الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ديكتاتورية القلة/الكادر واغتصاب الإرادة العامة

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2022 / 10 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


لما كانت ديكتاتورية الفيلسوف، بوصفة الأعلم بالناس ومصالحهم، هي خيار الحكم الأفضل أولاً من وجهة الفيلسوف اليوناني أفلاطون لكنها كانت، من وجهة نظره كذلك، مستحيلة التطبيق في الواقع، فقد ارتضى أن يحتفظ بها لعالمه الافتراضي في يوتوبياه ومضى إلى خيار الحكم الأفضل ثانياً لكن القابل للتطبيق بل والقائم فعلاً في زمانه- ديكتاتورية القلة. كان أفلاطون يعيش فيما تعرف ’مدينة-دولة‘ تدعى أثينا، حيث حدود هذه المدينة هي حدود الدولة، ومواطنوها هم نفسهم مواطنو الدولة. وكانت أثينا مدينة-دولة ديمقراطية، بمعنى أن كل مواطنو أثينا وأهلها يحق لهم، بحكم انتمائهم لهذه المدينة، المشاركة في إدارة الشؤون العامة للمدينة. وهنا يجب التنبيه إلى أن كلمة ’مواطن‘ وفق مفهوم أفلاطون وزمانه لم تكن تشمل الأطفال ولا النساء جميعاً، كما لم تكن تشمل أي أغراب سواء مؤقتين أو دائمين، لاسيما العبيد الذين كانوا في أحيان كثيرة يشكلون أغلبية السكان. في قول آخر، مفهوم أفلاطون عن مواطني أثينا كان لا يستوعب على أعظم تقدير سوى 5-10% من قاطنيها، كلهم رجال. وهذه النسبة الضئيلة هي التي كانت تمثل مواطني أثينا، ويحق لها أن تشارك في تقرير وتسيير المصلحة العامة للمدينة.

اعتقد أفلاطون أن مشاركة جميع هؤلاء الأثينيون في الحكم تفسده من كثرة التداول في المناصب والآراء والخلاف وبطء التصرف وصنع القرار وسائر نقاط الضعف واللين وغلبة الهوى الملحوظة حتى في ديمقراطيات هذه الأيام. في المقابل، كان ثمة نظام حكم مختلف في مدينة-دولة مجاورة تدعى إسبرطة هو محط بصر وحسد أفلاطون، لكونه يمتاز بسرعة الإنجاز والحسم والحزم وأمور أخرى كثيرة من هذه الشاكلة كان أفلاطون يطوق لها بشدة، وكانت أثينا في أمس الحاجة إليها حتى تستطيع المقاومة والصمود في وجه الاستقواء والتوسع الإسبرطي المطرد على حسابها. كانت اسبرطة تعتمد ديكتاتورية القلة، حفنة صغيرة ومحدودة العدد من نبلاء وارستقراط اسبرطة هم من يحتكرون فيما بينهم حق المشاركة في الحكم وتداول المناصب العامة. كانت هذه الحلقة الضيقة تستبعد بالطبع بقية مواطني اسبرطة الآخرين، حتى لو كانوا من الرجال فقط ومن الأحرار فقط ولا يشكلون من جملة السكان أكثر من 5%. وقد اعتقد افلاطون أن نظام حكم من هذا النوع هو الأفضل في حفظ الأمن والنظام وضمان الاستمرارية والاستقرار والقوة للمدينة-الدولة، بفضل الثبات النسبي في مناصب الحكم وعدم التداول عليها بشكل دوري وسنوي كما كان الوضع لدى خصمتها اللدود أثينا. في قول آخر، قلة أعداد المرشحين للحكم وثباتهم النسبي في مناصبهم هو شكل الحكم الأفضل في الواقع، أو هكذا تصور أفلاطون في زمانه.

في العصر الحديث، قد تجسدت هذه الفكرة بدرجة أو بأخرى في المنظومة العقائدية لكل من ’حزب البعث‘ في سوريا والعراق والاتحاد الاشتراكي في مصر، وبأكبر درجة ممكنة من الاتساق والنقاء التنظيري في أدبيات الحزبين الشيوعيين السوفيتي والصيني. كان المنطق السائد في جميع هذه الأقطار المتباينة أن المشاركة في صنع القرار وتولي المناصب العامة في الدولة حق حصري ليس لكل أعضاء الحزب، بل فقط لقلة أو نخبة حاسمة منهم، أو من أسموهم ’الكوادر‘. مجرد انتمائك التنظيمي للحزب لا يضمن لك بأي حال حق للمشاركة الفعلية في الحكم، سواء في صنع القرار أو تقلد المناصب العامة. وحدها اللجان والهيئات والأجهزة والتنظيمات ’العليا‘ مهما تكن مسمياتها هي المخولة، على سلم من درجات متصاعدة وصولاً إلى بسطة ضيقة يتربع عليها نقر قليل يعدون على أصابع اليد. هؤلاء هم من يحكمون فعلاً، سواء باسم كل البعثيين السوريين، أو الاشتراكيين المصريين، أو الشيوعيين السوفييت والصينيين. ولما كان الاختلاف من الأصل محرماً، وأي رأي أو تجمع أو حزب آخر ممنوع، كانت هذه الكوادر في الحقيقة تحكم شعوبها بكاملها، وتتحدث باسمهم جميعاً في نفس واحد. هو وضع مشابه لما كان سائداً في اسبرطة أيام أفلاطون، لكنه مختلف كليتاً عن نظيره في أثينا وقتها. إذ بينما أعطت أثينا لمواطنيها الحق العام حتى لو فرطوا فيه، جردت اسبرطة مواطنيها منه وخصت به حصراً فئة قليلة من المتنفذين، من شاكلة أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني أو السوفيتي.

رغم كل إيجابياته وفوائده الحقيقية والمتصورة، يبقى حكم القلة (نخبة/كادر/ارستقراط/نبلاء/أوليغارش/ملالي/عسكريين...الخ) في جوهره قائم على إملاء بالقوة لإرادة نفر قليل على بقية الناس، أو ما يمكن تسميته ’اغتصاب الإرادة العامة‘.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انطلاق معرض بكين الدولي للسيارات وسط حرب أسعار في قطاع السيا


.. الجيش الإسرائيلي يعلن شن غارات على بنى تحتية لحزب الله جنوبي




.. حماس تنفي طلبها الانتقال إلى سوريا أو إلى أي بلد آخر


.. بايدن يقول إن المساعدات العسكرية حماية للأمن القومي الأمريكي




.. حماس: مستعدون لإلقاء السلاح والتحول إلى حزب سياسي إذا تم إقا