الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين تستفيء الذاكرة بظلِ قطار

سعد محمد موسى

2022 / 10 / 17
الادب والفن


أثناء عبوري نحو تضاريس ذاكرة قرية قديمة ونائية لدى تخوم إحدى غابات (فكتوريا )في استراليا، إستوقفني حينها قطار هرم عاطل عن السفر بعد أن صمتت صافرته، وتقاعدت عجلاته الصدئة، وهجرته أرصفة المحطات منذ سنوات طوال
نام القطار ملتحفاً حكايات الماضي، ومستلقياً في سكونه الأبدي بين أحضان الغابة بعد أن تحول الى متحف للسواح وللعابرين ،وهو يختزل ذكريات المسافرين الذين تركوا حقائبهم فوق رفوف القطار وأرتحلوا نحو محطات بعيدة
صعدت من إحدى بواباب عربات القطار وتجولت بين المقاعد المهترئة، متأملاً زجاج النوافذ التي ما زالت تحتفظ برائحة غبار الأزمنة العابرة وأحلام، ونعاس، وانتظار المسافرين!!
كثيرة هي الحكايات والأسرار التي مرت على العربات والمحطات التي توقف خلالها القطار، ما بين أحزان ودموع الفراق التي ذرفت في المحطات وسط تلويحات الوداع، وكم من محطات لقاء وعناق وكذلك عودة للأحبة الغائبين شهدتها تلك الارصفة.
أعاد بيّ قطار فكتوريا.. صدى الذاكرة نحو القطار النازل ليلاً من بغداد حين يتوقف في محطة قطار الناصرية فيستريح على الرصيف لساعة من الزمن ، بعد أن يشرع أبوابه لصعود الركاب، ثم تزعق صافرته مودعاً أضوية المدينة الناعسة وبساتينها الغارقة في ظلام السكينة فيأفل جنوباً في لجة الظلام ، حتى يتوقف في آخر محطة له في منطقة (المعقل) حيث مدينة البصرة.
وفي المساء الآخر ينطلق القطار الصاعد من المعقل ويزحف شمالاً.. ثم يتوقف مرةً أخرى في محطة الناصرية ليلاً ليحمل المسافرين نحو (المحطة العالمية) في العاصمة ، وقبل أن يصل الى محطته الأخيرة يتوقف في محطة (مفرق أور) حيث (المگير) التي استلهم منها الشاعر (مظفر النواب) قصيدته (الريل وحمد) بعد لقاءه بالفتاة الريفية العاشقة المكلومة، وكذلك قصيدة (مشيت وياه للمگير) للشاعر (زامل سعيد فتاح) ثم يبرح القطار ببطىء ويتلاشى صدى نحيبه في آفاق المگير حتى تخوم نخيل السماوة التي فززها جعير الريل ثم يمر بعدها بمحطات كثيرة تمر في الديوانية والحلة حتى يصل الى أرصفة المحطة العالمية.
آخر رحلة لي كانت في القطار النازل من المحطة العالمية في بغداد نحو الناصرية عام 1983 بعد أن أكملت الاختبارات النظرية والعلمية قبل قبولي في أكاديمية الفنون الجميلة
كان القطار مكتظاً بالمسافرين والجنود الملتحقين الى وحداتهم العسكرية نحو قواطع المعارك وحجابات الموت جنوباً أثناء الحرب العراقية الايرانية.
ينام الجنود باحلامهم فوق أرضية القطار بين المقاعد المكتظة بالجالسين بعضهم يتوسد بساطيله ويغط في نوم عميق والبعض يخفي في جيوب قمصلته العسكرية زجاجة عرق (الزحلاوي) فيحتضنها بحذر مستغلاً نوم المسافرين واطفاء أضوية مصابيح عربات القطار فيأخذ منها رشفة على عجل ثم يغلق سدادة الزجاجة ويخفيها مرة أخرى في الجيب الداخلي للقمصلة، بينما القمر وعواء الذئاب في البراري الجرداء لم يلبثوا من مطاردة صفير القطار الهارب وسط الظلام.
يمر قطار العمر في المساءات الموحشة فيتوقف بنا ما بين رحلة هنا وأخرى هناك في محطات نصعد منها وأخرى نترجل اليها فوق أرصفة الغربة.. ونحن نبحث عن حقائبنا الملقاة فوق رفوف الذاكرة
فتتجلى الأمنيات المعتقة بالحسرات وهي تبوح:
يا ليت الزمن المسافر بحقائبه الكثيرة حين يمر بمحطات خاطئة وأرصفة دون عناوين .. أن يعود الى المحطة الأولى كي يبدأ برحلة أخرى وبقطار آخر
وياليت أن يرجع سهم لعبة الروليت الى الوراء ولو لمرةٍ واحدة
واحدة فقط لا غير!!
لراهنت على رقمٍ آخر وعلى حظ آخر وعلى طاولة قمار أخرى
فعسى أن تُستبدل الخسارات بارباحٍ وهمية أو أن أغير عراب اللعبة والقدر بسمسارٍ آخر!!
كنت أعد بخساراتي وخيباتي الكثيرة على أطراف الأصابع.. وبعد أن أنهيت عد الأصابع أتذكر إني بحاجة الى أصابعٍ أضافية أخرى
كثيراً ما كنت أخاتل الجرح وأمضغ الترياق كي أنسى وجع النزيف
أو أرتق ثقوب الذاكرة حتى يكون للنسيان غفوة بين وسادة وسرير
وحين أيقظتنيّ الوحشة في جفلة الفجر، كنت أحلم في (التي تي) مفتش القطار بملابسه الداكنة وهو يوقظني من نومي متسائلاً عن تذكرة السفر نحو بغداد!!
فتحسست قلبي الذي كان مختبئاً في معطف الضباب، تطلعت من وراء النافذة المثقلة بالنعاس
شاهدت الاشجار ما زالت نائمة والأرصفة دون عابري
تمنيت أن يكون ذلك الوطن البعيد المتواري خلف البحار نائماً دون أحزان مثل طفل يغفو في مهده الدافئ المبتسم
ما أوحش الامكنة حين تمر بها قوافل الازمنة تاركةَ تضاريس الذكرى توشم الجدران بينما الابواب كانت تصفق بها الريح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81