الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الضوء الأحمر/ لمحة نقديّة

ريتا عودة

2022 / 10 / 24
الادب والفن


قصة الضوء الأحمر: ريتا عودة/ فلسطين
الناقد: عبد الستار نور علي/ العراق

حين يترجل الشعر عن عربة ابوللو عند زقاق السرد؛ ليقوم بجولة استطلاعية بصرية في زوايا الزقاق، داقا أبواب الأحداث، لتطل برؤوسها، وتحدق فيه عميقا، وتلقي رحالها في بصره، لينظر بعينين: احداهما عالمه الداخلي العبقري (نسبة الى وادي عبقر)، والثانية الحدثي (عالم القصة/السرد) يكون فيهما الاثنان الفين يسيران معا، وهما يحدقان في الوقائع اليومية بمنظار مزدوج: سردي بخيال شعري يطل برأسه. فيكون السرد متكامل البناء حدثيا وغاية مرسومة باطار حسي مشاعري يمنح القصة لونيه الفنيين: حكاية/حبكة، ولغة مسبوكة بخلفية متينة تمنح القصة حرارة وشدا للقارىء. القصة هذه، وما اتيح لي من قراءة عدد من المجموعة القصصية التي تنتمي اليها، هي حكاية من حكايات المعاناة اليومية في الواقع الذي تعيشه ريتا عودة، ذاتيا وجمعيا، أي المشاعر الخاصة كانثى وما تعانيه حسيا وحياتيا داخل واقعها المحيط، وجمعيا داخل واقع عام له اثره البالغ في المجتمع فردا وجماعة بشرية والظروف التي تعيش فيها وتعاني منها. وكل ذلك بلغة تنحت في باطن الساردة لتستخرج مكامن المؤثرات الشعورية والضاغطة نتيجة الواقع المحيط المعاش يوميا، من دون الأثر من مباشرة جامدة في الحكاية التقليدية. وهنا مكمن توهج القصة وفنيتها التعبيرية. يشعر معها القارىء النبيه بعدم طغيان الحكاية كأحداث فحسب وانما كمشاعر أيضا، أي ليس جمودا حدثيا وإنما حركة ديناميكية حدثية لغوية تعبيرية تصويرية، من خلال الخيال واللغة والخلفية القصصية لمنح الغاية من الحكاية شحنة مؤثرة جاذبة لمعايشة القارىء لإحداث الأثر المطلوب.
من خلال متابعتي لقصص الساردة الشاعرة ريتا عودة وتاريخ كتابتها أجد أنها في بداياتها الاولى هذه قاصة يمتزج في قصصها الخيال واللغة الشعريان بالحكاية والحبكة القصصية. وحتى في قصائدها هناك نفس سردي واضح. وفي هذا دليل موهبة أدبية عالية متلونة بالوان الفن الجمالي. ولا اقدم دليلا او شهادة، وإنما هو تحصيل حاصل. والمكتوب باين من عنوانه!

*
*
*
*
*
*
*

القصة

الضَّوءُ الأحمَر

- "احْذَري!"
صرخَ الشُّرطيُّ، ثمَّ ابتسمَ ابتسامةً مدروسَة، وتابعَ:
- "لا يمكنُكِ اجتيازَ الشّارع والضَوء أحمَر!"
دهِشْتُ! كيفَ استطاعَ أنْ يبتسِمَ ولو مرّة؟! ترَاهُ مَلَّ مُلاحَقتِي بغراماتِهِ الماليَّة، أم أنّهُ أدركَ أنّي لا أملكُ ثمنَهَا، أم أنَّه اقتنعَ أخيرًا أنَّ الضَّوْءَ الأحمرَ لَيْسَ إلاّ قَانونه هوَ؟
= حسنًا.
هتفتُ وأنا أخفي راية النّصْر خلفَ شفتَيَّ. أخذتُ أستعدُّ لاجتياز الشَّارع ثانيةً، لكنّهُ لمْ يتحرَكْ. لمْ يَستعدّ للّحَاق بي. أصبحَ يعرفُنِي جيِّدًا. يعرفُ أنِّي أرفُضُ أنْ أطيعَ أوامِرَهُ ويظنُّ ذلكَ لكونِهِ رَجُلاً. لكي أستَفِزَّ غضَبَهُ قررْتُ ألاّ أعبُرَ الشّارع. قرّرتُ أنْ أصلِبَ نظراتِهِ فوقَ خُطواتي؛ ستعبُر. لنْ تعبُر!
بدأتُ أبحثُ عنْ أيّ شيء يثيرُ فضولي. لاحقنِي صوتُ امْرَأةٍ تؤكدُّ على الهاتف: "لا تَتَأخَّر!"
ارتفعَ صوتُ شابٍّ منْ خلفي: "تفضّلي". ترَدَّدْتُ، فهتفَ: "ألا تريدينَ استعمالَهُ؟". تملّكتني نوبةُ ارتباك. أُريدُ أن أتحدثَ إلى أيّ كانَ، لكنْ مَنْ يسمع؟ فجأة، اقتنصَتِ الفرحةُ غاباتِ أفكاري: لماذا لا أطلبُ أيّ أرقام فأتحدثُ إلى أيّ كانَ؟ أجبتُ بكبرياء: "نعمْ سأتحدثُ فهلْ تمانع؟". لمْ يكتَرثْ لقولِ لا أو حتَّى نعم. فرَاغ. مجرّدُ فرَاغ يفصِلُ بينَ البشر. مجرّدُ مسافات لا يُمكنُ لإنسَان اجتيازها. ابتعدَ ربما ليبحثَ عنْ هاتفٍ آخَر فِي مكان آخر. لا يمكنهُ الانتظار ولو لحظة. قلَق. أرَق. إرهاق يأكلُ وقتَهُ، بل وقتَ جميع شبابنا. لماذا؟ تساءلتُ وأنا أخْنِق غصَّةَ ألَم في حلقي. ألأنَّ أحلامهُم مكبوتة؟
نظرَ إلى الضّوءِ بإمعانٍ، ربما ليتأكدَ أنَّه ليسَ أحمرَ. ثمَّ اجتازَ الشّارع كالبَرْق، وتركني وحدي أبحثُ عن شَيء يثيرُ فضولي. قبضْتُ على سماعَةِ الهاتفِ، وأخذتْ أصابعي النّحيلة تتحَرّكُ بنهَم فوقَ الأرْقام. زقزقَ قلبي. ارتفعَ صوتُ رجُلٍ (ما) يهمسُ بِتكاسلٍ: "ألووو". بَدَا لي من رائحةِ عَرَقِهِ عَبْرَ الهاتفِ أنّهُ أفاقَ لتوِّهِ من حُلم.
= مَنْ؟
تساءلتُ بلهفة، فصرخَ بعصبيّة:
- مَنْ يطلبُ رقمًا يُعَرّفُ نفسَهُ لا العَكْس.
= نعَم، ولكن بإمكاني تلفيق أيّ اسم لكَ. هذا ليسَ جوهرَ الموضُوع.
قالَ وهوَ يتثاءَبُ:
- مَا هوَ الموضوع إذًا؟ أنتِ تُعاكِسينَنِي!
= أنا لا أعرفُكَ.
- إذًا، عُذْرًا. سأقطَعُ المكالمة.
صرختُ مُتوسّلةً:
= لا. أرجوك.
صمتُهُ المُفاجئ أيقظ َعاصفةً مَا داخِلَ آباري فبدَأتُ أرَدّدُ بتوَسُل:
= ألو. ألو.
- حَسَنًا. حَسَنًا. قولِي ما عندَكِ بسرعة.
همسَ متأفّفًا ورائحة عَرَقِهِ تتمَلّكُني منْ جديد. أدركتُ أنّهُ ينتظرُ، ففرحْتُ لأنّي سأتمكنُ أخيرًا منَ التّعْبير عن مخَاوفي. أعلنتُ بحُرْقة:
= إنّهُ الملَلُ.
- ماذا؟
صرخَ مذهولاً، فَنُحـْتُ:
= المَلَلُ عدُوّي.
انتظرْتُ صوتَهُ يُضيءُ عتمةَ حواسّي. انتظرْتُ رائحةَ عَرَقِهِ تُخَدِّرُ صَمْتِي. انتظرْتُ صَرْخَةً كصرخاتِ الشّرطيّ تشْتمُنِي. انتظرْتُ. انتظرْتُ، لكنّ الصَّمْتَ اغتصبَ شفتيهِ. بدا لي أنّهُ نهضَ عن السّرير، فقد وصلني صوتُ ضجيجٍ خفيف. أخيرًا قالَ:
- اشتغلي.
أحسستُ أنّ الجُرْحَ قد عثر على الخنجر الَّذي طعنهُ فأجبتُ:
= لا أجدُ شُغْلاً.
- لمَ؟
= بسَبَب...
ترددْتُ، ثمّ ألقيتُ حجرَ النّرد على رقعةِ الألمِ:
= البَطَالَة.
- البطالة؟
= نعَم. أبحثُ عن عملٍ دونَ جدوى.
تمتمتُ بإعياء:
= هُنالكَ رجالٌ كالصّخور يستيقظون كالطّيور معَ الفَجر لِيسافرُوا إلِى مناطِقَ عَمَل مُجَاورَة، فيَجدُون أنْفُسَهُم مطرودينَ من أعمالهم بعدَ ضياعِ شبابهم، فتضيع كرامتهم بصمتٍ. لا يبكون ولا يصرخون، بل يصرخُ الجوعُ في أحشاءِ أطفالهم، فماذا بإمكاني أنا أنْ أفعل؟
تنهدَ ذلكَ الرّجُل. فكرَ طويلاً، ثمّ تمتمَ:
- استخدمي شهاداتكِ لتوفير فرصة عَمَل.
= لا أملكُ شهادة.
- لماذا؟
تساءلَ بلهفة، فقلتُ بمرارَة:
= مَنْ يدفَع لِي الأقساط الجامعيّة؟ أتظُنُّ أنَّ العِلْمَ لنا؟ نحنُ (في نظرهِم) دونَ مستوَى الالتحاق بالجامعات. نحنُ عُمّالُ نظافة لا أكثر. الجامعاتُ لأبنائهم هم، وحتى لو حاولنا الالتحاق بجامعاتهم، سيضعون ألف عثرة في طريقنا.
خفت صوتي وأنا أعلن:
= كمْ تمنيتُ لو ألتحقَ بإحداها.
- إذًا تزوَّجِي كهلاً ثريًّا كغيرك من الفتيات.
= مستحيل أن أكون تحفةً في قبضةِ الّذي يدفعُ أكثر.
- إذًا؟
همستُ بإرهاق:
= لمْ يَبْقَ إلاّ المَلَل. لمْ تَبْقَ إلاّ حكايات الجَدّات عن العَريسِ المُنْتَظَر. لمْ تَبْقَ إلاّ أحلام الشُّيوخ ببطولةِ الأجداد. لمْ تَبْقَ إلاّ صرخَات النِّساءِ على أطفالهنّ حين تنتهي مُهمَّةُ تنظيف المنزل من خيوطِ العناكِب، فيطول انتظار عودة الزوج، ويسُود المَلَلُ حين لا يجدْنَ لآمالِهِنّ منفذًا إلاّ الأحلام المستحيلة، أمّا أنا فأريدُ أنْ أحيا بكرامة؛ أن أشعر بقيمة نفسي، بأنّي كِيَان قادرة علَى الأخذِ والعَطاء والمشاركة، لكنْ، حتّى العَطاء هنا مُقَيَّد.
لففتُ وجعي بأوراقِ الصمت، فأعلنَ الرّجُلُ بأسَى:
- آسِف لأنّي لا أملكُ لكِ حَلاً، فكُلّنا نجتمر في المِرجل ذاته.
بلهفة سألتهُ: ماذا تَعْمَلُ؟
- أنَا؟
= نعَم أنتَ.
كرضيع فقدَ ثديَي أُمّه ناحَ: حارس ليلي.
خِلتـُهُ يمسحُ دمعةً بلَّلَتْ وجنتـَهُ. تابعَ بصرامة:
- يجب أن أعودَ إلى النّوم كي لا أُطْرَدَ منَ العملِ ليلاً. إلى لقاء.
بدأ فورًا نقيقُ الهاتف يعلنُ عن انقطاع المكالمة.ألحّت عليّ هواجسي بسؤال: "ترَى، هل عانى هذا الرّجُل يومًا من ملاحقة الشّرطي؟ هل مَلّ هو، أيضًا، صرخاته وشتائمهُ ولعنتهُ أنّنا أجساد متحرِّكة، دُمَى؟"
سقطتْ سمَّاعةُ الهاتف من يدي. سقطتْ خيبةٌ ما داخل آبار أعماقي. هجرتُ أنينَ الهاتف، وأخذتُ بنزقٍ أبحثُ عن ذلك الشّرطي، عن عينيهِ الزّرقاوَين وشعره الأشقر. ألا يعاني ذلك الشّرطي هو، أيضًا، من الملل؟ ألا يخشى هو، أيضًا، التهديد بالطّرد من العمل؟ ألا يخاف شبحَ الجوع والبطالة؟ ألا يملّ تسجيلَ الغرامات للمارّة؟ ألا يملّ ملاحقة عيونهم وترقبّ خطواتهِم؟ ثمّ ما هو راتب هذا الشّرطي؟ أيكفيه أن يتنفس، ويَحلُم، ويُعلنُ بكبرياءٍ أنّه حيٌّ؟ ألا يُؤرقُ ساعاتِهِ الخوفُ من المجهول، ومِن فجر لا يجد فيه ما يُخْمِدُ فيه فحيحَ الجوع في أحشاء أطفاله؟ ألا يخاف غدر الزمان والمكان؟ أم أنَّهُ لا يُطْرَد لأنَّه في هذا الحيّ ممنوع ترْك خطوات المسحوقين دون مُراقبة، ودون حصار الغرَامات الملعونة، وسياطِ الأسياد؟
وجدتـُهُ عَلَى الْرّصيفِ الآخَر؛ كانَ يتلوّى كقطٍّ جائِعٍ. ركضتُ نحوه. قد آن الأوان للغزالة أن تباغتَ الأسدَ.
عندما تأكدتُ أنّهُ يراني، أخذتُ أجتاز الشارع خطوة. خطوة. قوانينـُهُ لا تروق لي ليسجّل لي غرامةً أخرى، ليُسجل أنّي ثائرة على ظِلّي. يكفيني فخرًا أن أكون قد تمكنتُ من التعبير عن موقفٍ ما ولو مرَّة منذ أدركتُ كوني أحيا في وطن مُغتصَب.
أخذَ صوتُهُ يطاردني، وخطواتي تعلنُ ثورتها على قيوده:
ممنوعٌ اجتياز الشّارع والضوء أحمر!

(1984)

____________________________________

آراء في القصة عبر الفيسبوك:

مبدعة قديرة في سردك وشعرك ..
تبارك عطاؤك الإبداعي المبهر .

يحيى السماوي/ شاعر عراقي
___________

قصتك القصيرة هذه تؤكد أننا أمام كاتبة من الوزن الثقيل...

بسام ابو شاويش / صحفي وروائي من غزة
___________

صوت صارخ في كل البرية .. أن أعدوا الطريق إلى النور.

دام حسك ريتا ونبض الثورة في حرفك.

حنّا قطوف/شاعر سوري

__________

هذه القصة التي بدت قصيرة جدلت خيوطاً طويلة لمعاناة طويلة .. معاناة كل فرد على حدى .. مع معاناة وطن مغتصب .. أسلوبك رائع .. أرجو لك دوام الإبداع.

سهى شعبان/ أديبة من سوريا

____________________________________

قصة قصيرة من المجموعة: "أنا جنونك " 2009
المجموعة كاملة متوفرة في الرابط:

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=479679643644358&id=100174024928257








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في