الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روسيا الحديثة 8 حرب القرم

محمد زكريا توفيق

2022 / 10 / 29
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الفصل الثامن

حرب القرم

لقرون عديدة تحولت عيون الحجاج الأتقياء بمحبة إلى فلسطين. في عام 1076، غزا السلاجقة، بقيادة ملك شاه، القدس. فقاد الأباطرة والملوك والباباوات حملاتهم الصليبية عبثا ضد الأسوار المقدسة.

سمح المسلمون أخيرا للمسيحيين بأن يكون هناك دير وكنيسة صغيرة في بيت لحم، والعبادة في الكهف، حيث تقول التقاليد أن المسيح ولد فيه.

أثناء الحملات الصليبية على سوريا، دخلها الفرنجة عام 1096 ، بعد أن حاصرها بوهيموند، ليصبح أول حاكم صليبي لها، مكونا إمارة أنطاكية وهي أول إمارة صليبية.

وبقيت المدينة في يد الصليبيين في الفترة الواقعة بين القرنين الثاني والثالث عشر، حتى قيام الظاهر بيبرس، السلطان المملوكي، بغزوها سنة 1268 .

في عام 1277، وبعد الفصل الثاني للكنائس، نشأ شجار كبير بين الرهبان الأرثوذكس والكاثوليك، بسبب الحق في امتلاك وحراسة هذه الأماكن المقدسة.

في عام 1852، في عهد الإمبراطور نيكولاي، صدر مرسوم رسمي بأن الرهبان الأرثوذكس، يجب أن يشرفوا على هذه الأماكن. لكن عارض الباب العالي تنفيذ هذا المرسوم، ومن ثم، نشبت حرب القرم عام 1853، بسبب هذه القضية بين روسيا وتركيا.

نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا الجديد، هدد باستخدام السلاح. وكانت فرنسا تتطلع لمحاربة روسيا. لأن أثناء حكم لويس فيليب لفرنسا، من 1830 إلى 1848، ولمدة ثمانية عشر سنة، لم تتوقف إهانات نيكولاي لفرنسا، ولم ينس الفرنسيون انسحابهم المهين من موسكو، واحتلال الروس لباريس، وتقسيم بولندا.

الإمبراطور الروسي، نيكولاي، حامي المسيحيين الشرقيين، أخذ بطبيعة الحال دور الرهبان الأرثوذكس، لكن كانت لديه أهداف أخرى كبيرة.

بعد إعلان الإمبراطورية الفرنسية الثانية عام 1852، وتنصيب نابليون الثالث إمبراطورا، حدث برود بين علاقته فرنسا وإنجلترا. استفاد نيقولاي من هذا الوضع. وأقنع إنجلترا بالوقوف إلى جانبه في ضغطه على الباب العالي.

في حديث خاص مع السير جورج سيمور، سفير إنجلترا في تركيا، وصف السفير تركيا بالرجل المريض. وكان يرغب في وصول إنجلترا وروسيا إلى تفاهم، يتعلق بتقسيم تركيا.

قال السير جورج: " لا يمكننا إحياء الموتى مرة أخرى". وكتب إلى حكومته: "إذا سقطت الإمبراطورية التركية، فلن تقوم لها قائمة."، فرد اللورد جون راسل قائلا:

"سيكون من الأفضل لروسيا أن تظهر تسامحا كبيرا مع الرجل المريض، وتعمل على إرجاع له عافيته، بدلا من التعجيل بصنع أزمة لا تحمد عقباها بعمل متهور."

كان الإمبراطور الروسي ساخطا وهو يخاطب السير جورج: "أقول لك، إذا كان قد بلغ حكومتك أن تركيا بها أي عضو لا زال ينبض بالحياة، فتأكد أنها معلومات خاطئة. وأكرر، الرجل مريض يحتضر، ولا يجب أن نفاجأ بذلك."

ثم اقترح الإمبراطور الروسي خطة تقسيم لتركيا، يأخذ بمقتضاها المحافظات الواقعة على نهر الدانوب، ويسمح لإنجلترا بالاستيلاء على مصر وجزيرة كريت. ونفى أي مخططات بالنسبة للقسطنطينية. في الوقت نفسه، أعلن أنه لن يسمح لأي قوة مسيحية أخرى بالسيطرة على مضيق البوسفور.

الأحداث التي سبقت حرب القرم، كان يمكن مقارنتها بأحداث الدراما. وكانت الخطوة التالية، هي تعيين أمير البحر الروسي، منشيكوف، مبعوثا إلى الباب العالي عام 1853.

تم إرساله كقائد غازي، مكلف بتسوية مسألة الأماكن المقدسة وغيرها من المظالم مع الباب العالي. وكان الوقت مناسبا، فقد كان مبعوثي فرنسا وإنجلترا بعيدين.

تخطى أمير البحر منشيكوف قواعد الإتيكيت الشرقية الجامدة، وأدت طريقته المباغتة، إلى سقوط الوزير التركي تلو الوزير احتجاجا. وأسرع اللورد ستراتفورد دي ريدكليف والسيد دي لاكور إلى القسطنطينية، لتسوية مسألة الأماكن المقدسة.

بقي الأمير مينشيكوف، بحجة تسوية بعض التفاصيل التجارية غير المهمة. لكنه وضع أمام رفعت باشا، وزير الخارجية الجديد، مشروع معاهدة. يأخذ نيكولاي بموجبها، المسيحيون الأرثوذوكس في الدولة العثمانية تحت حمايته.

هذا يعني موافقة السلطان على أن يتقاسم عرشه مع دولة أخرى. وكانت النتيجة النهائية، رفض المشروع. هنا، نفذ مينشيكوف تهديده بقطع العلاقات الدبلوماسية، وغادر القسطنطينية غاضبا.

لكن، واصل نيكولاي عمل مبعوثه، وأعلن أن القوات الروسية سوف تحتل على الفور محافظات نهر الدانوب التركية، "ليس بغرض شن الحرب" ولكن من أجل الحصول على ضمان بأن الباب العالي سوف يفي بالتزاماته.

في شهر يوليو 1853، رأت فرنسا وإنجلترا خطرا في هذا التهديد. فألقت الأساطيل الفرنسية والإنجليزية مرساها في خليج بيسيكا في مدخل الدردنيل. وفي أقل من شهر، عبر الجيش الروسي، تحت قيادة الأمير جورتشاكوف نهر بروث.

الجزء الأخير في الدراما، يخص الجهود التي بذلتها القوى الأوروبية للحفاظ على السلام. فاجتمع مؤتمر في فيينا. وبدا الأمر كما لو أن مندوبو الدول الخمس، كانوا على وشك النجاح. لكن، انفجرت الأحداث فجأة في القسطنطينية، وتغير الوضع.

التمس رجال الدين من الباب العالي إعلان الحرب. بكوا وهم يقولون للسلطان: " أنت الآن تستمع للسفراء الكفار، أعداء الدين. لكن، نحن أتباع النبي، لدينا جيش. وهذا الجيش يصرخ مناديا بالحرب، من أجل الانتقام ورد الإهانات التي تنهال علينا من قبل الكفار".

علت الإثارة وباتت أكثر كثافة. التقى المجلس الأعلى للدولة العثمانية في قصر الباب العالي، وصوت بالإجماع لصالح الحرب. فامر السلطان جورتشاكوف بمغادرة الأراضي التركية.

عبرت الأساطيل الفرنسية والإنجليزية مضيق الدردنيل، وألقت مراسيها في مضيق البوسفور. فاندلعت الحرب على الفور، بين الأتراك والروس، في آسيا وعلى ضفاف الدانوب. حتى الآن، ربما كان من الممكن تحقيق السلام.

لكن، تدمير أسطول صغير للعثمانيين في ميناء سينوب، قضى على الأمل في السلام. بالرغم من أن ذلك كان له ما يبرره، إلا أنه أثار عاصفة كبيرة في جميع أنحاء أوروبا.

"الاعتداء على الأسطول التركي في سينوب، لم يكن ضد تركيا وحدها"، صرح الفرنسيون. ثم اتحدت فرنسا مع إنجلترا للسيطرة على البحر الأسود. فأعلن نيكولاي عدم موافقته على هذا العمل، لأنه سوف يأخذ من روسيا حقها في حماية سواحلها بنفسها.

مثل هذه الأفعال، أدت إلى فتور في العلاقات بين روسيا وإنجلترا وفرنسا. وفي عام 1854، أبدت الدولتان استعدادهما لمساعدة تركيا، وعقد معها معاهدة دفاع مشترك. أما النمسا وبروسيا، فقد اتفقنا معا على البقاء على الحياد، إلا إذا هاجمت روسيا النمسا أو عبرت البلقان.

اجتمعت جيوش الحلفاء في مالطا وأبحروا معا متجهين إلى القسطنطينيه. لكن، عندما كانوا ينصبون خيامهم في فارنا، وهي ميناء في بلغاريا على ساحل البحر الأسود، انتشرت الكوليرا.

الحملة ضد الروس الذين كانوا يحتلون المنطقة التي يحدها نهر الدانوب والبحر وأسوار تراجان، فشلت هي الأخرى فشلا ذريعا. فتقرر نقل الحرب إلى شبه جزيرة القرم، وهناك ضربت روسيا ضربة قاتلة.

في الوقت نفسه، فشل الروس في حصارهم الطويل والمكلف لسيليستريا على نهر الدانوب، فعادوا إلى الضفة اليسرى للنهر. واحتلت النمسا المحافظات.

كثيرا ما تروى قصة حرب القرم العظيمة.

هبطت ثلاثمائة وخمسون عربة وفرقاطة لجيوش الحلفاء على "الأرض المقدسة"، حيث تم تعميد القديس فلاديمير منذ ثمانية قرون خلت. وتم اقتحام أسوار ألما المنيعة، وباتت سيفاستيابول، مدينة في القرم، في متناول أيديهم.

"كانت معركة ألما بمثابة صاعقة لروسيا". مدينة سيفاستوبول في القرم، كانت محمية جيدا من ناحية البحر، لكنها غير محمية من ناحية الأرض.

عندما فشل الحلفاء في الاستفادة من انتصارهم، والسير مباشرة إلى المدينة، شرع الروس في العمل على علاج ما ينقصها من دفاعات.

الجنود والبحارة والرجال والنساء والأطفال، أخذوا يعملون على اليابسة. وسرعان ما بدأت المعاقل والخنادق والمتاريس تنتشر على التربة الصخرية للمدينة.

وقام الأدميرال كوميلوف بإغراق سبع من أفضل السفن في فم الميناء. ونقل ثمانية عشر ألف من مشاة البحرية، للدفاع البري. ثم قال للجنود:

"سنقاتل العدو حتى آخر رجل. كل واحد منا يجب أن يموت وهو في موقعه. اقتلوا أي واحد ينادي بالانسحاب أو ينصح بالفرار. وإذا أمرتكم أنا بالانسحاب، أقتلوني."

في بداية القصف، بعد أن تمركز الإنجليز في مواقعهم في بالاكلافا، والفرنسيون في مرتفعات فيديوكين، قُتل الأدميرال الشجاع، كوميلوف، بقذيفة مدفع، وكانت كلماته الأخيرة: "ليبارك الله روسيا والإمبراطور. أنقذوا سيفاستيابول والأسطول".

بعد أسبوع، هاجم الروس التحصينات الإنجليزية في بالاكلافا، وأحرزوا بعض المكاسب الطفيفة. عندها قاد القائد الإنجليزي اللواء الخفيف، وقام بالهجوم على المواقع التي استولى عليها الروس.

بعد بضعة أيام، جدد الأمير منشيكوف الهجوم، ولمدة ثلاث ساعات، حاول الروس الضغط على موقع إنكرمان"، وكانوا على وشك الانتصار، عندما جاءت فرقة صغيرة من الفرنسيين لمساعدة حلفائهم.

ظن الروس أنه الجيش الفرنسي بكامله، فتراجعوا في حالة من الفوضى، وخسروا معركة اليوم. إحدى عشر ألف قتيل روسي ذهبوا هباء، ثمنا للتخطيط الرديء والمعلومات غير الدقيقة.

جاء الشتاء، فعانت الجيوش المحاربة، وخاصة الجيش الإنجليزي من زمهرير البرد والعواصف والمرض. وكان على المهندسين الروس غرس الألغام بالقرب من أسوار المدينة، وقاموا تحت إشراف تودليبين بتعزيز التحصينات وبناء معاقل وخنادق جديدة.

في عام 1855، قامت معركة خطيرة واحدة ميزت ذلك الشتاء. فقد هبط عمر باشا ومعه عشرين ألف تركي في يوباتوريا، التي كان قد تم تعزيزها وتحصينها بشكل جيد.

فأصدر نيقولاي أوامر مشددة بطرد الأتراك من المكان، وإلقائهم في البحر. لكن تمت المحاولة بتهور شديد وفشلت المحاولة فشلا ذريعا.

كانت هذه ضربة ساحقة للإمبراطور نيكولاي. في أوروبا كان يسمى، "دون كيشوت الاستبداد"، ولكن في روسيا، ضللت غزواته في الشرق والغرب شعبه، وكان يلقب ب "ملك الملوك".

ثم جاءت الصحوة، وتحطم الأسطول الروسي الذي لا يقهر في سيفاستيابول، وهزم الجيش الروسي. وتم حصار جميع الموانئ الروسية أو حرقها. أوديسا، كرونشتادت، سفيابورج، وموانئ سيبيريا، وحتى المدن الواقعة على نهر آمور.

كل ذلك ظهر فجأة، بسبب تكميم الصحافة والصمت عن جميع أنواع الفساد الحكومي. الهتافات والمنشورات وحتى الموت المفاجئ للإمبراطور، لم تستطع علاج الجرح الذي أصاب الكبرياء الوطني.

قالوا: "قومي يا روسيا! لقد التهمها الأعداء، ودمرتها العبودية، والاضطهاد بشكل مخجل من قبل مسؤولين حكوميين وجواسيس أغبياء. استيقظوا من نومكم الطويل، وتخلصوا من الجهل واللامبالاة!

لقد تم استعبادنا لفترات طويلة كرقيق وأقنان من قبل خانات التتار. قفوا منتصبين في مواجهة الطاغية، وحاسبوه على ما سببه من مصائب للوطن."

رأى نيكولاي بعد فوات الأوان أنه كان مخطئا. قال: "خليفتي، يستطيع أن يفعل ما يحلو له. أما أنا، فلا يمكنني التغيير". لقد سمع صوت الأمة المفاجئ يناديه لكي يقف أمام محكمة التاريخ والحقيقة. فلم يستطع تحمل العيش.

في أقل من شهر، بعد أن نطق بكلمة "يوباتوريا"، وهي اسم المعركة التي خسرها الروس بفداحة في حرب القرم، مات الإمبراطور نيكولاي عام 1855، بعد حكم دام ثلاثون عاما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط


.. جيش الاحتلال يعلن إصابة 4 جنود خلال اشتباكات مع مقاومين في ط




.. بيان للحشد الشعبي العراقي: انفجار بمقر للحشد في قاعدة كالسو