الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل الأولوية للدستور أم البرنامج السياسي!؟ 2-2

محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)

2022 / 10 / 25
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


في هذا الجزء الثاني من المقال نلقى نظرة على النشأة التاريخية للدساتير المكتوبة في العصر الحديث وكيفية تأثر مساراتها وتوجهاتها بالأوضاع الواقعية (الاجتماعية/الاقتصادية) للدول التي حدثت فيها. ففي ضوء ما ذكرناه في الجزء الأول للمقال، نذَكِّر القارئ أن الشرط الأساس الذي يستوجب وضع الدستور هو قيام الدولة؛ فالدولة لم يحدد قيامها الدستور، بل ظهورها جاء نتيجة عدة عوامل أهمها العامل الاقتصادي بعد أن انتقل الانسان من حالة حياته البدائية المنقادة للطبيعة الى حالة العيش المجتمعية وتكوين الدولة. وقبل ظهور الدولة الوطنية الحديثة، كانت الهياكل الحاكمة الاقطاعية القديمة تحكمها قواعد قانونية، مستمدة من التقاليد والعادات والاعراف والتعاليم الدينية السائدة. وظلت القوانين في تطورها تعكس مستوى التقدم والنضج الفكري والسياسي والثقافي للمجتمعات. وفى العصر الحديث بظهور الدولة الوطنية برزت الدساتير ليس كاختراع عبقري لبعض الأشخاص، بل بصورة موضوعية تختلف مضامينها باختلاف الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تنشأ فيها، كما عبر عن هذا الفيلسوف (المثالي) هيجل بقوله ” الاعتقاد في وضع دستور لشعب ما بشكل قبلي يعتبر نزوة، تتجاهل العامل المهم الذي يجعل الدستور امراً أكثر من نتاج للعقل. كل أمة لها الدستور الذي يناسبها ويلائمها... الدستور ليس مجرد صناعة، ولكن يأخذ شكله عبر قرون من الزمن.“

ان وضع الدستور مسألة أملتها ضرورة تحقيق التوازن (السياسي) بين الفئات الاجتماعية ذات المصالح والمشارب المتباينة. وقد اتخذ وضع الدساتير في العالم ثلاث مسارات رئيسة.

جاء المسار الأول متعلقا بظهور الدولة الوطنية البرجوازية الحديثة حيث جاء الدستور الأمريكي كأقدم دستور مكتوب في العالم الحديث ( إذا استثنينا الماجنا كارتا-1215 ”Magna Carta“) وهو يطبق بغير انقطاع منذ وضعه في 1789، ثم تبعه الدستور الفرنسي في 1791 الذي وضع في اعقاب الثورة الفرنسية. والدستور الفرنسى يكتسب أهمية عظمى في تاريخ البشرية؛ فالثورة الفرنسية مثلت النهاية الأبدية لعهد الاقطاع الذي ساد العالم لسبعة قرون وانبثاق الأفكار الليبرالية وانتشار المفاهيم المتعلقة بالحرية والعدالة والمساواة . الثورة الفرنسة كان هدفها واضحا متمثلا في إزالة القيود الاقطاعية المكبلة لتطور الإنتاج الرأسمالي؛ وجدير بالذكر ان الرأسمالية انفردت بتميز النمو الواسع نسبيا داخل البنية الاقطاعية حول ضيعات (townships) ودوقيات (duchies) وهي خاصية فريدة حدثت نتيجة لعوامل عدة، منها تراكم الثروات من وراء اكتشاف الأراضي الجديدة، وانتعاش التجارة، وازدياد مصادر الاموال التي وفرتها المضاربات وصفقات الربا، وتطور العلوم الطبيعية، وانتشار المخترعات العلمية. وهكذا جاءت الثورة الفرنسية تتويجا لسعى البرجوازية في إطلاق يد علاقات الانتاج الجديدة لتنمية قوى الإنتاج الرأسمالية المحبوسة في اصفاد علاقات الارض الاقطاعية البالية. وتم ذلك بأن الغت البرجوازية (كإجراء سيأسى) في عام الثورة ( 1789 ) الإقطاع رسمياً. ولكي تحرز السيادة السياسية بشكل كامل، وضعت البرجوازية الفرنسية خلال عدة سنوات دساتير مختلفة، أعطت الاعتبار لتوازن القوى الاجتماعية الموجودة في الواقع، ابتداء من دستور الدولة الأول في 1791 الذي حول البلاد لملكية دستورية كانت اليد العليا فيها للقوى الجديدة الصاعدة التي قلصت صلاحيات الملك والارستقراطية المندحرة؛ كانت تلك الدساتير التعبير القانوني لحالة سيادة علاقات الانتاج الرأسمالية الخارجة من أحشاء الاقطاعية.

تزامن المسار الثاني في التاريخ الدستوري العالمي مع قيام الثورة الروسية التي حدثت بعد أكثر من قرن من قيام الثورة الفرنسية، وهي الثورة الاشتراكية الأولى في العالم التي أقامت سلطة تختلف تماما عن تلك التي حققتها البرجوازية في الدول (الغربية) التي تحولت للرأسمالية على أنقاض الاقطاعية. وللدخول مباشرة لما تعنيه هذه الثورة فيما يخص اطروحتنا، نقول إنه خلال التحضير للقيام بالثورة كان قائدها فلاديمير لينين كثير النقد، تحت ما أسماه بال ”الأوهام الدستورية “، للذين يدعون للتغيير بالإحلال الدستوري. لقد كان اهتمام قائد الثورة بالدعوة حثيثا الى مبدئه الخالد ” لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية“.

جاء ” اعلان حقوق الشعب العامل والمُستغل“ الذي كتبه لينين كمقدمة للدستور الروسي 1918، الذي وضع عقب انتصار الثورة مباشرة، يؤكد على أن النظام الاشتراكي الوليد يمثل تصميم وعزيمة الحزب الشيوعي الروسي على تحويله الى نظام اشتراكي يضع حدا لوجود الطبقات عبر مرحلة يتم فيها التغيير الجذري للقاعدة الاقتصادية (الرأسمالية) بإزالة علاقات الانتاج القديمة؛ وتكييف القاعدة الاقتصادية يمثل المقدمة الضرورية للتحول الكامل في البناء الفوقي بكل مكوناته. كذلك أوضح اعلان الحقوق أن النظام الجديد يهدف لكى يكون نموذجا لحُكم يلهم شعوب العالم في نضالها ضد راس المال العالمي؛ وكما تم لاحقا تأكيد ذلك في مقدمة دستور اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية في 1924. وهكذا كان التمييز بين البرنامج والدستور واضحا في سير وتقدم هذا المسار.

جاء دستور 1918، بعد الإقرار على وضع قيادة الدولة في يد حزب العمال، مُعبرا عن التوازن الدقيق للقوى الاجتماعية الموجودة في البلاد آنئذ. فقد ورثت الثورة من روسيا القديمة نظاما اقتصاديا رأسماليا متخلفا نسبيا اقتضت الضرورة التدرج في تحقيق هدف الدولة الاستراتيجي (إِنجاز الاشتراكية) عبر برامج مرحلية اقتضت في اوائل سنوات النظام الركون للإنتاج الرأسمالي في بعض القطاعات الانتاجية (خاصة الزراعي). فقد وضعت الدولة السوفيتية، في ذلك الوقت (السياسة الاقتصادية الجديدة–النيب–) بهدف تنمية قوى الانتاج المتخلفة الموروثة من النظام القديم والتي فاقم من ترديها العدوان والحصار الذي فرضته الدول الاستعمارية على الدولة الوليدة. ومن أبرز المكونات التي احتواها الدستور في إطار التدرج لإنجاز مهام الثورة الروسية هو تحالف دولة العمال مع فقراء وصغار المزارعين.

وتَضَمَّن المسار الدستوري الثاني ظهور مفهوم ”الديمقراطية الجديدة“ التي اضطلع بوضعها في القرن العشرين ماو تسي تونج. فالديمقراطية الجديدة عبرت عن واقع البلدان الفقيرة التي تسودها العلاقات الشبه اقطاعية-شبه رأسمالية والواقعة تحت الهيمنة الاستعمارية ما يجعلها تسلك مساراً يختلف تماما عن المسار التي سلكته الدولة الوطنية التي اخذ شكلها الحديث يتبلور خلال القرن الثامن عشر. كما أن الدولة الديمقراطية الجديدة تختلف مهامها (استراتيجيا) عن تلك التي أنشئت في روسيا في 1917 على أساس ان رسالتها هدفت موضوعيا الى تسهيل نمو الرأسمالية، لكن تحت نظام سيأسى تقوده البروليتاريا بخلاف النمط القديم للدولة الوطنية التي كانت تحت قيادة البرجوازية.

إن نظرية " الديمقراطية الجديدة" تقر بان مهمة الدولة في البلدان النامية التحرر من الهيمنة الاستعمارية وتأسيس سلطة ذات طبيعة ديمقراطية تحت قيادة طبقة العمال يشترك في ادارتها تحالف واسع من الطبقات الوطنية والثورية وتفتح الطريق لنظام الإنتاج الرأسمالي لكي يساهم بفعالية في التنمية الاقتصادية. والتبرير المنطقي والمغزى التاريخي لنظام الدولة في شكل ديمقراطية جديدة هو تحول الرأسمالية من مرحلة "المزاحمة الحرة" الى مرحلة تمركز رؤوس الاموال لدى الاحتكارات الرأسمال الكبرى التي اصبحت تعتمد في حياتها على الهيمنة على البلدان النامية بغرض فتح اسواقها بتصدير رؤوس الأموال لها.

وهكذا عقب انتصار الثورة الصينية وضعت وثيقة تحمل عنوان ”البرنامج المشترك“ وهو برنامج كان الهدف من ورائه القيام بإجراءات ديمقراطية تعمل على تكريس النظام الديمقراطي الجديد. استمر العمل بالبرنامج المشترك حتى 1954 العام الذي كتب فيه اول دستور للبلاد. جاء دستور 1954 متكئا على الأساس النظري ل " الديمقراطية الجديدة"؛ تقول مادته الأولى ” الجمهورية الشعبية الصينية هي دولة ديموقراطية شعبية تقودها الطبقة العاملة وتقوم على أساس التحالف بين العمال والفلاحين“ ، وتتواصل الفكرة في المادة الخامسة للدستور : ” تحتوي ملكية وسائل الإنتاج في الجمهورية الشعبية الصينية في الوقت الحاضر على الأشكال الأساسية التالية : ملكية الدولة أي ملكية كل الشعب ؛ ملكية التعاونيات أي الملكية الجماعية لجماهير الشغيلة ؛ ملكية الشغيلة الفرديين (أي الملكية الخاصة الصغيرة)؛ ملكية الرأسماليين (أي الملكية الخاصة المتوسطة والكبيرة).“

المسار الدستوري الثالث يشمل وضع الدساتير في الدول الفقيرة النامية. وكما ذكرنا في الجزء الأول من المقال حول حالة السودان في هذا المضمار، نجد ان الدول النامية اتجهت منذ النصف الثاني من القرن العشرين لوضع دساتير جاءت مجرد محاكاة (simulation) للمفاهيم والمبادئ التي تتضمنها دساتير الديمقراطيات الليبرالية الغربية. ان نقل هذه المفاهيم كمفاهيم مجردة يتغاضى عن الاختلاف الجوهري بين ما تعنيه معانيها في واقعين متباينين كل التباين اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. فتعريف مفاهيم مثل العدالة والمساواة وحتى الديمقراطية يختلف من منظور تشكيلة اقتصادية اجتماعية /اقتصادية متطورة ومكتملة النمو رأسماليا (كما في أمريكا مثلا) عن تعريفها في مجتمع يعيش في مرحلة ما قبل الرأسمالية تسوده علاقات انتاج ممعنة في القدم (كما في السودان مثلا ).

ان معظم الدول النامية دولا تابعة منساقة لمشيئة الدول الاستعمارية الكبرى تفتقد امتلاك القرار السيادي المستقل على الصعيدين السياسي والاقتصادي. ومجتمعات الدول التابعة دولا فقيرة بطيئة النمو وليست كتل متجانسة، بل تتألف من فئات اجتماعية متعددة تسودها سياسيا طبقات تجارية ذات الارتباط الوثيق بالمصالح الاقتصادية الاستعمارية (طبقة الكمبرادور). فالمصالح الاقتصادية للدول الاستعمارية هي التي تحدد الإطار لتكوين الحكومات في البلدان النامية وترسم الخطوط العامة لطبيعة وعمل مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والعدلية؛ وهكذا، ظلت تلك الحكومات خلال العقود السبعة السابقة، عقب زوال الاستعمار المباشر، تتمتع بدعم القوى الاستعمارية مقابل حماية مصالحها؛ وحماية المصالح الاستعمارية استدعى ان تلجأ الدول النامية لحكم شعوبها (المتطلعة للتحرر من الهيمنة الخارجية) بأقصى درجات البطش وسلبها أبسط الحقوق السياسية والاقتصادية.
ففي ظل هذا الوضع الذي تمر به الدول الطرفية، فان الحكام لا يلتزمون بالدستور عندما تتعارض القوانين المتفرعة منه مع مصالحهم. فالدستور بالنسبة للحكام وثيقة توضع لتزيين وجه الحكم امام شعوبها والعالم عموما تزخر بالتجريد الانشائي حول الديمقراطية والعدالة والحكم الرشيد، وحقوق الانسان؛ وكمثال فان ”وثيقة الحقوق-الباب الثاني من دستور السودان الانتقالي لسنة 2005 “ لنظام الإنقاذ الإسلامي المقتلع، الذي انتفض الشعب ضد قهره وفساده، ربما لا يوجد مثيلا لها من ناحية تأكيدها على المواطنة والعدالة والدولة الرشيدة وحقوق المرأة الخ.

ان الحفاظ على واقع البلدان التابعة وانساقها الاجتماعية الاقتصادية والثقافية المتخلفة تجعل حكامها من العسكريين او المدنيين الذين يمثلون رجال المال يحكمون، بعيدا عن الدستور ومؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية ، بالسلطات الاستثنائية وقوانين الطوارئ والاحكام العرفية.

ملحوظة
في مقال منفصل نوضح ان الدساتير التي وضعت لصعود الرأسمالية كسرت مسيرتها دساتير عبرت عن مطامح السادة الارستقراطيين المهزومين ما يوضح ان الرأسمالية لم تحقق انتصارها بشكل متواصل دون انقطاع ، وان هذا ينطبق على الدساتير التي أعقبت سقوط الأنظمة الاشتراكية (في الاتحاد السوفيتي السابق والصين) وكيف ان هذه الدساتير مرحلية تتخلل مسار تطبيق الاشتراكية حدثت للتعبير عن تحولات اقتصادية داخل تلك الأنظمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي