الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نوبل للإقتصاد، تتويج المُخَرِّبين؟

الطاهر المعز

2022 / 10 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


لم يُدْرَج الإقتصاد ضمْن المجالات التي تتم مكافأة نخبة الدارسين والباحثين والمُهتمّين بها بجائزة نوبل السنوية، بل إن ما تسمى بجائزة نوبل للإقتصاد هي في واقع الأمر جائزة بقيمة 886 ألف دولارا، يمنحها المصرف المركزي السويدي من أجل "تحسين صورة الإقتصاد ومُصالحة الجمهور مع المفاهيم الإقتصادية"، لكن نظرة سريعة على "إنجازات" الفائزين بها تُبيّن انتماءهم إلى فئة مُنَظِّرِي التحليل غير الضّبابي والذي لا يُلائم المرحلة، أو التحليل العقائدي الذي يهدف تعزيز الإجماع الاقتصادي والإيديولوجي السائد الذي يُرَوّج لاقتصاد السّوق، كنمط وحيد لا بديل عنه، ويشكل منح جائزة هذا العام، يوم 11 تشرين الأول/اكتوبر 2022، إلى بنيامين برنانكي، رئيس الإحتياطي الإتحادي الأمريكي من 2006 إلى 2014، ودوغلاس دايموند وفيليب ديبفيغ، دليلاً ساطعًا، لأن برنانكي "أنقذ النظام المصرفي من الانهيار التام" خلال أزمة 2008. أما دايموند وديبفيغ فقد طَوّرا أطروحة تُحذّر من احتمال انهيار المنظومة المصرفية، إذا ما فقدت مصداقِيّتها لدى الجمهور الذي قد يُصاب بالهلع ويسحب إيداعاته في فترة وجيزة...
أوْرَدَت افتتاحية صحيفة "غارديان" بتاريخ 11 تشرين الأول/اكتوبر 2022، تعليقًا بشأن "جائزة نوبل للإقتصاد"، وعن فشل مُديري المصارف المركزية ( التي أصبحت "مُستقلّة" عن الحكومات) في استخلاص الدّروس من الأزمات، وعدم قدرة المصارف والحكومات على معالجة الأزمات وتأثيراتها على المواطنين وعلى الشركات، بل تعمد المصارف المركزية (والحكومات) إلى زيادات كبيرة في أسعار الفائدة، ما يُؤَدِّي إلى غلاء القروض، سواء قُروض استهلاك الأفراد والأُسَر، لشراء سيارة أو مسكن، أو قروض الشركات الصغيرة المُحتاجة إلى السّيُولة، ويتحمّل المواطنون (المُستهلكون) النتائج الوخيمة لذلك، ومنها الرّكود وزيادة الأسعار وارتفاع قيمة حِصًص القُروض الخ، وفق تحليل مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد – تشرين الأول/اكتوبر 2022)، لأن رَفْعَ أسعار الفائدة، من قِبَل الحكومات والمصارف المركزية، يُؤدّي إلى تضخّم أسعار الإستهلاك، وبالتالي إلى خفض الإنفاق...
إن رفع سعر الفائدة الإحتياطي الإتحادي الأمريكي (المصرف المركزي الأمريكي) سواء كان يُديره "برنانكي" أو غيره، يؤدّي إلى ارتفاع قيمة الدّولار وإلى إلحاق الضّرر بعملة العشرات (تسعين دولة أو أكثر) من الدّول الفقيرة المُسمّاة "نامية"، ويؤدّي انخفاض قيمة عُملة هذه البلدان، مقابل الدّولار، إلى العجز عن استيراد السّلع المُسَعَّرَة بالدّولار، وعاجزة عن تسديد الدّيُون المُقَوَّمَة بالدّولار كذلك، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من نقص في المحروقات والطاقة والغذاء والأدوية الخ، لترتفع أرباح شركات المُضاربة بالغذاء والسّلع الأساسية والمصارف بنِسَبٍ قياسيّة، بسبب الإحتكار والمُضارَبة ورفع الأسعار، مقابل خفض تكاليف العمالة وحصة العمل، ما يؤدّي إلى ارتفاع حصة وأرباح رأس المال...
وعدت الحكومات النيوليبرالية، خلال عقد ثمانينيات القرن العشرين، بزعامة ماغاريت تاتشر ( 1925 - 2013 ) في بريطانيا، ورونالد ريغن ( 1911 - 2004 ) في الولايات المتحدة المواطنين بالرخاء والإستقرار والسّلم الإجتماعية بفضل توسيع نفوذ "السّوق الحُرّة" وإلغاء الرّقابة الحكومية على الأسعار وعلى إيجارات السّكن وخفض الضرائب على الثّروات وعلى أرباح الشركات، لكن أدّت هذه الإجراءات إلى تكثيف استغلال العاملين وإلى ارتفاع نسبة البطالة، وخصخصة القطاع العام، وضخ الحكومات مبالغ ضخمة من المال العام لفائدة المصارف والشركات الكبرى. أما في البلدان الفقيرة (المُسمّاة "نامية") فقد زاد ضغط الدّائنين، بقيادة صندوق النّقد الدّولي، وأدّى خفض الدّعم الحكومي للسّلع والخدمات الأساسية إلى انتفاضات عديدة في قارات إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وأدّت السياسات الإقتصادية والنّقدية التي يُرَوِّجُ لها الفائزون بجائزة المصرف المركزي السويدي (المُسمّاة ظُلْمًا "جائزة نوبل للإقتصاد") إلى زيادة دُيُون الدّول الفقيرة، وزيادة عدد الفُقراء والمُعطّلين عن العمل في العالم.
برَعَ رأس المال المالي (المصارف وصناديق الإئتمان وشركات التّأمين...) في فنون الإعلام المُضَلِّل والدّعاية، وتعمّدت دعاية المصارف المركزية إخفاء الواقع بشأن الوضع الإقتصادي، وإخفاء المعلومات المتعلقة بأسباب وأهداف رَفْع أسعار الفائدة منذ بداية السنة الحالية (2022)، لأن ذلك لن يكون كافياً لخفض معدلات التضخم التي لا تنتج عن "زيادة الطلب"، أي إنفاق الأسر والحكومات، بل بسبب شح المعروض من الطاقة والغذاء والضروريات الأساسية، فلَوْ تَوَفَّرَت هذه السّلع في الأسواق بكميات وفيرة لاستقرّت أسعارها.
يقدّر تقرير الأونكتاد (الأمم المتحدة) الصادر في تشرين الأول/أكتوبر 2022 حول التجارة والتنمية، أن الزيادة في سعر الفائدة للاحتياطي الإتحادي الأمريكي ( المصرف المركزي) ستؤدي إلى انخفاض كبير في الناتج الاقتصادي في البلدان الغنية وانخفاض أكْبَرَ في البلدان الفقيرة خلال السنوات الثلاث المقبلة.
لقد كافأ المصرف المركزي السويدي هذه السياسة الهدّامة والمُضِرّة بمصالح العاملين والأُجَراء والفُقراء والدّول الفقيرة، بمنحه الجائزة التي سُمّيَتْ خَطَأً (متعمّدا) "جائزة نوبل للإقتصاد"، وهي السياسات الإقتصادية التي خطط لها ونفذها السيد برنانكي (الحاكم السابق للإحتياطي الإتحادي اتلأمريكي) والتي أدت إلى إفقار عشرات البلدان وإلى انخفاض دخل مئات الملايين من العمال في مناطق مختلفة من العالم! إذ يزعم محافظو المصارف المركزية أنه يجب تخفيض الرواتب (والدّخل لغير الأُجراء من صغار الفلاحين والحرفيين) للحد من التضخم، ولكن في الواقع لا ترتفع الأجور سوى بعد أَشْهُرٍ من ارتفاع أسعار السّلع والخدمات، في مُحاولةٍ لمواكبة هذه الزيادات.
يرفع الاحتياطي الإتحادي الأمريكي أسعار الفائدة لحماية نظام الدولار المُهَيْمن على الاقتصاد العالمي الذي يرتفع مقابل العملات الأخرى، فتصبح عملية تسديد حصص دُيون البلدان الفقيرة أكثر تكلفة، نظرًا لاتخفاض قيمة العملة الوطنية، فقد ارتفعت قيمة الدولار بنسبة 11% بين كانون الثاني/يناير وأيلول/سبتمبر 2022 ، عقب ارتفاع أسعار الفائدة، ويُعْتَبَرُ الدولار القوي ملاذًا آمنًا. أما البيانات التي يُصدرها الإحتياطي الإتحادي الأمريكي بشأن قَلق مسؤوليه من التضخم وأسعار الفائدة الأمريكية وتأثير العقوبات والحرب في أوكرانيا، فهي مُجرّد غطاء لأسباب القلق الحقيقي للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والمصارف المركزية الأخرى، والمتمثل في احتمالات تراجع الربحية.
يُؤدّي ارتفاع قيمة الدّولار إلى ارتفاع قيمة الواردات المُقَوَّمة بالدولار كالمحروقات والمواد الأولية والغذاء والأدوية وغيرها، ما يضطر البلدان والشركات إلى تقليل استثماراتها أو زيادة الإنفاق على الواردات المهمة، وما يزيد من خطر التخلف عن السداد للبلدان المُستدينة.
على مستوى الاستهلاك والتضخم، لم يكن ارتفاع الأسعار مدفوعًا "بالزيادة المُفْرِطة للطلب" على السّلع والخدمات أو مدفوعًا بزيادة استثمار الشركات، ولا بزيادة الإنفاق الحكومي "غير المنضبط" (وفقَ عبارة صندوق النّقد الدّولي) فليس الطلب "مُفْرِطًا"، لكن العرض منخفض للغاية، ولذلك يمكن للمصارف المركزية أن ترفع أسعار الفائدة الرئيسية بالقدر الذي تريده، لكن هذا لن يكون له تأثير يذكر على ضغوط العرض، بل يُؤثِّرُ سلْبًا على حياة اغلبية المواطنين...
خاتمة:
استخدمت البنوك والشركات ضخ الائتمان الضخم للمضاربة على الأصول المالية والعقارات فارتفعت أرباح الأثرياء، بينما ركدت قيمة الأجور الحقيقية لغالبية العاملين، ولا يمكن حل هذا التناقض، بين استمرار ارتفاع ثروة الأثرياء وانخفاض حصة العاملين، دون رقابة عمومية صارمة على المصارف التي يجب أن تُستخدم لتمويل مشاريع مُنتجة ومشاريع البنية التحتية الهامّة، مع رقابة على الأسعار وواردات السّلع غير المتوفرة داخليا... أما ارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع قيمة الدولار فيُشكّلان تهديدًا للدول الفقيرة لأن الدولار الأمريكي هو عملة التجارة والتحويلات المالية، مما يمنحه قيمة أعلى من العملات الأخرى، فمعظم القروض والسندات التي تُصْدِرُهَا الدول الفقيرة مُقَوَّمَةٌ بالدولار، وعندما ترتفع أسعار الفائدة، تزداد تكلفة خدمة ديون البلدان الفقيرة (بالدولار) بسرعة وتصبح العديد من البلدان غير قادرة على سداد ديونها (زامبيا ، وسريلانكا ، وباكستان ، وما إلى ذلك) وتشرع في خفض الإنفاق العام على الخدمات والحماية الاجتماعية التي تعاقب أفقر شرائح السكان.
حققت الطبقة العاملة والفئات الوسطى في البلدان الصناعية مكاسب بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك بفضل النضالن وكذلك لأن الرأسمالية أرادت تشجيع الإستهلاك، وتملّك المسكن والسيارة بواسطة القُروض، وتعويد العُمّال والأُجراء على نمط حياة يجعلهم يبتعدون عن الفكر الإشتراكي والمُطالبة بالعدالة والمُساواة، ثم فقدت الطبقة العاملة هذه المكاسب تدريجياً خلال "أزمة الربحية" في سبعينيات القرن العشرين، والتي شكلت بداية هجوم مضاد للرأسمالية "الليبرالية الجديدة" في أوروبا والولايات المتحدة ، قبل أن تقرر البرجوازية "نهاية التاريخ" (1991-2008) وإنشاء عالم أحادي القطب بإشراف وإدارة الإمبريالية الأمريكية...
كانت جائحة كوفيد -19، واحدة من الأزمات التي استغلّتها الرأسمالية لإعادة هيكلة الاقتصاد العالمي وتطوير أتمتة (automatisation ) العمل والعمل عن بُعْد وفرض ظروف عمل سيئة للغاية على الموظفين وخفض الإنفاق لتعظيم الأرباح.
بخصوص موجة التّضخّم الحالية، من الخطأ القول أن ارتفاع تكاليف المواد الخام أو الأجور يسبب التضخم، لأن القيمة الحقيقية للأجور متمادِيَة في الانخفاض، بينما ترتفع الأرباح (أو حصة رأس المال)، فإذا كانت أجور عام 2022 مطابقة لرواتب العام 2021 بينما ارتفعت أسعار السلع التي ينتجها العامل، نستنتج انخفاض سعر قوة العمل (أجْر ساعة عمل). في الولايات المتحدة، زادت الأرباح الرأسمالية بنسبة 79% تقريبًا بين آذار/مارس 2020 (عام كوفيد -19) وحزيران/يونيو 2022، بينما لم يرتفع متوسط القيمة الحقيقية للأجور، بل لم يتجاوز مستوى قيمته سنة 1996 في حين أصبحت إيجارات المساكن في الولايات المتحدة الكبرى المدن تشكل نسبة تفوق 35% من متوسط راتب العامل.
من الوَهْم الإعتقاد أن هذا النظام الإقتصادي المَبْنِي على الإستغلال والإضطهاد وزيادة الأرباح بأي ثمن، ولو على حساب حياة البشر، قابل للإصلاح، بل وجب استبدال المنظومة برُمّتها، بمنظومة أُخْرى تكون قائمة على العدالة والمساواة، في مجتمع يَطْلُبُ من كل مواطن بَذْل ما في وسْعه لِينال ما يحتاجه من سُبُل العيش المادّي والصحة والثقافة والتّرفيه...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لم تعد توجد يوتوبيا في علم الاقتصاد
منير كريم ( 2022 / 10 / 20 - 22:59 )
الاستاذ المحترم الطاهر المعز
اولا اصبح اقتصاد السوق او الاقتصاد الحر هو الاقتصاد النموذج لكل البشرية والاقتصادات الاخرى
الشيوعي والفاشي والاسلامي قد فشلت
علماء الاقتصاد في الدول الديمقراطية خاصة يبحثون في افضل الاليات الميكانيزم في الاقتصاد حتى
يحققوا اقل نسبة من البطالة والتضخم واعلى نسبة في التشغيل والنمو , وكل ذلك يتم بواسطة معلومات تجريبية ونماذج رياضية لا بافكار ايديولوجية مسبقة
لهذا يستحقوا التقدير ونيل الجوائز
شكرا

اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل