدلا من دولة ضد دولة. وبالتالي، وحسب المروجين له فانه سيُشغِّل المزيد من مصانع الاسلحة الغربية وبالتالي سيُنعِش الاقتصاديات الغربية .

وبناء على تلك المعادلة صُمِّمت وسائل الإعلام وآلياته على مقاييس (الصراع)، وليست على مقاييس (الحوار). وهذا ينطبق على الدول التي تستخدم وسيلة الغزو العسكري لاحتلال أراض شعوب أخرى، تحت شتى الاكاذيب والذرائع، فهي ليست على استعداد لمناقشة شرعية الحروب التي تشنها، بل توظِّف وسائل إعلامها، والعاملين فيها، والتابعين لها المستفيدين من غنائمها، من أجل الدفاع عن مشروعية ما لا شرعية له.

وأصبح من المُسَلَّم به لديهم أن مصائرنا حتى مسألة وجودنا كمجتمعات لها حقها بتقرير المصير، محكوم عليه بالموت، على قاعدة مبادئ الصراع الرأسمالية والاطماع الاقليمية المتماهية معها. فقد استهدفوا الصحوة القومية العربية التي ميَّزت التاريخ العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. وباستهدافها فقدت الحركة القومية منابرها الإعلامية المستقلة، وما بقي منها مستمراً في نضاله، فهو يسعى إلى هيجاء المواجهة من دون سلاح إعلامي بمستوى التحدي. وإذا وجد فهو أضعفه وأقلُّه تأثيراً. ومنذ ذلك التاريخ فقد عمَّمت قوى الرأسمالية كل (قيمها) ومبادئها واكاذيبها ونظرتها إلى الكون وإلى مصائر الشعوب، ووظَّفت من أجل ذلك كل وسائل الإعلام، حتى المحلية منها، من أجل نشر وجهة نظرها في الصراع. وأما لماذا استطاعت القوى الرأسمالية أن توظف وسائل الإعلام المحلية ووضعها في خدمتها، فلأن القوى المحلية، ولكي تستمر مؤسساتها الإعلامية فانها تبقى بحاجة إلى دعم مالي لتسد نفقاتها الكبيرة وتدر أرباحاً على مؤسسيها والقائمين عليها.

ومن المعروف أن من يوفِّر التمويل للمؤسسات الإعلامية هو الذي يتحكم بوجهتها، وتطبيق تعليماتها. وبهذا فقد الإعلام حياديته، وانحرف عن رسالته،

وأصبحت السلطة الرابعة، أي الإعلام في بلادنا رهينة قرار الخارج، ورهينة إرادة الطبقات والقوى المحلية التي قامت بتأسيسه. ولهذا تحولت وسائل الإعلام، ليس إلى وسيلة لكشف الحقيقة والدفاع عن قضايا الامة ومصالحها، بل إلى وسيلة للتعتيم عليها. وغالباً ما ترى على صفحات الجرائد، أو شاشات التلفزيون، قامات الأقطاب السياسية والاقتصادية، أو من قاموا بتوظيفهم من المثقفين أو السياسيين، لينشروا المواقف التي تروِّج لاتجاهاتهم السياسية ومصالحهم الاقتصادية، بينما هموم الجماهير وآلامهم تبقى مغيَّبة منسية، بدليل تغييب من يمثلها عن واجهات الإعلام، ومن يمثلها هم من قوى وأحزاب سياسية قومية او وطنية أو نقابات عمالية ومهنية، أو نُخَب فكرية و شخصيات بارزة عُرفت بنزاهتها، أو انحيازها لمصلحة تلك الجماهير.

وللسببين: التمويل الخارجي للإعلام وتوجيهه من قبل الجهات المموِّلة، وإمساك الطبقات السياسية والاقتصادية المرتبطة بالخارج بوسائل الإعلام. ولأن أهداف إعلام تلك القوى هو التضليل على أهدافها الحقيقية، والتي تتناقض مع مصالح الجماهير الشعبية. ولأن معظم وسائل الإعلام، إن لم تكن كلها، مملوكة لهم، فقد اعتمدت وسائل الإعلام مبدأ (الشجار)، وليس (الحوار) في واجهاتها. فالمتنافسون على المصالح هم من المتفقين ضد مصالح الجماهير العربية، وكل منهم يريد أن يروِّج لبضاعتِه في مواجهة الترويج لبضائع الآخرين، لذلك فسيكون حوارهم شبيهاً بحوار المتنافسين بين التجار.

وأما القوى التي تمثِّل مصالح الجماهير، ممن ذكرناهم أعلاه، فهي الحلقة الأضعف، والأفقر. فهي لا تستطيع دخول ميادين المنافسة الإعلامية لتكاليفها الباهظة. وإذا كانت قد فُتحت لها منافذ وسائل التواصل الاجتماعي، كبوابة رئيسية عليها أن تستفيد منها إلى أقصى الحدود. ولكن، لكي يتم توظيفها في الإطار الصحيح، على القوى والأحزاب والشخصيات الوطنية أن تعي خطورة الدخول إلى الوسط الجماهيري عبر منهجية (الشجار)، بل أن تعتمد منهجية (الحوار) في الإعلام.

فما هي تلك المنهجية، وعلى ماذا يجب أن تستند ؟
ما نكتب عنه ليس مبنياً على اختصاص فني بالإعلام، بل يستند إلى عامل التجربة الميدانية، بعد متابعة ومراقبة يومية لسنوات طويلة، وبناء عليها نضع الملاحظات والخلاصات التالية:

إن المواطن العادي توفَّرت له عشرات من شاشات التلفزيون، وأكثر منها عبر منصات التواصل الاجتماعي. وأقلها انتشاراً هي وسائل الإعلام المقروءة. وإذا كانت وسائل الإعلام المتاحة كثيرة، فإنما كانت تمثِّل فرصة لخدمة البشرية عامة، ولمجتمعنا خاصة. ولكن لأن تلك الوسائل أصبحت، في الغالب الأعم، من المشبوهة في أهدافها، لأنها تروِّج لمصالح مؤسسيها ومموليها. ولكثرة انتشارها أصبحت في متناول جميع الناس. فهي بالنسبة للمواطن العادي تملأ فراغه، وتوقه لمعرفة الحقيقة، ولأنها لم تؤسَّس من أجل الدفاع عن مصالحه، بل عن مصالح الطبقات العليا من سياسيين وقوى امنية او اقتصادية محلية واقليمية وعالمية. وبالذات من أجل دول خارجية تعمل على الترويج لنفسها ولأهدافها واطماعها، لذلك تنشط تلك الوسائل لتضليله. ولكثرة تلك الوسائل ولتناقض أهدافها، ولكثرة موادها الإعلامية والتحليلية، والترفيهية والدعائية، وبما تضيفه من برامج التسلية والتشويق، وكثرة مواقفها المتباينة، تؤدي إلى نوع من التشويش في مدارك المشاهد العادي. فتصل به الحالة إلى مستوى من الضياع الذي لا يميز فيه بين الخبر الصادق و الخبر الكاذب. وبين التحليل الصحيح والموضوعي من التحليل السطحي والموجَّه. لذا تبقى وسائل إعلام الحركات والقوى السياسية الملتزمة بقضايا الجماهير والامة هي الملاذ الآمن.

ولكن...
ولأن اعلام تلك الحركات يشكل الحلقة الأضعف في مواجهة التغوّل الاعلامي الغربي والاقليمي والمحلي الموجَّه من الخارج، وكلها معادية لمصالح الامة العربية، وخاصة في ظل الانتشار المحدود لاعلام القوى القومية والوطنية في الأوساط الجماهيرية، ولقلة مواردها المالية بحيث تعجز عن إصدار دورية مكتوبة ومطبوعة، لم يبق أمامها وسيلة للترويج لأخبارها وتحليلاتها سوى
وسائل التواصل الاجتماعي، لأنها الأقل كلفة. وهي على الرغم من قلة انتشارها لصعوبة وصولها إلى معظم المثقفين والقراء تبقى المصدر الوحيد المتاح. ولأنها كذلك، ولأن الحركات الثورية تمتلك أدوات التحليل الموضوعي، فانه على تلك الحركات والقوى الوطنية والقومية أن تبتعد في وسائلها الإعلامية عن استراتيجية (الإعلام للشجار) وتحولها إلى منابر لـ(الحوار)، تطرح فيه قضايا الوطن والامة بسلاسة وهدوء، مدعمة ببراهينها المستندة إلى وثائقها الصادقة، وتلك هي وسائلها التي منها ستفرض الثقة بها على قرائها. ان اعلام الشجار يشكل عبئاً على الثوريين، لأن من ينشد الحقيقة من القراء والنخب الذين يقفون في وسط هذا الفيض من الاعلام الاجنبي المعادي لمصالح الامة العربية وقضاياها، سينكفئون عن متابعة (الجدل) لأنه عقيم، وسيذهبون إلى منابر أخرى يفتشون عن أجوبة على أسئلتهم وتساؤلاتهم طلباً للتنوير وللتزود بالاسلحة المنطقية والحقائق التي تمكنهم من التصدي للاعلام الاستعماري الجديد وهو في قمة جبروته في الترويج للاكاذيب واستهداف وجود الامة العربية ومصالحها وهويتها بالصميم.
فلتكن منابرنا هي المثال، من خلال تطبيق مبادئ (إعلام الحوار).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في


.. ماذا تضم منظومات الدفاع الجوي الإيرانية؟




.. صواريخ إسرائيلية تضرب موقعًا في إيران.. هل بدأ الرد الإسرائي


.. ضربات إسرائيلية استهدفت موقعاً عسكرياً في جنوب سوريا




.. هل يستمر التعتيم دون تبني الضربات من الجانب الإسرائيلي؟