الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطار آخن 17

علي دريوسي

2022 / 10 / 16
الادب والفن


ما هي إلا دقائق حتى دخلت هينلوري بجزمة الجلد السوداء المفرَّغة وكلساتها السوداء المثقَّبة كاشفة عن بياض رجليها، جاءت محصَّنة بالشورت الجلدي الأسود الضيق، ومسلَّحة بحزام الجلد الأسود العريض الذي تتدَلَّى من جهته اليمنى كلبشات من سوارين تربطهما سلسلة حلقات معدنية، في الجهة اليسرى حشرت ما بين الحزام وخصرها هراوة شرطي جلدية، سوداء، غليظة وقصيرة، دخلت إلى الصالون بجاكيتها القصيرة السوداء التي بالكاد تغطي صدرها العذب كاشفةً عن بطن صافٍ كنبع، كحلت شفتيها بالأحمر، غطت شعرها بقبعة الشرطي السوداء ولبست كفين من الساتان الأسود اللامع، على راحة كفها اليمنى حملت صِّينِيَّة من الخشب الرقيق، تطل منها زجاجة ويسكي كروية الشكل، ثلاث كؤوس من الكريستال السميك الأبيض وسطلاً صغيراً لقطع الثلج، وباليد اليسرى كانت تحمل صحناً من الخزف الصيني وعليه ما يشبه ثلاث قطع شوكولاتة بنية اللون، ثلاث ثمار أرجوانية من الصبّار المُقَشَّر، ثلاث حبات كبيرة من التين الأخضر، وثلاث حبات شهية من الزيتون المحشي.

حدّق إبراهيم في يدها اليسرى، أمعّن النظر في ثمرات التين والصبّار، لم يثق بعينيه أنها ترى هذه الثمرات في هذا البيت الأمين، نظر إلى الشرطية هنيلوري، لم ير فيها إلا تمثال من تماثيل الإغواء في متحف "الإيروتيك" في قرية امستردام السياحية، حيث يقودك الطريق إلى تعلم مبادئ فن الإغواء، نظر إليها ثانية، بدت واقفة، كأنّها لوحة اللحظة الديناميكية اللازائلة، صورة تصلح لشرح أعقد درس من دروس العلوم الطبيعية أو الميكانيكية، بدت هنيلوري في زي الشرطية الأسود كمنحوتة من الثلج الكريستالي في فصل شتاء، كمنحوتة مذهلة أخذت مكانها في إحدى الساحات الرئيسية في مدينة فينيا، منحوتة امرأة تستعد لتقديم البهجة للناس في احتفالات عيد الميلاد.

علت ضحكات هينلوري وقالت:
ـ أنتَ، بشرودك يا إبراهيم، غريب الأطوار. بالمناسبة، أسفة أني تأخرت عليك، هل تنتظرني؟
أجابها إبراهيم العائد من تَيَهانه:
ـ شيءٌ ما يحترق!
**

وصلت سابينه في هيئة ممرضة إسعاف خصوصية.

وصلت مرتدية الزي غير التقليدي لممرضة، الذي يحوي بين طياته نكهة الولاء والطاعة دون أن يتطابق مع شرع الله، لَبِست حذاء أحمر بكعب متوسط، وضعت على رأسها قبعة قطنية بيضاء ومكشكشة، يتخللها خط كحلي عريض، قبعة أعطت لروحها لمسة تواضع، لتسريحة شعرها جاذبية عطر ولقامتها مظهر كبيرة الممرضات، ارتدت ثوباً قصيراً أبيض اللون، لَفَّتْ مِئْزَرَها حول خصْرِها وعقدته بشكل أنيق، غطى المِئْزَر الجزء الأمامي من جسمها وحسب، تاركاً منطقة الظهر والمؤخرة دون حجاب.

دخلت الممرضة تحمل بين يديها صفيحة دائرية من الخشب، تشبه صدر الفطور الصباحي في الشرق، صدر الألومينيوم بسماكته الرقيقة وقطره الذي يتناسب طرداً مع عدد أفراد الأسرة ووضعها المالي. على الصفيحة تسع زَبادِيّ ملونة صغيرة وعميقة، بين دائرة الزُبْدِيّات باقة ورد أبيض، أدارت سابينه ظهرها وأسفل خصرها غير المحجّب إليه وراحت توزع الزَبادِيّ، ثلاثة لكل منهم.

حالما صارت أمامه أجابته وكأنها اِسْتَرَقت السَّمْع من خلف باب الصالون لمونولوجه الذاتي ودهشته في حضرة الشرطية هنيلوري:
ـ لم يحترق شيء يا إبراهيم؟ أنت تتوهم. هل فقدت حاسة شّمّك القوية؟
ـ لا، ما زلت قادراً على إدراك الروائح!
ـ هل سكرت يا إبراهيم، قبل أن نبدأ؟
ـ لا لم أسكر! لم أشرب بعد!
ـ هل ترغب أن تأخذ غفوة ثم تلحق بنا؟
ـ كيف لي أن أنام، وأترككما لوحدكما تسهران؟
- سننتظرك حتى تصحو!
ـ لن أغادر من أحتاج إليهن في هذا المساء الماطر، شرطية وممرضة!

حواره مع سابينه ذكّره بتجربته الأولى مع النبيذ الأحمر ولم يتجاوز السابعة عشر، بعد الكأس الأولى، قبل منتصف الليل بساعتين في يوم رأس السنة، انتشى فجأة، انتشى حتى النعاس الثقيل، سمع صوتاً حميماً يثق به: اذهب للنوم يا إبراهيم، أعدكَ أنْ أوقظكَ قبل صعود البوابير البرّاقة الملونة إلى السماء، سأوقظكَ حتماً قبل إطلاق العيارات النارية وقبل تفتيت هذا العام الحزين إلى مثواه الفقير. يومها نظر إلى صاحبة الصوت بعينين ثملتين غير مصدّق لوعدها، حرّك كف يده اليسرى راجياً منها أن تتركه وشأنه وتمتم: كيف لي يا أختي أن أنام وأترك الوطن يسكر لوحده.
**








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و