الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بخطى طليقة - الأمن

عصمت منصور

2022 / 10 / 23
أوراق كتبت في وعن السجن


قبل ان تتشكل التنظيمات داخل السجون، وقبل بلورتها واحتلالها الحيز القيادي وتحولها الى الرافعة الأساسية القوية والمسيطرة التي استند اليها الأسرى في نضالهم اليومي، كانت الحاجة الى الأمن غريزية وفردية، تقتصر على أن يحتمي الاسير الضعيف أو الأقل شأنا، بشخص آخر قوي جسديا، أو أن يلوذ إلى جماعة تجمعه بها روابط قبلية أو جهوية أو شللية، أو تشكيل عسكري ما.
بعد ان تبلورت مؤسسات وأطر الحركة الأسيرة، وفي مواجهة إجراءات مديرية السجون التي لم تسلّم بالأمر الواقع، وإزاء سعيها الدائم الى إعادة الوضع الى الوراء وتفتيت الأسرى، ولجوئها الى زرع بذور الفرقة، واستغلال التناقضات الداخلية بين صفوف الاسرى، وزرع العملاء بينهم، برزت الحاجة الى إيجاد جسم داخلي سري يتولى مهمة حماية التشكيل الجديد من الاختراقات، والتنبه لمخططات مديرية السجون، بالإضافة الى تشكيل ذراع قوي ضارب لردع كل حالة تتحدى المنظومة القائمة.
.بالاستناد إلى الوثائق الاعتقالية من تلك الفترة، نكتشف وجود جسم حقيقي ومركزي تميز بأنه منظم جدا، ذو سطوة وهالة أضفتها عليه طبيعة المهام التي تولاها، والسرية والمسائل الحساسة التي أخذ على عاتقه التعامل معها، بالإضافة الى الأساليب العنيفة والقسوة التي اتبعها، والصلاحيات شبه المطلقة التي تمتع بها، ولكونه جسما شبحيا على درجة عالية من المركزية والتنظيم، لا تكاد تشعر بوجوده، لكنه يحيط بك ويلتف حولك اينما ادرت وجهك.
في تعريفهم للجهاز الأمني اعتبره الأسرى "الدرع الواقي والذراع الحامي للجسد الاعتقالي"، ولكن ولأن هذا الدور لم يكن ليكتمل بالوسائل التقليدية، ونشر العناصر الأمنية في صفوف الأسرى لجمع المعلومات، أضيف الى تعريفه أنه "جهاز تربوي تثقيفي يسعى الى إعداد جيل واعٍ قادر على حماية نفسه" .
هذا الوعي للمخاطر التي تهدد الجماعة والتي لا يمكن اختراقها الا من داخلها ومن خلال أفرادها أنفسهم، أعطى للأمن ومن يقومون عليه قدسية خاصة وحصانة منيعة، نتجت عنها أخطاء كثيرة في البدايات وبقيت ترافقه الى ان تصلب عود المؤسسات الاخرى وزادت أهميتها مع تنامي حالة الوعي والثقة بالنفس، بحيث وضعت مجموعة محرّمات وقيود وضوابط أدخلت نوعا من التوازن في أداء المهمات وترتيب أولوياتها، وهو ما تطلّب مع مرور الزمن إضعاف هذه المنظومة رويدا رويدا وصولا الى الصورة التي انتهت إليها في أواسط التسعينات من القرن المنصرم، والتى أفضت الى حل هذه الاجهزة الأمنية، وإيقاف عملها، ومنع التحقيقات الداخلية والاكتفاء بتسجيل الملاحظات وإعداد الملفات وإيصالها الى مرجعيات وطنية وتنظيمية خارج المعتقلات، وذلك في ضوء تزايد الشكاوى من حدوث أخطاء، ووقوع انتهاكات داخلية والتنبه إلى حقوق الأفراد وعدم إهمالها ودوسها في سبيل حماية الجماعة، وأخيرا بسبب انتشار ثقافة حقوق الانسان والعمل المؤسساتي تحديدا، بسبب تزايد أعداد النخب المثقفة وتطور التجربة من الداخل وعدم استساغة فكرة إخضاع شخص للتحقيق والتعذيب دون رقابة محايدة وجهة اختصاص.
كلما تقدم الأسرى نحو الأمام، وطالت سنوات اعتقالهم وتراكمت خبراتهم، قلت اخطاؤهم وأصبح عملهم اكثر تركيزا ونجاعة.
بعد ان عرف الأسرى جهاز الأمن الاعتقالي، وحددوا له مهمات أمنية تعبوية تثقيفية وميدانية، اكتشفوا أن مثل هذه المهمات تحتاج إلى جسم حديدي الانضباط وغاية في السرية، ويضم بين صفوفه معظم إن لم يكن كل الاسرى، وهذا يتطلب بنية وآليات عمل ممكنة وناجعة بعيدا عن عين الاحتلال.
لقد تم تجنيد كل أبناء التنظيم وإمكانياته في خدمة جهاز الأمن الاعتقالي الداخلي، بحيث أصبح كل أسير مطالبا، بان يكتب تقريرا يوميا أو اسبوعيا حول كل ما يتعرض له أو يدور حوله او يشاهده، ثم يرفعه إلى لجنة تتولى مهمة دراسته وتلخيصه ورفعه الى مسؤول عنها يشرف على عملها ويتولى مهمة تنفيذ توصياتها.
مسؤول اللجنة الأمنية المركزي كان يشرف على مسؤولي فروع وأقسام أخرى أدنى منه، ويتولى عملية الربط بينها ونظم حركتها بحث كانوا يشكلون معا الإطار المرجعي الذي يقر العقوبات، وكيفية التصرف إزاء كل حالة عينية، والتأكد أن هناك ملفا أمنيا مكتمل الأركان، وفيه إدانة واضحة قبل اتخاذ أي خطوة عملية.
الملف الأمني مصطلح خطير ومرعب لان مجرد وجود ملاحظة أمنية وملف أمني للأسير، كان يعتبر أمرا مخيفا، ويشكل إدانة مسبقة تضع صاحبها في دوائر الشبهة.
حالة الرعب التي رافقت عمل أجهزة الأمن الاعتقالية في بداية فترة الاعتقال، جعلت إعداد الملف الأمني للأسير مهما احتوى من معلومات، ومهما كانت درجة خطورتها مسألة في غاية الحساسية، وقد أصبح الامر خطيرا بشكل خاص عندما تبين ان هناك ملفا يحتوي ملاحظة ما ضد كل أسير تقريبا، لذا تطلب الامر وضع ضوابط ومعايير والتمييز بين أنواع الملاحظات ووزنها ودرجة خطورتها.
لم تعد المعلومة المجردة ذات قيمة، بل بات من الضرورة بمكان إرفاق كل معلومة بمصدرها الأول، لا بل مكان وساعة حدوثها وتسجيلها ونقلها والأشخاص الذين اطلعوا عليها، مع تفاصيل وافية عن الشخص وقريته وسيرته ومستواه التعليمي ومصداقيته ونقاء سجلّه من اي شوائب ومدى تكرار الملاحظة.
الوعي المتزايد بضرورة تنظيم عمل الأجهزة الأمنية الداخلية، وتقييد صلاحياتها واتخاذ تدابير صارمة لم تكن تحظى بالمكانة المطلوبة، ولا تحولت الى ثقافة عامة اذ كانت تنهار عند حدوث اختراق جديد او تسجيل مديرية السجون لانتصار يكون سببه تسريب معلومات من بين صفوف الأسرى.
لذا، وعلى الرغم من الضوابط المشددة في إعداد الملف الأمني، كانت المعلومات والملاحظات غير الموثقة والمشكوك في مصدرها، تعود الى الواجهة وتتحول الى سبب للإدانة في بعض الحالات، وخاصة أثناء الأزمات وفي فترات التصعيد حيث كانت ترتفع مكانة واهمية الأمن ليصبح هدفا بحد ذاته وغاية.

تعتبر التجربة الأمنية داخل السجون واحدة من أكثر الصفحات والفصول تعقيدًا وغموضا وإثارة للجدل، ذلك ان القائمين عليها ابتدعوها تحت ضغط الحاجة، وفي ذروة صراع يومي يدور في مكان يفترض أنه يضم أشخاصا قدموا تضحيات كبيرة، وتقدموا صفوف النضال، وأي مساس بسمعتهم سيترتب عليه المسّ بمجتمع كامل، وسوف تترتّب عليه تداعيات معنوية سلبية، وخسارة صافية من نخبة النخبة المجربة والموثوقة.
ولكن في ذات الوقت فإن هذه الجماعة، ولانها تمتعت بهذه الصفات واحتلت هذه المكانة، كانت مستهدفة أكثر من غيرها، وكانت تتعرض للاختراقات بشكل متكرر وهو ما تطلب اتخاذ إجراءات متطرفة أحيانا وعنيفة في أغلب الأوقات، من أجل حماية نفسها، ليست لذاتها بل للدور الذي أخذته على عاتقها كونها أصبحت تنظر إلى نفسها على أنها جزء من ثورة تسجل الإنجازات وتحقق انتصارات وتسعى إلى تحقيق تطلعات واهداف سامية.
ستبقى هذه الصفحة تحفل بالغموض ولن يستطيع أحد أن يقيم مدى مساهمتها الإيجابية أو الدور السلبي الذي لعبته، وأية أضرار الحقت تجاه الأفراد أو الحالة العامة وإن كانت ركيزة في تطور الحركة الأسيرة، أم وصمة وبقعة مظلمة خاصة في المراحل الأولى من تجربة الاعتقال؟
ان تقييم هذه التجربة، و تقييم مساهمتها يحتاج إلى فتح ملفات كثيرة و قراءة تجربة ذات خصوصية عالية اجترحت أساليبها في ظرف معقد ومحاط بأجواء معادية واستثنائية. ‏
كثيرا ما أدى الخلط بين المشاكل والأزمات الاجتماعية، وما بين المشاكل والأزمات ذات الطابع الأمني و خاصة في ظل التركيز على المواجهة والهوس من الاختراقات، إلى الدخول في صراعات داخلية ووقوع ضحايا وارتكاب أخطاء دفع ثمنها اسرى أبرياء مات بعضهم أو لطّخت سمعتهم للابد، خاصة في ظل انعدام حالة رقابة حقيقية، وفصل بين السلطات ومتابعة وشفافية.‏
عندما تكون هذه الأجهزة محاطة بهذه الهالة المرعبة، وعندما تمارس دورها وتنشط في ظل حرب وحالة استهداف يومي ومتواصل، وتكون الإمكانيات بسيطة وتكون عملية التواصل الذي يفترض أن يكون القناة التي تمرر عبرها المعلومات والأوامر والتوجيهات بطيئة، وربما أحيانا معدومه‏ سواء بين الفصائل المختلفة او الفصيل الواحد في السجن الواحد أو في سجون مختلفة، فإن هذا يجعل الأخطاء واردة خاصة ان الأمن لم يكن حكرا على تنظيم واحد، بل كان لكل تنظيم جهازه الأمني الداخلي الخاص به وأيضا كان هناك تفاوت في وعي كل جهاز أمني، وطرق وأساليب عمله سواء بين تنظيم وآخر، وحتى بين سجن وسجن آخر، وأحيانا أن كانت هذه الأجهزة تعمل بشكل منفصل ودون أن تنسق فيما بينها، بل إنها وفي مراحل معينة كانت تعيق عمل بعضها البعض إلى أن استقر الحال بايجاد إطار تنسيقي يضم ممثلين من كل الفصائل لتقليل الاخطاء، وضمان عدم التعارض فيما بينها.
لا ينكر أحد أن الأمن شكل درعا داخليا حيويا ومهما، ليس من السهل الحكم عليه لكن ربما سيستغرق وقتا طويلا قبل التعرف بشكل أفضل على مساهمة الأمن في واحدة من أنجح تجارب النضال الجماعي التي خاضها الشعب الفلسطيني داخل سجون الاحتلال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة مندوب دولة الإمارات في الأمم المتحدة |#عاجل


.. فيتو أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة




.. الجزيرة تحصل على شهادات لأسيرات تعرضن لتعذيب الاحتلال.. ما ا


.. كيف يُفهم الفيتو الأمريكي على مشروع قرار يطالب بعضوية كاملة




.. كلمة مندوب فلسطين في الأمم المتحدة عقب الفيتو الأميركي