الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بخطى طليقة- التبادل

عصمت منصور

2022 / 10 / 19
أوراق كتبت في وعن السجن


لا تؤدي الجدران في السجن سوى وظيفة ثانوية، وهي بقدر ما تكون منيعة ومعادية من الخارج، فإنها رخوة وقابلة للتشكيل وإعادة البناء لدورها ووظيفتها من الداخل، وفق صراع الإرادات الناشئ بين ثناياها.
بعد تجريد المقاتل من سلاحه، يتم عزله عن العالم، بين أربعة جدران، يتناوب فيها السجان والزمن على مهمة تحويل هذا المقاتل المنطلق والذي كسر قيوده النفسية وتحرر من خوفه وتمرد على الواقع الذي حشر فيه، الى أسير، خاضع ومكسور غارق في اليأس ومستسلم لإرادة السجان.
بعد ان خاضوا أول إضراب، واهتدوا الى السلاح الذي حرر ارادتهم، وبعد ان عمّدوا وحدتهم ولحمتهم بدماء أول شهيد هو عبد القادر ابو الفحم، لان جدار السجن، وتعرّت هشاشته، ولم يعد وظيفيا قادرا على حبس الأسرى او احتوائهم.
الخطوات في ساحات السجن أصبحت أخفّ وأكثر ثقة، والأهم من ذلك، بات لها هدف وغاية.
المجموعة المبعثرة أخذت شكلا منظما، وتحولت الى جسم لديه لوائحه ومنظومته الثورية والقيمية، وأنتجت المجموعة رموزها وقادتها الذين شكلوا عناوين تعبر عن عناصرها داخليا، وتمثلها امام ادارة السجن وتقود خطواتها نحو أرضية اكثر صلابة وقوة.
تستطيع الجدران ان تلتف حول الجسد، لكنها تصغر تماما امام الأفكار والمبادئ والإلهام، وهذا ما اتقنه الأسرى الذين أطلوا برؤوسهم فوق أسلاك السجن الشائكة، وأسواره العالية المحصنة.
مهما كانت الأفكار خلاقة وقوية ومنغرسة عميقا في النفوس، تبقى بحاجة لمرساة وخيط يربطها بأرض الواقع، وهذه المرساة كانت افتراضية نظرية في بداية الاعتقال، قائمة على الربط بين الاسير الفرد داخل الأسر وما بين الثورة وفصائلها والمكانة التي تحتلها يوميا عبر نضالها العسكري والسياسي والوطني في مواجهة دولة الاحتلال.
الربط العملي الواقعي الأول الذي وثق الصلة وجعلها ملموسة ما بين حركة الثورة وما بين الأسرى، تجلى في عمليات تبادل الأسرى التي أجرتها الثورة وفصائلها مع دولة الاحتلال.
التبادل ليس عملية شكلية تقاس بالأرقام وكم تحرر منهم في كل دفعة، بل مد قبضة الثورة الى السجن وتبديد سطوته وظلمته، والاستخفاف بقوانينه وأحكامه التي كانت تصدر من محاكم الاحتلال.
لم تعد الأحكام الرادعة والمنظومة القضائية ذات صلة، وأصبح قرار التحرر والإفراج بيد الثورة.
لم يعد للسجن والسجان هيبة وجبروت بعد ان أصبح هناك معادل قوي قادر على انهاء حكمهما.
شهد الصراع العربي الاسرائيلي عشرات عمليات التبادل ما قبل العام 1968 والذي يمكن اعتباره الحد الفاصل بين نمطين وعالمين.
عمليات التبادل التي كانت تتم بين دول عربية واسرائيل كانت (حتى هذا التاريخ) تتم بين دول قائمة وجيوش نظامية متحاربة، وتأخذ بعدا شكليا إنسانيا بعد صمت المدافع، وانقشاع غبار المعارك، وهي بذلك انما كانت مجردة من أي حمولة أيديولوجية معنوية ولا تحظى بأي رمزية خاصة.
في العام 1968 اخطفت مجموعة تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الرفيق يوسف الرضيع والرفيقة ليلى خالد التي ذاع صيتها بعد هذه العملية ، طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، واجبرتها على تغيير مسار رحلتها التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وبدل ذلك التوجه إلى الجزائر.
كان في داخل أول طائرة إسرائيلية يتم اختطافها من قبل فصيل فلسطيني أكثر من مائة راكب، وأفضت هذه العملية الى إبرام اول صفقة تبادل مع دولة الاحتلال تم تنسيقها من خلال الصليب الأحمر الدولي وتضمنت بنودها:
الإفراج عن الركاب المحتجزين في الطائرة المخطوفة مقابل (37) أسيراً فلسطينياً.
هذا الحدث يمكن اعتباره والنظر إليه على انه اللحظة التي مات فيها السجن معنويا، وتقزم السجان، وأرسى الأساس المادي الذي ربط الأسرى والأفكار التي يحملونها مع حركة الثورة ونضالها في الخارج، خاصة ان هذا الحدث لم يكن يتيما ولا منفردا اذ تبعته بعد عدة أعوام عملية تبادل أخر بشكل جديد اكثر وفرة وقابلية للتطبيق.
عملية التبادل الثانية جرت بين منظمة التحرير (حركة فتح) وما بين دولة الاحتلال، وأنجزت في العام 1971 وتم فيها اطلاق سراح جندي اسرائيلي اختطفته الحركة قبلها بعامين بأول اسير فتحاوي هو محمود بكر حجازي.
تحرر حجازي الذي كان صدر بحقه حكم بالإعدام قبل ذلك عبر رأس الناقورة ومنها الى بيروت للالتحاق بصفوف الثورة، لم يحمل دلالات رمزية فقط بل جسد الأمل والرغبات الدفينة وجعلها واقعا أنعش الأسرى وحفز إرادتهم، وملّكهم سلاحا تعبويا داخليا أعطى للتنظيم ومن يقف على رأسه هيبة وقوة، تحول المعتقل الفلسطيني في سجون الاحتلال من مجرد أسير يحمل افكارا عامة، وينظّر لثورة بعيدة ويبشر بالنصر الحتمي، الى قائد يمتلك سلطة فعلية وأداة ضبط للخطى التي زادت رسوخا وخفة في حركتها في ساحات السجون المغلقة.
توالت عمليات التبادل وهي الى جانب كل المكاسب المعنوية والرمزية التي قدمتها للأسرى الذين لم يحالفهم الحظ بان يكونوا ضمن المشمولين فيها، فتحت لهم نافذة واسعة للأمل.
تنبه منظر الحركة الاسيرة ومفكرها الأكثر حضورا في مراحل تكوينها الجنينية الأولى الشهيد عمر القاسم والذي استشهد في الاسر بعد 21 عاما من الاعتقال، الى الوظيفة المعنوية والرمزية لعمليات التبادل وضرورة توظيفها في ضبط حركة الاسرى الداخلية ومدهم بالأمل اللازم الذي يمكن استقاؤه منها.
حدد القاسم من خلال تطبيق معارفه العلمية والفكرية وخلفيته اليسارية ومنهجه الديالكتيكي وثقافته الواسعة وتحرر عقله، ان الاسير يعيش عمليا ازمتين، ازمة تأقلم وازمة تحرر.
اعتبر القاسم ان ازمة التحرر يمكن حلها موضوعيا من خلال انتصار الثورة وتحقيق اهدافها، او "وهنا ظهر اثر التبادل" من خلال تبادل الاسرى الذي اعتبر حلا جزئيا ومرحليا لازمة الحرية كونه غير شامل ولا يضمن عدم اعادة ملء السجون مع تصاعد حركة الثورة.
الربط العبقري الذي ساهم به القاسم، والذي منح قيادات الأسرى سلطة على الجسم الذي يقودونه، لم يكن في وضع معايير موضوعية للأولويات التي تحدد من يجب ان يشملهم التبادل اولا، بل كان من خلال اعتبار ان ازمة التكيف (التي لا تعني التكيف السلبي مع ظروف الاعتقال والأسر بل تكيفها لتصبح أكثر انسانية وملاءمة لحياة مقاتلين متفوقين اخلاقيا على سجانهم) تحتاج الى مقاييس اخلاقية ووطنية ونضالية شخصية عالية، تؤهل الأسرى لان يرتقوا في سلوكهم الى مرتبة جيش ثوري أسير، يتصاعد فعله ونضاله من النضال المطلبي اليومي الى ان يصل الى مرحلة النضال السياسي التحرري الذي يضطر السجان في نهايته للاعتراف بالأسرى كأسرى حرب ومقاتلين من اجل الحرية.
تتقاطع وفق رؤية عمر القاسم، التي اصبحت العنوان العريض لنضال الاسرى، مرحلة بلوغ الثورة لأهدافها وما تحققه من انجازات، مع اكتمال مرحلة تكييف الاسر، وهو ما يفضي في النهاية الى حل ازمة الحرية، وتلاشي السجون والظروف التي انتجتها.
تضافر سلاح الجوع والاعتماد على الإرادة، مع تبلور قيادة صلبة ذات رؤية وبصيرة ثورية، مع حصول أول عملية تبادل للأسرى، خلق الأرضية الصلبة التي اطلقت خطى الاسرى وحررتهم داخليا ومكنتهم من افراغ الجدران من وظيفتها بحيث لم تعد تسجن الرؤوس ولا تكبل الخطى، وهذا ما فتح الباب واسعا لثورة داخلية معرفية ونضالية وتنظيمية تم التعبير عنها من خلال اللوائح والبيانات والأدبيات التي انتجت في تلك الفترة، وعلى الروح التي سادت والتي انعكست حتى على الاهتمام ببنية الجسد والهندام واللغة اليومية التي ارادت ان تتمثل في كل تفصيل صغير صورة المقاتل المثالية وان تزيد من الهوة بين الأسير والسجان كونهما ممثلين لطرفي صراع ومنظومتين اخلاقيتين وانسانيتين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات أمام مقر إقامة نتنياهو.. وبن غفير يهرب من سخط المطا


.. عائلة فلسطينية تقطن في حمام مدرسة تؤوي النازحين




.. الفايننشال تايمز: الأمم المتحدة رفضت أي تنسيق مع إسرائيل لإج


.. رئيس مجلس النواب الأمريكي: هناك تنام لمشاعر معاداة السامية ب




.. الوضع الإنساني في غزة.. تحذيرات من قرب الكارثة وسط استمرار ا