الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التمثيل النسبي للإرادة العامة

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2022 / 10 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


أنت لست مضطراً لأن تصنع باب بيتك بنفسك. يمكنك ’استئجار‘ نجاراً محترفاً يصنعه لك بدلاً منك؛ ولأن هذه هي مهنته، فهو بالتأكيد سيعطيك منتجاً أفضل صنعة وجمالاً واتقاناً مما كنت ستصنعه بيديك. علاوة على ذلك، ولأن النجارة ليست مهنتك، هو سيوفر عليك الجهد الذي كنت ستنفقه في عمل لا تتقنه لكي تدخره لما أنت ماهر فيه حقاً. هذه من جميع الأوجه صفقة رابحة، لك وللنجار الذي استأجرت. وأنت حين ’تستأجر‘ هذا المهني المحترف لكي يصنع لك باباً لا تفرط في شيء من أرادتك الحرة. أنت الذي أردت وقررت أن تصنع باباً لبيتك، واخترت بإرادتك الحرة هذا النجار بعينه، لكي يصنع لك شيئاً اخترته بالمقاسات والمواصفات التي ترغب، وفي حدود السعر الذي تقدر عليه. أنت هنا ’تفوض‘ هذا الحرفي لكي يقوم بعمل لك نيابة عنك بدلاً من أن تقوم به أنت بنفسك، لسبب بسيط للغاية أنه أكثر منك مهارة فيه، ومن ثم سيكون المنتج النهائي أكثر جدوى لك من جميع النواحي. أكثر من ذلك، عندما يسيء هذا النجار لبنود هذا ’التفويض‘ من طرفك ويخرج عن حدود الاتفاق بينك وبينه، يمكنك بسهولة سحب التفويض وإنها التكليف والبحث عن نجار آخر. إرادتك الحرة معك من بداية العملية حتى نهايتها، والنجار ليس أكثر من ’مستأجر‘ لديك وفقاً لبنود اتفقتما عليها من قبل التكليف وإسناد والمهمة.

في المجموعات البدائية الصغيرة، يستطيع المرء أن يبني كوخه الصغير بنفسه، ويصنع له باباً وشباكاً وأثاثاً، ويحضر له الماء ويجهز له الصرف، ومستلزمات النوم والأكل والشرب واللبس وخلافه بنفسه من دون حاجة لأكثر من أهل بيته لمساعدته. كما يستطيع بمساعدة من أفراد المجموعة الصغيرة تمهيد الطرق لسير حيواناتهم، وشق الترع والقنوات بسواعدهم، وحرث الأرض وزراعتها وحصادها بالتعاون معاً. كل ذلك أمور شائعة ولا تزال قائمة حتى اليوم في كل دول العالم، لكن وسط مجموعات صغيرة منعزلة في الأدغال أو القرى والعزب والكفور. لكن الأمر يختلف كثيراً حين تنضج هذه المجموعة الصغيرة وتتحول إلى مدينة، حيث يصبح التخصص ضرورة لا غنى عنها. هذا التخصص المهني شرط أساسي لقيام المدينة وبقائها وازدهارها، ومن دونه يتحلل كيانها حتماً إلى مجموعات صغيرة منعزلة كتلك القائمة قبل نشأة المدينة. فحتى تتحول الأكواخ إلى عمارة متعددة الطوابق والغرف، والطرق من ممشى لعدة أميال إلى شبكة عملاقة توحد كل أرجاء المدينة والدولة، وقارب الصيد الصغير إلى سفينة عملاقة تجوب البحار المحيطات، وبضعة فؤوس أو نبابيت محمولة بالأيدي لأغراض الدفاع وحماية النفس والعرض إلى جيش جرار حسن التنظيم والقيادة والتسليح، كان لابد من التخصص. باختصار، لا قيام لمدينة ولا ازدهار لحياة المدينة من دون أن يتخصص أهلها كل فيما هو أهل له، في الحرفة أو المهنة التي يتقنها، وكل منهم ’يستأجر‘ خدمات الآخر الأكفأ منه، لا أن يتولاها بنفسه.

إشكالية الحكم لا تظهر سوى في الجماعات، الكبيرة الحجم على وجه التحديد. فالمجموعات البشرية الصغيرة المنعزلة ليست في الأصل بحاجة إلى من يحكمها، لأن أفرادها ببساطة يحكمون أنفسهم بأنفسهم بشكل مباشر وليسوا في حاجة لاستئجار أحداً لكي يحكمهم، تماماً كما لا يستأجرون أحداً لكي يبني لهم بيوتهم أو يزرع لهم حقولهم أو يصنع لهم مستلزماتهم. ومن ثم لا تواجه إشكالية في هذه الناحية. الحكم حاجة اجتماعية، بمعنى أنه لا ينشأ سوى في مجتمع ولا تكون له ضرورة أو غاية سوى في مجتمع. والمجتمع لا يقوم ولا يدوم ولا يزدهر من دون نظام حكم بشكل أو بآخر. وقد رأي أفلاطون في الحكم إشكالية لأنه في المقام الأول كان يعيش وسط مجتمع، مدينة أثينا. ولو كان يعيش حياة منعزلة وسط مجموعة صغيرة في إحدى القرى الإغريقية النائية، ما كان من الأصل قد طاف في خياله قط إشكالية تدعى ’الحكم‘. هذه الإشكالية هي بنت الحياة المدنية، وهي ضرورة لبقائها. لكنه، من ناحية أخرى، حين تطرق بالتأمل في هذه الظاهرة نظر إليها من نظرة القروي البسيط الذي يتولى كل شئونه بنفسه، وليس ابن المدينة الذي ’يستأجر‘ المختصين ليقوموا نيابة عنه بما لا يستطيع القيام به بنفسه، بشكل أكثر اتقاناً وحرفية واقتصاداً وجمالاً ونفعاً ألف مرة مما كان سيفعله. القرية لا تحتاج لنظام حكم من أجل بقائها، لكن المدينة لا يمكن أبداً أن تستغني عنه.

وإذا علمنا أن أفلاطون كان متفرغاً للتأمل والكتابة والشرح والتدريس لطلبته في مدرسته بأثينا، لاستنتجنا أنه نفسه لابد قد ’استأجر‘ حتماً البنائين والنقاشين والنجارين وغيرهم في بناء بيته ومدرسته، وإيفاء الكثير من مهامه الحياتية الأخرى نيابة عنه حتى يتفرغ لعلمه بهذا الشكل، ولتتساءلنا بدهشة: كيف لم تخطر بباله هذه الخطوة السهلة والبسيطة والمنطقية للغاية من ’الاستئجار‘ إلى ’التفويض‘ بواسطة الإرادة الحرة؟! فكما يستأجر النجار ليصنع له باب بيته، يستطيع كذلك أن يستأجر المشرع المحترف الذي يختاره لكي يعبر عن رأيه وينوب عنه في مناقشة وسن القوانين، والسياسي المخضرم الأكفأ منه بالضرورة في فن الحكم ليتولى مناصب الحكم والقيادة نيابة عنه. كانت معطيات نظريته عن الديمقراطية المباشرة صحيحة، لكن نتائجها في الواقع كارثية. كل ما كان عليه هو أن يستبدل صفة "المباشرة" بصفة "النيابية"، بمعني أن الرجل الحر ذو الإرادة الحرة ليس بالضرورة لكي يبقى حراً أن يمارس التشريع والحكم بنفسه مباشرة، وأنه عندما ’ينيب‘ من يشرع ويحكم نيابة عنه وفق شروط محددة ومتفق عليها لا ينتقص من إرادته الحرة شيئاً. لكن مثل هذا الاستنتاج المنطقي البسيط والسهل للغاية استعصى على عقلية حتى بحجم أفلاطون، بل واستغرق آلاف السنين الطويلة من الزمن قبل أن يهتدي إليه البشر ويطبقونه داخل ما نسميها اليوم مؤسسات الديمقراطية النيابية التي تجسد الإرادة العامة من خلال آلية الانتخابات. لماذا استغرق الأمر كل هذه الآلاف الطويلة من السنين؟!

إلى أن يتبلور مفهوم ’الاستئجار‘. كانت مدينة أفلاطون تقوم بالأساس فوق نظام الرق والعبودية، الذي استمر سائداً ومعمولاً به في كل مدن الدنيا طوال هذه الآلاف الطويلة من السنين بعد زمن أفلاطون. وفي ظل ’العبودية‘ لا يوجد ’استئجار‘، بل سخرة قائمة على علاقة الاستعباد وليس الاستئجار. في قول آخر، كان أفلاطون يبني نظريته عن الديمقراطية والإرادة الحرة وسط مجتمع أغلبيته العظمى من العبيد ومنعدمي الإرادة. وكانت العبودية بمثابة الثقب الأسود في ديمقراطية أفلاطون وجعلتها تصلح لليوتوبيا أكثر منها لعالم الواقع. لكن، رغم كل شيء، تبقى كل ديمقراطيات اليوم تدين لأفلاطون بالفضل لأنه، ولو في وسط مجتمع أغلبيته من العبيد، كان أول من أصل لمفهوم "الإرادة الحرة"- النواة الصلبة التي تأسست فوقها كل النظريات والممارسات الديمقراطية خلال العصور اللاحقة لأفلاطون وحتى يومنا الحاضر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قميص -بركان- .. جدل بين المغاربة والجزائريين


.. مراد منتظمي يقدم الفن العربي الحديث في أهم متاحف باريس • فرا




.. وزير الخارجية الأردني: يجب منع الجيش الإسرائيلي من شن هجوم ع


.. أ ف ب: إيران تقلص وجودها العسكري في سوريا بعد الضربات الإسرا




.. توقعات بأن يدفع بلينكن خلال زيارته للرياض بمسار التطبيع السع