الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فتاة السويداء قصة

كاظم حسن سعيد

2022 / 10 / 22
الادب والفن


(فضاؤك البيت فقط يا مها )..هكذا قالت لها امها بعد اسبوع من اجتيازها الصف التاسع .. وزوجوها لمهندس معماري بعمر السابعة عشر , قبل عقد من نشر داعش حواجز عسكرية قرب قرية الأصفر الواقعة شمال شرق السويداء على بعد 65 كم منها ، والتي لجأ إليها آلاف النازحيين السوريين من درعا والقنيطرة ودمشق وغيرها بسبب العمليات العسكرية في مناطقهم.
شاهدتهم يضعون الناس في اقفاص ويزهقونهم غرقا او يحرقونهم احياء ..راقبتهم وهم يقربون السكين من النحر ويطلبون الخيار : الموت ذبحا او بطلقة .. ورأت سبي النساء يعود ونهب الاثار وتحطيم الصلبان ونسف المراقد ولاحظت اعداءهم الاخرين ايضا تحت السياط والعصي يطلب منهم تقبيل اقدام الرئيس طلبا للصفح والمغفرة ..الجميع يتوحشون ..
لكنها حبست مبكرا فلم تستمتع بقمم السلاسل الجبلية البركانية الخامدة ولا بغابات العنب والزيتون واللوز ولا بالا ثار الرومانية او المناطق ألاثرية صامدة من العصور القديمة او العصر الحجري..ولا تعرف عن تاريخ اجدادها الدروز الذين هزموا الفرنسيين والعثمانيين .. ولا عن اسرار عقيدتها الا حكايا مختزلة ..كانت المسافة بين طفولتها ونضجها لحظات .. هي لا تعرف كيف تحولت امرأة .. وربما لم تتحول ..دخل عليها زوجها لحظة الزفاف ولم يترك لها زمنا لتسترد انفاسها .. لقد التهمها مرتين وافترسها ثلاث مرات خلال خمس ساعات .. فلما اسيقظت بعد الظهر شعرت بانها لا تنتسب لذاتها .. وانها لابد قد قطعت عشرات الفيافي والوديان ومرت بمعارك رماح بلا عدد, وتخلصت من هجوم كلاب ورعب ذئاب ..وان كل جزء من جسدها الغض قد تخلى عن الجزء الاخر في مؤامرة غادرة ..
منذ تلك اللحظة وهي تنوء باحساس جنائزي ,واخذت حكايا الموت تستقطبها وتغذي خيالها...ولانها قبرت في المنزل .. تلاشى عنها مجرى الحياة خارج الجدران .. فاستبدلته بعالم الدمى والقطط والطيور ..ان اتاهم ضيوف او اصدقاء اوت للحبس في غرفتها حتى انها نسيت عادة الكلام ..لقد منحت اجازات من رعبها من فراش الليل بعد ستة اشهر من زواجها ..فقد سافر زوجها ليعمل في دبي .. يعود مرتين في السنة .. ولا يعاودها الرعب الا مع اقتراب عودته فتحشر ما تبقى لها من حماس عابر في التابوت ..وتستعد لافتراسه المميت ..
حلمت مرة بعشرات التوابيت السود يتكدس بعضها على بعض جوار جرف ساقية نتنة قريبا من جسر خشبي .. كانت بعض ايادي وارجل الجثامين متخشبة بارزة منها ,صحت وهي تلهث محشورة بالفزع غرقى بالعرق ..قصدت المرآة ..قابلتها عينان فيروزيتان وحمرة تتشرب في بشرة نقية البياض..وانتفضت بوجهها كرتان مثل مخروطين من ثلج فألقت عليهما الاصابع : (اهو كنز لا يقهر ولا يقاوم كما يقولون .. هاتان الطينتان المكورتان الثقيلتان ... تنغرز عيونهم فيها بلا رحمة حتى يغسلني العرق واصاب بالدوار.. كم تمنيت ابترهما ! ) ونظرت للون القرمزي الشفاف ينصب حتى خصرها ووشم ولادي اعلى زندها مشكلا جوزة هند بزغب اشهب ...وقالت (المغفرة والاطمئنان يا رب ).. ومضت للماء ترشه على حمرة الوجنتين .. وعادت بفنجان قهوة ...واستقرت محاولة بتمشيط الدمى واكسائها ان تزيل صورة التوابيت وتحاول نسيان الكتابة عليها ...نادتها ام زوجها
ــ مها
ركضت اليها واجلستها على مقعد من الستيل , ذي اربعة ارجل, حفرت دائرة في وسطه ودفعتها الى الحمام ...
وقادها ضجرها وقوة البرد الى ان تمضي لصندوق حديدي مزخرف ,وفكت قفله .. ونظرت حائرة
ــ (ما كنت اريد ؟)
تناولت كتاب قصص ودفترا من زمن الدراسة وعادت لقهوتها ..تصفحت الدفتر وانقبض صدرها , احست برغبة بالتقيء ...لكنها قاومت كل شيء وقرأت رموزا في اخر سطور لا يتهجاها سواها ..رأت رسما لأرجوحة متعرجة وصورة طفلة مجردة بلا عينين ولا ملامح لصقت بالحبل , دائرة بلون الموز الصقت بها خطوطا بقلم رصاص وماجك تمثل الساقين واليدين .. وتذكرت :
(انه زمن الصف الثامن .. حين بدأ بن عمتها ادهم يقص لها حكايا الاشباح والمغامرين .. يكبرها بعشرة اعوام .. كانت تستمتع معه ..تتخيل جرأة الرجال شبه العراة المفتولين.. بعضلاتهم النابضة .. وهم يهاجمون النمور في الغابات المطيرة .. او يعتلون اشجار الجوز بمهارة القردة ..وفيما كان يطلعها على صورهم في الغابات من كراس ملون .. اصبح خلف ظهرها وهو يشير ثم بدأ جسده يحتك بجلدها .. بعدها امتدت يدان الى الكرتين وضغطتا برفق ..فتقدمت عنه ..). و حين غادر رسمت دائرة الموز ..
شعرت بامتعاض .. وغامت روحها ...وتذكرت حكاية اخرى : جثة على طبلة تشريح .. يذوب عنها الثلج .. فجأة يدخل عامل .. يراها.. فيجري راكضا , فزعا ,والناس خلفه .. توقعوه فارا من ردهة الامراض العقلية .. ببجامة بازة برتقالية مخططة وشعر اشعث حسير وسمرة جسد وطول مع نحول .. كان يجري مشمرا ذراعيه يعتلي السلالم ... رآه الطبيب فاستوقفه :((انها جثة تخلى عنها الثلج.. ما بك اجريت الناس خلفك ؟! )).. قالها الطبيب وهو يبتسم .وتخيلت خمسين جثة على ساحل مغطاة بالثلج , تنهض واحدة تلو الاخرى بنسق يتقدم نحوها فجفلت حتى نادتها ام زوجها : فهرعت اليها .
في اقاصي الليل تسمع الانفجارات من بعيد ... تكبر الاشاعات ...تتخيل نفسها وقد بتروها من قبضة العائلة وضموها لصبايا اسيرات لتشهد ملحمة السبي مقيدة بالحبال وتجري, متعثرة , تحت جمر السياط .. تتخيل فاجعة الاغتصاب ..<هل اتمكن ان لا استسلم > تحدث نفسها في اعلى مراحل الرعب ..<ساقاوم >.. <كيف سيستقبل نحري السكين ..>..تشعر بالبرد ترتعش تتهاوى على الفراش ..تضم اليها دمية طويلة الشعر شقراء .يمر في اعلى الغرفة تابوت كتب عليه بخط عريض (مها ) ..تفزع تضم وجهها بالوسادة .
سيعود زوجها بعد شهر .. تحن اليه تتمناه يقشر خوفها , يضمها , وفجأة تتذكر الافتراس في الفراش فتزداد هلعا .. وتنبض شرايين جبهتها .. تداهمها الحمى والتعرق والخواء ..
ايمكن للمنزل ان يكون محمية عن الجمال الفاتك ؟..والخوف عليها بسبب اسطورة الجمال الذي ابتليت به ..ان يكون مبررا للأسر بين جدران بيت يختنق ؟..هل تكون الدمى والطيور بديلا .. وانتظار زوج يمر ضيفا كل ستة اشهر عزاء؟؟..وان احتملت كل ذلك فكيف تحتمي من خوفها وسبيها المحتمل .. < انهم يقتربون >..
عبر الاثير .. تعرفت على نديم .. انه درزي من جبال لبنان.. يدرس الان علم النفس .. واستغرب من حالتها ... حين رأى انثى ممدودة ,ثلث جسمها حجبته الخصلات .. تغري جيشا من الزهاد بذلك الوضع السفاح .. شبه عارية ..اخبرته بفزعها من ليالي زوجها وانه بعد شهرين سيصل , وستندلع حرب الافتراس .. سيتركها بلا ارتواء .. كلما حاولت ان تتضرى معه , تذكرت ليلة العرس وانغلقت رغباتها واستبدلت بالخوف ..
سالها عن اصعب مشهد عاشته مع ادهم فاجابت : (دخل بغتتة وسحبني لحضنه , كنت في الثالثة عشرة ..واجلسني هناك .. وشعرت بان شيئا تحتي يكاد يرفعني ... فهربت صارخة )..
ــ انهم قربي فلا استطيع الارسال .
ــ اذهبي لغرفتك .
ــ لنا مدفأة واحدة توحد العائلة كلها .. غرفتي ثلج ..
ــ ......
ــ ان وصول زوجي قريب وانت خانك المفتاح وعجزت عن حل ازمتي ..لقد وعدتني ..
ــ قال ابي تعالي معنا حتى يصل زوجك فيوفر لك مدفأة .. انا الان في بيت اهلي ..
في احدى الليالي ارسلت اليه راغبة بالدفيء, كتبت :
ــ انا قرب زوجي ولو شعر سيذبحني .
وتمكنت لاول مرة ان تتفهم النشوة.. لم تشعر خلالها بالرعب .. ولم تمر بخاطرها الجثامين ..
في اليوم الثاني اغلق حسابها ولم تظهر علامة تشير اليها ..
بحث عنها نديم في مشاهد سبي الفتيات الصغيرات تسوطهن القذارة .. في احياء نسفت , في سجل العوائل التي انقرضت ..في تلال الحجر الذي افترشته جثامين الاطفال .. في الرحلات المدرسية المتخشبة .. تحت ركام الجسور المتهاوية .. في رماد الازقة .. في لقى المتاحف التي ابتلعها البحر .. في السماء الدهان .. في الاطراف التي انتشرت بديلا لأزهار القرنفل ..في الاف التوابيت ..في الاسماء المشابهة .. في البساتين المجرفة .... في الاثار المنسوفة .....لكنه لم يعثر لها على اثر ..
في عاصفة الخراب .. حين تعوّل السماء بمصهور الحديد ملفعا بغابة من الرماد عبثا يبحث الانسان عن الانسان .. لقد مسخ الجمال ..وضاع .
التوابيت والفزع وحدهما يتصدران .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في