الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفكر السياسي عند فلاسفة اليونان

صلاح الدين ياسين
باحث

(Salaheddine Yassine)

2022 / 10 / 22
السياسة والعلاقات الدولية


لقد استندت "التجربة الديمقراطية" في أثينا إبان العصر الذهبي للحضارة اليونانية إلى جملة من المرتكزات الفكرية والقيمية التي جسمت روح وجوهر المدينة اليونانية، وفي مقدمتها الديمقراطية التي عنت في تحديدها الأصلي عند اليونان: "حكم الشعب للشعب"، وقد جرى تجسيد هذا المبدأ فعليا في الدور الذي كانت تضطلع به الجمعية العامة للشعب، وهي الهيئة التي كانت تتمتع بصلاحيات تشريعية وقضائية مطلقة، في ظل ضعف السلطة التنفيذية العاجزة عن موازنة سلطاتها، وهو ما يمكن تفسيره بسعي الأثينيين التواقين إلى الحرية لتحصين النظام والقانون، وبالتالي درء خطر الاستبداد والحكم الفردي.
ومن بين أهم الدعامات التي ارتكزت عليها تجربة أثينا الديمقراطية نذكر المساواة السياسية، والتي تم التعبير عنها بنموذج المساواة أمام القانون (isonomia)، والذي كان يضمن لجميع المواطنين (باستثناء العبيد والنساء مما يُبرز مثالب تلك التجربة ومحدوديتها) حقوقا متساوية في المواطنة والمشاركة العامة.
كما أن تلك المساواة لم تقتصر على البعد السياسي، وإنما شملت أيضا حدا أدنى من المساواة الاجتماعية. فعلى الصعيد الفكري، برزت مذاهب جماعية وشيوعية (بالمفهوم التقليدي لا الماركسي الحديث) تمحورت مطالبها حول المناداة بمشاعية الأملاك، وكان من أبرز منظريها الفيلسوف أفلاطون وإنْ لم تتجاوز نطاق اليوتوبيا. أما من الناحية العملية، فقد حرصت المدينة اليونانية على ضمان توزيع عادل للموارد والخيرات، وذلك بحض الأغنياء على البذل والتضحية في سبيل المدينة، حتى تتمكن من تحاشي الاضطرابات الاجتماعية التي قد تعصف بها، ولكي تؤمن قاعدة واسعة وصلبة من الأنصار والمؤيدين كفيلة بضمان استمراريتها وديمومتها.
غير أن تجربة أثينا "الديمقراطية"، وإنْ استندت إلى تأييد واسع من لدن سكان المدينة والنخبة الفكرية على السواء، فقد كان لها أيضا نقادها ومعارضوها، بحيث نبعت تلك الانتقادات أساسا من الفئات التقليدية، وعلى وجه الخصوص طبقة الأرستقراطية ذات المنزع الأوليغارشي، ومُلاك الأراضي في الريف الذين كانوا يتبرمون من ديمقراطية تخدُم أساسا مصالح البرجوازيين من التجار والحرفيين والملاحين والبروليتاريا الحضرية (طبقة الكادحين)، فيما كانت تشكل إسبارطة، ذات النظام العسكري الصارم والاقتصاد الزراعي، نموذجا ملهما لجانب مهم من تلك الفئات التقليدية.
وهكذا سرعان ما وجدت تلك الانتقادات والتحفظات صدى لها في الأفكار السياسية المتداولة خلال تلك الحقبة، حيث يمكن التمييز هنا بين نقد راديكالي جذري يروم نسف تجربة المدينة اليونانية والاستعاضة عنها بشكل مغاير من التنظيم السياسي (من أبرز رموزه أفلاطون)، ونقد معتدل توخى أساسا تصويب مسار التجربة وإمدادها بأسباب بقائها، عن طريق إقرار إصلاحات وتحسينات نوعية (على غرار أرسطو وإيزوقراط).
وفيما يتعلق بالطرح الأول، لم يألُ أفلاطون (427 – 347 ق.م) جهدا في نقد أثينا الديمقراطية، بل ومهاجمتها أيضا، على أساس أن نظامها يرتكز على حكم الغوغاء السوفسطائيين والديماغوجيين، الذين بدل أن ينيروا عامة الشعب ويحفزونهم على التحلي بالفضيلة، تجدهم يتلاعبون بمشاعرهم ولا يتورعون في تصوير الرذائل كقيم أخلاقية. وهنا تجب الإشارة إلى أن أفلاطون لم يوجه سهام نقده إلى الديمقراطية الأثينية فحسب، وإنما إلى جميع أنظمة الحكم القائمة لكونها لا تستند إلى قيم أخلاقية ثابتة (الخير، العدالة، الحق، الفضيلة...).
وترتيبا على ذلك يكمن الحل في نظر أفلاطون للقطيعة مع الأنظمة الفاسدة القائمة في إقامة مدينة عادلة وفاضلة، تتأسس على ثوابت أخلاقية في صورة مجتمع طبقي صارم، وتوزيع دقيق للوظائف والمهام بين الطبقات المختلفة، ذلك أن اضطلاع كل طبقة بالوظائف المنوطة بها قمينٌ بتجسيد المثل الأعلى للعدالة:
"لن تتكون مدينته من مجموعة سكان متجانسة، بل من ثلاث طبقات متميزة بوضوح يحقق تعايشها أو تساكنها ضربا من الكمال. فالأولى هي طبقة الرؤساء وفضيلتهم الخاصة هي الحكمة، والثانية هي طبقة المساعدين أو المحاربين المتصفين بالشجاعة، والثالثة هي طبقة الحرفيين أو الزراع، من أصحاب العمل والعمال على حد سواء، التي يطلب منها الاعتدال أو القناعة، أي التي يجب أن تعرف كيف تقاوم شهواتها. وبقول آخر، تمثل كل طبقة جانبا من النفس، وإن مجموع المدينة هو ما يمثل النفس كاملة".
بيد أن اختزال الإنتاج الفكري لأفلاطون في كتابه "الجمهورية" (la république) لهو ضرب من التبسيط والتسطيح، حيث أصدر أفلاطون مؤلفا آخر لا يقل أهمية عن سابقه، وهو الموسوم ب "القوانين" (les lois)، والذي قام بتأليفه في مرحلة الشيخوخة وتوفي قبل إتمامه. ويُستشف من هذا الكتاب مدى النزعة الدينية الصارمة التي تَسلح بها أفلاطون في نهاية حياته، مؤكدا بأن القوانين تستمد وجودها من أصل إلهي، كما دعا إلى محاربة الإلحاد والهرطقات بحزم وشدة.
وعطفا على ذلك، بدا أفلاطون أقل نزوعا إلى الطوباوية في كتابه هذا قياسا إلى مؤلفه الأسبق (الجمهورية). فبعد انشغاله بالبحث والتنقيب في تاريخ الحضارة منذ بدء الخليقة، انتهى إلى خلاصة مفادها أن أكثر أنظمة الحكم استقرارا نظام الأرستقراطية الزراعية الذي يتكون من عدد محدود من المواطنين، المتمتعين سواسية بالحق في التملك والحقوق السياسية الأخرى (وهو بذلك كان يشير ضمنيا إلى نظام إسبارطة)، كما دعا إلى عزل تلك المدينة عن البحر لتلافي أي توجه تجاري بوصفه عاملا مزعزعا للاستقرار، وقصر الأنشطة الاقتصادية والأعمال اليدوية على العبيد وغير المواطنين.
وفي مقابل طرح النقد الجذري للمدينة اليونانية (polis)، ومحاولة تأسيس تنظيم سياسي متخيل قائم على أسس فلسفية طوباوية صريحة، نجد في الجهة المقابلة نقدا إصلاحيا معتدلا وأكثر التصاقا بالمعطيات الواقعية، لعل من بين أهم رموزه "إيزوقراط" (436 - 338 ق.م)، والذي وضع بعض المقترحات بغية تقويم الديمقراطية اليونانية وتشذيبها، وإنْ لم يكن خافيا انحيازه للطبقة الأرستقراطية ودفاعه عن مصالحها وتوجهاتها:
"ويقترح إيزوقراط، على أساس المساواة أمام القانون isonomia، قوام الديمقراطية الذي لا يناقَش، أن يرد إلى أولئك الذين يستحقون (= الأرستقراطية) ثلث نفوذهم في الدولة، وأن يلطف المساواة الحسابية بمساواة اصطفائية قد تعطي لكل حقه، وأن يُستأنف دور مجلس الحكماء الأرستقراطي، الذي سوف يسهر على صلاح النظام، وأن تحل الانتخابات محل القرعة في التعيينات... إلخ"
أما أرسطو (384-322 ق.م) فهو بخلاف أفلاطون، ظل مخلصا للمثل الأعلى للمدينة اليونانية، لكونها تضفي معنى على حياة الإنسان (الحيوان الاجتماعي) الذي يستعصي تصور وجوده اجتماعيا بمعزل عن المدينة. كما أن أرسطو نفسه انتقد جمهورية أفلاطون على أساس طوباويتها وعدم قابليتها للتطبيق، ناهيك بافتقارها للمضمون الإنساني (انتقد أرسطو بشدة مشاعية النساء والأموال، والتقسيم الطبقي الصارم الذي اقترحه أفلاطون...)، لذا نجد بأن الأفكار السياسية لأرسطو قد صدرت من خلفية عملية وبراغماتية لا يشوبها أي تلبيس طوباوي.
ومن هذا المنطلق، حرص أرسطو على القيام بدراسة وصفية وموضوعية للدساتير (أو أنظمة الحكم) الموجودة، الأمر الذي حدا به إلى التمييز بين ثلاثة أنواع من الدساتير: الدستور الملكي، الدستور الأرستقراطي، الدستور الديمقراطي.
وهكذا يخلص أرسطو إلى أن أفضل دستور ممكن هو الدستور المختلط، والذي يصفه أيضا ب "الدستور الحقيقي" أو "الدستور السياسي"، حيث تمتزج فيه عناصر ديمقراطية (من خلال الحفاظ على مبدأ الأكثرية)، وعناصر أرستقراطية (عن طريق إقرار ضريبة الاقتراع)، ذلك أن أرسطو كان من أشد المدافعين عن حكم الطبقة الأرستقراطية، بوصفها الضامن الأساسي للاستقرار والتوازن الاجتماعي، لما تضطلع به من دور الوساطة بين الأغنياء والفقراء، إلى جانب إخلاصها للقوانين وإيمانها الشديد بالمصلحة العامة.
وعلى وجه العموم، فقد عاشت المدن اليونانية، وفي القلب منها أثينا، عصرها الذهبي ابتداء من القرن الخامس ما قبل الميلاد، إذ جهدت في إرساء أسس حضارة هيلينية ما تزال آثارها الفكرية والفعلية بادية إلى يومنا هذا. غير أن تلك الحقبة التاريخية لم تدم لأكثر من قرن واحد، فقد شكل الغزو المقدوني بقيادة فيليب الثاني لأثينا (حوالي العام 338 ق.م)، والذي كان إيذانا بدخول اليونان العصر الهلنستي (من القرن الرابع إلى القرن الثاني ق.م)، علامةً على انحطاط المدينة اليونانية التي فقدت حريتها وهويتها المميزة بعدما استوعبتها إمبريالية مترامية الأطراف.
وأمام عجز الفكر السياسي الهيليني عن مسايرة الظروف الواقعية الجديدة المتمخضة عن الغزو المقدوني، كان لا بد أن تبزغ رؤية فلسفية وفكرية جديدة تشغل الفراغ القائم في الساحة الفكرية، ومن هنا يمكن فهم ظهور الفلسفة الرواقية لرائدها زينون (334-262 ق.م)، والتي وفرت المشروعية للوضع السياسي الناشئ بحكم رؤيتها الكونية والشاملة، القائمة على مفهوم المواطنة العالمية، والتي تجسد نقيضا موضوعيا لشكل التنظيم السياسي السابق الذي كانت تجسده المدينة اليونانية والأفكار المنبثقة عنه.
*مراجع:
جان توشار، تاريخ الأفكار السياسية، الطبعة الأولى، ترجمة: ناجي الدراوشة، (دمشق: دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، 2010).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي