الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رُوزنامة الأسبوع ـ سَتَأكُلونَ الذَّهَب!

كمال الجزولي

2022 / 10 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


الاثنين
من غير الطبيعي، إطلاقاً، أن نظلَّ نتحدث عن اخفاقات النِّظام البائد، دون أن نعرض لما يتَصل منها بمثلَّث حلايب! ففي أكتوبر 2009م، وأثناء الاعداد لانتخابات أبريل 2010م، استجابت «مفوَّضيَّة الانتخابات» لمطلب «مؤتمر البجا» بإعلان المثلث دائرة انتخابيَّة مستقلة، بخلاف رغبة «الانقاذ» في استتباعه لدائرة أوسيف، تحاشياً لرفض مصر، في أبريل 2008م، أن يشمله التِّعداد السُّكَّاني الخامس، ومنعها العدَّادين من دخوله، بحُجَّة خضوعه لـ «السَّيادة المصريَّة»!
احتلت مصر المثلَّث، بالفعل، منذ أواسط التِّسعينات، وأخرجته من «السَّيادةالسُّودانيَّة»، فتحتَّم على حكومة السُّودان استعادته، ولا سبيل لذلك سوى أحد ثلاثة لا رابع لها: الدِّبلوماسيَّة ــ الحرب ــ التَّحكيم على غرار ما جرى بين اليمن وإريتريا في حنيش، وبين مصر نفسها وإسرائيل في طابا، وبين المؤتمر الوطني ذاته والحركة الشَّعبيَّة في أبيي!
منذ استقلال السُّودان ظلَّ المثلث يتبع للسَّيادة السُّودانيَّة، وسكانه الـ 200.000 من البشاريِّين والعبابدة، ويُرفرف عليه علم السُّودان حتَّى التِّسعينات، ويُتعامل فيه بالعملة السُّودانيَّة، ويحرسه الجَّيش السُّوداني، ويمثِّل دائرة انتخابيَّة تبعث بنائبها إلى البرلمان السُّوداني. وحتَّى الانقلاب الاسلاموي في1989م، لم تدَّع مصر حقوقاً عليه، إلا في بواكير سنوات عبد النَّاصر، حين دخلته قوَّاتها، فحشد عبد الله خليل قوَّاته بالمقابل، ولاحت نُذر الحرب، لولا مسارعة ناصر لسحب قوَّاته، فانخمدت الفتنة!
لكن مصر مبارك أقدمت على ضمِّ المثلَّث، قسراً، مستغلَّة تشقُّق الجَّبهة الدَّاخليَّة، فلم تحرِّك الإنقاذ لا دبلوماسيَّة، ولا عسكر، ولا تحكيم. ومن عجب أنها أغلقت عينيها إزاء ذلك الاحتلال، بينما جعلت أحد مبرِّرات انقلابها عام 1989م إدعاءها بتساهل حكومة الدِّيموقراطيَّة الثَّالثة، آنذاك، إزاء احتلال قرنق لبعض المواقع!
كان إعلان مفوَّضيَّة الانتخابات كافياً، على شكلانيَّته، لإيقاظ «أمَيَّة»، بغتة، وتذكيرهم بمسئوليَّتهم تجاه السَّيادة السُّودانيَّة. وهي مباغتة ما توقعها قادة الانقاذ! فقد أبدى أمين عمر، مثلاً، «ترحيباً» مرتبكاً بالإعلان! ثمَّ، كما لو كان يدفع، في لاوعيه، اتِّهاماً ما، أضاف: «حلايب سودانيَّة دون نقاش»! ومع ذلك، أكد على أن اعتماد المنطقة دائرة انتخابيَّة «لا علاقة له بحكومته، فذلك من اختصاص المفوَّضيَّة!» (سودانايل عن «الشُّروق» القاهريَّة، 15 أكتوبر 09)؛ فانظر كيف تستحيل «السَّيادة» مسألة «فنيَّة» يُعهد بها إلى المفوَّضيَّة المسكينة! أمَّا غندور فقد «دعا» مصر لتسهيل مهمَّة المفوَّضيَّة في «تمكين» مواطني حلايب من «ممارسة حقوقهم الطبيعيَّة كسودانيِّين في المشاركة بالانتخابات!» (المصدر)؛ فلكأنَّ «التَّمكين» في الوطن «المغتصَب» يتحقَّق بمناشدة «الغاصب»! وأما مصطفى عثمان، فتغاضى عن تشكيل الاحتلال خرقاً لـ «السَّيادة»، ليقول، لا فضَّ فوه: «لا نريد أن تكون حلايب (قضيَّة خلافيَّةّ!) مع مصر!» (سودانايل عن «الشُّروق» القاهريَّة، 16 أكتوبر 09) .. فتأمَّل! وسيعود علي كرتي، لاحقاً، لاجترار هذا التضعضع (التيَّار، 19 مايو 2011م).
وهكذا، بين استهانة مبارك بالسَّيادة السُّودانيَّة، وتضعضع البشير عن صونها، استحالت حلايب عاراً في القلوب، وخنجراً في الخواصر!
في الأثناء انهمكت الانقاذ في تفكيك الجَّبهة الدَّاخليَّة، وشنّ حربها في دارفور، ومواصلة مخاشناتها في الجَّنوب، والشَّرق، وجبال النُّوبا، والنِّيل الأزرق، وإدارة معاركها «الدونكيشوتيَّة» ضد «الخونة»، و«العملاء»، و«الطَّابور الخامس»، و«معارضي الفنادق»، و«المفرِّطين في سيادة الوطن»، و«بائعيه في أسواق النخاسة»، و«ذوي الأجندات الحزبيَّة الضيّقة»، وترديد «المحفوظات» الرَّتيبة حول «الثَّوابت»، و(الدُّروس» المكرورة عن «الخطوط الحمراء»، دون أن تعير الاحتلال أدنى التفاتة، بل قال قائلها لجماهير بورتسودان المطالبة بـ «التَّحرير»: اذهبوا وقاتلوا وحدكم .. إنا ها هنا قاعدون!
لم يكن النِّظام ليتذكَّر «السَّيادة» إلا حين تجأر الحناجر مِن تردِّي «حقوق الإنسان»، أو مِن تعامله مع منظمات الإغاثة، أو مع المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، فيعمد إلى تغطية عجزه بإغراق القضيَّة في لجج الدَّجل السّياسي، فيجب، تارة، ألا تشكل «أزمة» بين البلدين الشَّقيقين! وينبغي، تارة أخرى، جعلها «منطقة تكامل»! فكأن «السَّيادة» تقبل القسمة على اثنين، أو أن «التَّكامل» محض «حلٍّ» لمشكلة، وليس «خياراً» سياديَّاً!
والعجيب أن ذلك ما كان ليصدر من جهة مصر التي ظلَّ مسؤولوها يجاهرون بتبعيَّة المثلَّث لها، قولاً واحداً قاطعاً كالسَّيف!
ألقت ثورة 25 يناير بحسني مبارك في مزبلة التَّاريخ، فسارع البشير لزيارة القاهرة مهنِّئاً، وأعقبه على كرتي مفاوضاً. وبالمقابل زار الخرطوم وفدان مصريَّان رفيعان، ناقشا كلَّ شئ، تقريباً، إلا .. حلايب! فما جرى تداوله حولها لم يتعدَّ اللغة القديمة، والأسلوب ذاته، حيث ضرورة جعلها منطقة «تكامل!» و«إدارة مشتركة!»، وجاء المقترح، أيضاً، من الجانب السُّوداني!
ليس ثمَّة معنى محدَّد، بالطبع، لعبارات «التََّكامل»، و«الإدارة المشتركة»، سوى التَّسليم للقاهرة بحقٍّ غير مستحقٍّ، كما وأن نبرة التَّسويف الموسوم بها التَّصريح فدليل على التَّردُّد والعجز!
وفي مناسبة أخرى، أيضاً، أكد كرتي على هذا الارتباك، بقوله: «إتَّفقنا ألَّا ننظر إلى حلايب كـ (ملف خلاف)، بل (مشاركة تعاون اقتصاديَّة) .. و(شراكة) في الإدارة» (التيَّار، 19 مايو 2011م). غير أنه، عندما باغته المحرِّر بسؤال صريح كالآتي: «الشَّراكة في الإدارة والاقتصاد مفهومة، لكن لمن السَّيادة على حلايب؟!»، لم يحر جواباً، بل قال متلعثماً: «إذا أردنا التَّحدث عن شراكة في الإدارة فيجب أن لا نتحدَّث عن السَّيادة!" (المصدر). وبطبيعة الحال يمكن للعبارة الأخيرة أن تصبح: «إذا أردنا التحدُّث عن شراكة في الإدارة فيجب أن نقسم السَّيادة على اثنين!» و .. هنا مربط الفرس!

الثُّلاثاء
رغم يقيني من أن «المشاعر» ضعيفة التَّأثير على المآلات السِّياسيَّة، إلا أنني لا أدري لماذا ينتابني، هذه الأيَّام، «شعور» قوي بأن «تسوية» الثُّلاثي والرُّباعي، الدَّولي والإقليمي، بقيادة فولكر، ما تنفكُّ تتحوَّل، رويداً رويداً، وبلا انتظام، إلى «شينة منكورة»، كما في المثل، حتَّى من أكثر الدَّوائر حماساً لها!

الأربعاء
ما يزال عِلمُنا بدلائل الاستعمار قاصراً على خبرات محدودة في منطقتنا، فلا يتعدَّى تجارب بعض بلداننا العالمثالثيَّة، بل إنه، كمرحلة أعلى من الرَّأسماليَّة، لا يزيد، في الغالب، مقدار قلامة ظفر، عن نهب الموارد، وتحويلنا إلى أسواق للتَّوزيع، واستتباعنا لقشريَّات الثَّقافة الوافدة. أمَّا الاستغلال الامبريالي القائم، في شكله الأبشع، على الامتهان الكامل لكرامة الشُّعوب المستعمَرة، والسَّحق الكلِّي لآدميَّة السُّكَّان الأصليِّين، والإلغاء التَّام، والنِّهائي، لكياناتهم الوجوديَّة، فنكاد لا نعرف شيئاً عنه، اللهمَّ إلا من خلال النَّموذج النَّظري الذي قد نسمع به، أو نقرأ عنه، دون أن نعايشه بصورة تاريخيَّة لصيقة. ففي ما عدا التَّطبيق الفرنسي في الجَّزائر، ورُبَّما الصهيوني في فلسطين، مثلاً، وهما، على كلٍّ، ورغم كلِّ شئ، نموذجان مخفَّفان جدَّاً من سنخ هذا الشَّكل الاستعماري المرعب، تتبقَّى صورٌ لا سبيل أمامنا لإدراكها إلا عبر مصادر التَّاريخ المكتوب، والصَّحافة الاستقصائيَّة، والنتاجات الأدبيَّة، والمسرحيَّة، والسِّينمائيَّة، كإبادة الرَّجل الأبيض للسُّكَّان الأصليِّين من الهنود الحمر، على سبيل المثال، في أمريكا، وأستراليا، وغيرها! وقبل أيَّام أظهر تقرير موسَّع أعدَّه هشام نصيف، ونشره موقع «الجزيرة نت»، اشتمال الصَّفحات الرَّاهنة للغرب الرَّأسمالي، وسِيَر ضواريه المعاصرة، على جانب مشهود من هذا الواقع المرعب، رغم التَّفاخر بالدِّيموقراطيَّة، والتَّباهي باحترام حقوق الإنسان.
من تلك الصَّفحات المشهودة صفحة الدَّنمارك التي تُعدُّ مضرب المثل في رغد العيش، وتبوُّء الصَّدارة في قائمة مؤشرات «السَّعادة»! فالتَّقرير المشار إليه يفضح أنَّ هذه «السَّعادة» مبنيَّة، للأسف، على أنقاض «تعاسة» شعب «الإنويت/الإسكيمو»، الذين هم السُّكَّان الأصليُّون لجزيرة غرينلاند الدَّنماركيَّة! فقد انتبهت الحكومة هناك، لأوَّل مرَّة، ونتيجة هبَّة جادَّة على صعيد حركة حقوق الإنسان المدنيَّة، إلى ضرورة التَّحقيق في ممارسات «تحديد النَّسل القسري» الذي أخضعت له، رسميَّاً، الآلاف من نساء الجَّزيرة، خلال ما يربو على نصف قرن حتَّى الآن، بإرغامهنَّ، تجهيلاً، على تركيب جهاز «آي يو ديIUD»، المعروف باسم «اللولب»، داخل أرحامهنَّ، لحرمانهنَّ من الإنجاب! وفي هذا الشَّأن قال رئيس مجلس حقوق الإنسان في الجَّزيرة «نحتاج إلى هذا التَّحقيق لمعرفة ما إذا كان ما حدث في الواقع إبادة جماعيَّة .. لا نريد تقريراً لتبرئة الذِّمة»! كما قال ماجنوس هيونيك، وزير الصَّحة الدَّنماركي، مطلع أكتوبر الجَّاري، إنه وقف بنفسه على «أن الألم الجَّسدي والمعنوي الذي تعرَّضت له المتضرِّرات لا يزال مستمرَّاً»! وأظهر تسجيل صوتي «بودكاستPodcast»، في إطار حملة اصطلح عليها باسم «سبيرالكامَغنن Spiralkampagnen»، أي «حملة اللولب» باللغة الدَّنماركيَّة، سجلات تشير إلى أن 4500 امرأة، أي نصف مجموع الإناث في مرحلة الخصوبة، زُرع لهنَّ «لولب» بين عامي 1966م ــ 1970م ثمَّ تواصل هذا الإجراء حتَّى منتصف السَّبعينات. وذكر تقرير للـ «بي بي سي» أن بين المتضرِّرات فتيات لا يتجاوزن الثَّانية عشر من العمر. وتضمَّن التَّقرير شهادات نساء مسنَّات عمَّا تعرَّضن له وهنَّ، بعدُ، في مقتبل العمر. ومن هؤلاء نجا ليبرث التي زرع لها طبيب دنماركي «لولباً»، في سبعينات القرن الماضي، حين كان عمرها ما يزال 13 عاماً، تقول: «لم أكن أعرف ما هو اللولب، فالطبيب لم يشرح لي، أو يستأذنني، كان الأمر مثل غرس سكاكين بداخلي، كنت خائفة، لم أستطع إخبار والدي، كنت عذراء»! وتؤكد، إلى ذلك، أن زميلاتها في المدرسة نُقلن معها، أيضاً، إلى المستشفى، لكنهنَّ لم يتحدثن في الأمر!
لم يقتصر التَّعقيم القسري على غرينلاند فقط، بل شمل مناطق أخرى، كما تؤكد أرنانغواك بولسن، الضحيَّة الأخرى لهذا الإجراء حينما كانت، عام 1974م، طالبة بمدرسة داخـليَّة لأطـفال غرينلاند، لكن في جـزيرة نائية ببحـر البلطيق، «لم يسألوني قبل الإجراء، ولم تكن لديَّ أيَّة فكرة عن الأمر، أو ما هو اللولب»! وتقول إنها عانت من آلام «اللولب» عندما أصبحت مراهقة، وتضيف باكية: «أشعر أنني لم أحصل على حق الاختيار، ولا يمكنني قبول ذلك .. كيف سيكون ردُّ النَّاس إذا حدث ذلك لامرأة دنماركيَّة»؟!
أمَّا كاترين جاكوبسن فقد أكَّدت أنَّها كانت تبلغ من العمر 12 عاماً فقط عندما تمَّ تركيب «لولب» داخل جسدها ظلَّ هناك لعقدين بعد ذلك، مِمَّا تسبب لها في آلام ومضاعفات انتهت باستئصال رحمها وهي في أواخر الثَّلاثينات، و«كان لذلك تأثير كبير على حياتي، لم أنجب أطفالاً، لكنني لم أخبر أحداً، قط، بالسَّبب»!
برَّرت السُّلطات الدَّنماركيَّة «حملة تحديد النَّسل القسريَّة» تلك، والتي ترقى لمستوى «الجريمة»، بالزِّيادة في عدد السُّكَّان في غرينلاند، ومن ثمَّ بزيادة العبء الصِّحِّي والتَّربوي! كما نشرت مجلة «الجَّمعيَّة الطِّبيَّة الدَّنماركيَّة» دراسة تبرِّر الحملة بزيادة معدَّل المواليد، مع انخفاض الوفيَّات النَّاجمة عن السُّل خلال عام 1971م! وافترضت الدِّراسة وجود وسيلتين، فقط، لحلِّ الأزمة: «الواقي الذَّكري» و«اللولب الرَّحمي»، واستبعد الباحثون «الواقي الذَّكري» بسبب «ظروف معيشة الغريلانديين التي تصعِّب عليهم النَّظافة الشَّخصيَّة الضَّروريَّة لاستخدام الواقي الذَّكري»!
أحد أهمِّ فصول اضطهاد الإنويت بدأ خلال الفترة الاستعماريَّة لغرينلاند، حيث مارس الدَّنماركيُّون سياسة قاسية أثبتت فشلها لاحقاً، وقد قضت بفصل الأطفال عن عائلاتهم لأجل تعلُّم اللغة والثَّقافة الدَّنماركيَّتين! فخلال الخمسينات اعتقد المستعمر الدَّنماركي أن أفضل طريقة لتطوير الجَّزيرة هي عبر سرقة أطفالها (!) فقامت تجربة تلك السِّياسة، في بدايتها، على الطلب مِن الكهنة ومديري المدارس حصر الأطفال الأذكياء بين 6 و10 سنوات مِن العمر. ثمَّ أخذ 22 طفلاً قسراً من أحضان آبائهم وأمهاتهم، وإرسالهم إلى أسر دنماركيَّة حاضنة. وهكذا فُصل الأطفال عن عائلاتهم، وعاشوا مع أسر دنماركيَّة بالتَّبنِّي، فنسوا لغتهم الأم! وبعد عام ونصف عاد 16 منهم إلى غرينلاند، لكن لم يُجمع شملهم مع أسرهم الأصليَّة، بل وُضعوا في دار للأيتام، وارتادوا مدرسة دنماركيَّة بصفتهم «نخبة» لا يتحدَّثون اللغة المحليَّة، مِمَّا جعلهم مهمَّشين في وطنهم الأم، فلم يتمكَّن مَن التقى منهم مع والديه بعد ذلك مِن التَّواصل الشَّفاهي معهم!
ورغم بوادر فشل التَّجربة، فإن السُّلطات واصلت خطَّتها بين الخمسينات والسَّبعينات، فأرسلت آلاف الأطفال من غرينلاند إلى المدارس الدَّاخليَّة الدَّنماركيَّة، وشاعت حالات التَّبنِّي، وتمَّ الحديث عن بعضها في الصَّحافة المحليَّة على أنها «مشروعات خيريَّة»! تركت تلك التَّجربة الأليمة ندبات عميقة في حياة أبناء الإنويت، حيث أوردت الـ «بي بي سي»، ضمن تقرير صادر عام 2020م، بتكليف من الحكومة الدَّنماركيَّة السَّابقة، أن نصف أطفال التَّجربة عانوا، لاحقاً، من مشكلات نفسيَّة، وأدمنوا تعاطي الكحول، وتشرَّد بعضهم، أو ماتوا مبكراً، أو انتحروا، في حين عاش الباقون حالة اغتراب في وطنهم! ولا يزال لهذه التَّجربة الاستعماريَّة تأثير في العلاقة بين غرينلاند والدَّنمارك، حيث ما زال الإنويت يشعرون بأنهم مواطنون من الدَّرجة الثَّانية، كما غذَّى مِن مشاعر الغضب في نفوسهم رفض الحكومات المتعاقبة تقديم اعتذار رسمي عنها، بحُجَّة أن التَّجربة كانت لها «آثار إيجابيَّة»! ويبقى الاستثناء الوحيد من ذلك التَّعنُّت الرَّسمي اعتذار رئيسة الوزراء الدَّنماركيَّة مته فريدريكسن، في ديسمبر 2020م، وبشكل شخصي، إلى 6 من ضحايا التَّجربة، وموافقة كوبنهاغن على صرف تعويضات لهم، لاحقاً، في مارس 2022م!

الخميس
يحذِّر البعض من أن السُّودان سيشهد مجاعة عمَّا قريب! وأعتقد أن السَّبب لن يكون بعيداً عن ندرة اللحم والخضار، مقابل وفرة .. الذَّهب! وعلى غرار تبخيس لينين لهذا «المعدن النَّفيس»، قبل زهاء القرن، حين بشَّر بأن الشُّعوب، في عصر الشِّيوعيَّة، ستبني به «مراحيض عموميَّة»، فإننا نبشِّر أهلنا السُّودانيِّين، خصوصاً سكَّان مناطق المناجم والتعدين الأهلي، بأن الذَّهب سيكون مبذولاً، سداح مداح، لأكلهم وشربهم!
وحتَّى لا ينطَّ في رقبتنا من يشكِّك في صلاحيَّته للاستخدام على هذا النَّحو، نسوق للنَّاس أن الذَّهب كان قد استُخدم على سبيل المأكل والمشرب، منذ عدة قرون، في بلدان الشَّرق الأقصى، كاليابان مثلاً، كما استُخدم في أوربَّا منذ منتصف القرن 16، وذلك في صنع المعجَّنات، كالكعك، والكيك، فضلاً عن الدَّجاج، والفواكه، شريطة ألا يزيد، في الوجبة الواحدة، عن طبقين، كحدٍّ أقصى، حتى لا تُستنفد موارده. وخلال عصر النَّهضة، عمل باراسيلسوس، الطَّبيب الكيميائي، والمنجِّم السَّاحر، على تطوير بعض الأدوية من الذَّهب، قبل أن تؤكِّد الدِّراسات خصائصه العلاجيَّة، بالنِّسبة لالتهاب المفاصل، وألزَّهايمر، والجِّهاز العصبي. وتُعدُّ الهند الأكثر استهلاكا للذَّهب أكلاً وشرباً، حيث يُقدَّم للمدعوِّين في المناسبات، سنويَّاً، أكثر من 12 طناً منه! وفي إيطاليا وفرنسا تُزيَّن بمسحوقه بعض الأطباق. وثمَّة اعتقاد بأن أكل أوراقه في أوَّل العام الجديد يجلب الحظ. وقديماً عُرف السُّلطان سليمان القانوني، في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، بأكله!
أمَّا بشأن شرعيَّة ذلك، فقد أفتى د. عمر الخطيب، أستاذ أصول الفقه، ومدير المسجد الحسيني في الأردن، بأن الأصل في الأطعمة الحِلُّ، فلئن كان ينبغي اعتبار العِلَّة في تحريم الأكل والشُّرب في أواني الذَّهب هي حرمة الإسراف، والخُيلاء، وكسر قلوب الفقراء، فهذه العِلَّة واردة، كذلك، في ما يتَّصل بأكل أو شرب الذَّهب نفسه.
بهذا التَّحريم ألحق جمهور العلماء تحريم كلِّ أوجه استعمال الذَّهب، إلا ما ورد تخصيصه في الشَّرع، أو كان لضرورة شرعيَّة ملحَّة. غير أن العلماء انقسموا حول إجازة أكله وشربه على رأيين:
الرَّأي الأوَّل: أحلَّ أكل الذَّهب، إمَّا لوحده، أو مختلطاً بطعام أو شراب. لكنهم اشترطوا لذلك أشراطاً، منها: عدم الاضرار بصحَّة الإنسان، وأن تكون كميَّته يسيرة القدر، بحيث لو حاولنا إذابتها بالنَّار لَما تجمَّع منها شيء ذو قيمة، ففي مثل هذه الحالة لا حرج في أكلها. أما إن كان لكميَّته قدر محسوس، بحيث لو أذبناها بالنَّار حصلنا منها على شيء، ففي هذه الحالة لا يجوز أكلها أو أكل الطعام المختلط بها.
الرَّأي الثَّاني: حرَّم تناول الطَّعام أو الشَّراب المختلط بالذَّهب أو بمسحوقه، مثل ما يُسمى حلوى الذَّهب، وآيس كريم الذَّهب، وشاي أو قهوة الذَّهب، ونحوها، لسببين:
السبَّب الأوَّل: أن ذلك إسراف وتضييع للمال، وقد نهى الشَّرع عن إضاعة المال وإن قلَّ.
السَّبب الثَّاني: أن في أكله كسراً لقلوب الفقراء والمساكين، وهذا يسبب حقداً وضغينة، وقد يترتَّب على ذلك مفاسد تتسبَّب في تفكُّك المجتمع المسلم.
ويقول د. الخطيب أنه يميل إلى الرَّأي الثَّاني، ويضيف «إنَّنا في ظلِّ ما يعيشه المسلمون في معظم البلاد الإسلاميَّة، من فقر، وحروب، وتشريد، فالأَولى إنفاق مثل هذه الأموال على المحتاجين والمعوزين».

الجُّمعة

القارئ أبو بكر الخليفة أرسل إليَّ بشأن عبارة «كبقيعات السَّراب» التي وردت مكتوبة هكذا في الرُّوزنامة الماضية، ضمن كلمتي حول «الذِّهن الرَّعوي»، يقول: «الواضح انك استلهمت كلمات القرآن التي تقول (سراب بقيعة) واعتقدت أن كلمة بقيعة هي كلمة قائمة بذاتها، وهي صفة ملازمة للسراب، للدرجة التي استخدمتها بتصريف لتقول (كبقيعات السراب)، بينما (بقيعة) التي وردت في القرآن تعنى (في احدى القيعات) ليصير المعنى (سراب فى قيعة)، و(بقيعة) هي (قيعة) يسبقها حرف الجر الباء، كأن تقول بمدرسة وبارض».
أشكر الخليفة، وإن كنت آخذ عليه تعجُّله سوء الظَّن، حيث حرف «الباء»، في كلمة «كبقيعات»، قفزت بين «الكاف» و«القاف» من باب الخطأ الطِّباعي الذي لا يفوت على الفطنة، والأصل في ما ذهبت إليه هو «كقيعات»، والأخطاء الطِّباعيَّة شائعة بالغاً ما بلغ الحرص!
أمَّا إصراره على «وجوب» استخدام العبارة القرآنيَّة «سرابٍ بقيعةٍ» كما هي في كلِّ الأحوال، فذاك ضرب من التَّعسُّف، إذ من حقِّ الكاتب أن يستخدم «كلمات اللغة» بتصاريفها المحتملة جميعاً، لا كما وردت في القرآن بالضَّرورة، اللهمَّ إلا عندما ينصرف القصد إلى إيراد «النصَّ» المقدَّس نفسه. فنصُّ الآية (39 ؛ النُّور) هو «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً»، أي أن الآية تشبِّه أعمال الكفَّار، حسب الطَّبري، بما يلوح كالماء فوق الأرض وتحت السَّماء.
أمَّا عبارتي، بعد استبعاد «الباء» المقحمة من باب الخطأ الطِّباعي، في الكلمة المشار إليها، هي أن «الكثيرين، للأسف، ما تنفكُّ تستغرقهم الجُّزئيَّات المفكَّكة، هنا وهناك، كقيعات السَّراب»، أي أن هذه العبارة اللغويَّة البحتة التي لا قداسة فيها تشبِّه الجُّزئيَّات المفكَّكة بـ «قيعات السَّراب»، كقولك «جيرة السُّوء»، حيث «القيعة» جمع «قاع»، كـ «الجيرة» جمع «جار»، بحسب الطَّبري أيضاً، والله أعلم.

السَّبت
رغم أنَّه ما مِن أحد انخدع لمجموعة «نداء أهل السُّودان للوفاق الوطني»، منذ أوَّل بيانها المخاتل عن «مبادرتها»، فإن هذه المجموعة تكاد، مع ذلك، تفضح نفسها بنفسها، وتعلن، على الملأ، عجزها حتَّى عن إخفاء هُويَّتها الاسلامويَّة، وانتسابها للنِّظام المباد، على ما لديها من رغبة صميمة في ذلك. فبعد مسرحيَّة الطَّيِّب الجِّد، الأخ المسلم المعروف، والقاضي السَّابق، والذي صار ينحو، مؤخَّراً، إلى التَّواري، مقارنة مع القدر الكبير من النَّشاط الجَّم الذي كان يبديه في مرحلته الأولى، أصبح يتزحزح إلى الخلف، مفسحاً مقدِّمة الصُّفوف، بدلاً منه، لآخرين، أبرزهم هاشم الشّيخ قريب الله، الموسوم بالرَّئيس التَّنفيذي للنِّداء، على ما لديه من مهارة أقلُّ في التَّخفِّي، وإنْ أراد، حيث أن فيه من ميول تلعيب الحواجب المزجَّجة، وترقيص العضلات الصِّناعيَّة، على طريقة نجوم التِّرسو في أفلام السِّينما الهنديَّة، ما لا يتيح إبداء أيَّة مهارة أعلى يتطلَّبها الخداع (!) علماً بأن أقصى أحلام هذه الجَّماعة، وبرامجهم السِّياسيَّة، لم تتعدَّ أن تعيدهم حركة جمباز ارتداديَّة إلى واجهة المشهد السُّلطوي مجدَّداً. فمثلاً، رغم تصنُّعهم الوقار، والموضوعيَّة، وعدم التَّكالب على المكاسب، إلَّا أنَّهم، ما أن لاحت محض بوادر هشَّة للتَّفاهم بين «الحريَّة والتغيير ـ المجلس المركزي» وبين «لجنة البشير الأمنيَّة»، وأحسَّوا بخطورة أن يفاقم هذا التَِّفاهم من عزلتهم، حتَّى انطلق قريب الله يهدر، متوتِّراً، في مؤتمر صحفي، بأن ثمَّة سفاراتٍ وقوى أجنبيَّةً تقف خلف هذا التَّفاهم! ويُهدِّد، في جنون، ويتوعَّد بمقاومته، إن تمَّ، بشتَّى الطُّرق!

الأحد
أتى رجل شيخ المعتزلة عمرو بن عبيد يستفتيه قائلاً:
ــ «حلفت بالطلاق أن الحجَّاج في النَّار، فما تقول، أقيم مع امرأتي أم أعتزلها»؟!
فأفتاه بقوله:
ــ «أقم مع زوجتك، فإن الله تعالى إذا غفر للحجَّاج، لم يضرَّك الزِّنا»!

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار


.. تساؤلات حول ما سيحمله الدور التركي كوسيط مستجد في مفاوضات وق




.. بعد تصعيد حزب الله غير المسبوق عبر الحدود.. هل يعمد الحزب لش


.. وزير المالية الإسرائيلي: أتمنى العمل على تعزيز المستوطنات في




.. سائح هولندي يرصد فرس نهر يتجول بأريحية في أحد شوارع جنوب أفر