الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الحجر- بين العلم والفلسفة

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 10 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفرق بين العلوم الطبيعية "التجريبية" والعلوم الإنسانية لا يكمن فقط في المنهج المستعمل في البحث والتحليل ولا في الأدوات العديدة المستعملة للتجربة والقياس، الفرق الحقيقي يكمن في الهدف الذي نريد الوصول إليه من وراء البحث. العلوم التجريبية لا ترمي إلى "المعرفة" connaissance بالمعنى الفلسفى وإنما إلى "العلم" بمعنى الدراية savoir حيث تبحث عن الإلمام وتسجيل شروط إمكانية الحوادث العامة وإظهار القوانين التي تسير عليها. فهي تتعلم تدريجيا وخطوة خطوة ما يوجد قبليا في الطبيعة وتظهره للوجود، فالكهرباء والذرة والجاذبية والموجات الكهرومغناطيسية والجينات، كلها متواجدة في الطبيعة حتى دون أن نكتشفها، والبشرية لم تنتظر أرشميدس لتبني القوارب والبواخر وكل الأجسام الطافية على الماء. والعلم بهذه القوانين يمكن الإنسان من تنظيم عمله بطريقة تمكنه من كسب الوقت وبناء وتركيب أدوات جديدة لتسهيل حياته وهو ما يسمى عموما بالصناعة والتكنولوجيا. فالعلوم التجريبية مكنت الإنسان من أن يبحث عن كيفية صناعة وسيلة للتنقل تختلف عن الحمار والحصان أو الجمل، ويتمكن تدريجيا من الوصول إلى صناعة الباخرة ثم القطار ثم السيارة والطائرة والصاروخ. وفي الجانب الآخر نجد العلوم الإنسانية تبحث عن "فهم" الدوافع التي تجعل الإنسان محتاجا للطيران وللتنقل السريع بدلا من السير على قدميه أو الزحف على بطنه مثل بقية الأحياء. عملية الفهم إذا ترتبط بالعمل الإنساني وقصديته ودوافعه المتعددة. فالجيولوجي مثلا لا يرمي إلى "فهم" الحجر الذي بين يديه، إنه فقط يحلل مكوناته ونسبة المعادن المختلفة الداخلة في تركيبه ليتمكن من تحديد الفترة الجيولوجية التي تكوّن فيها ويدرس نسيج الحجر وبنيته الكثيفة أو الطبقية ولونه، ويحدد إن كان ينتمي إلى الصخور النارية أو الرسوبية أو المتحولة إلخ . أما الأركيولوجي أو عالم الآثار، فإن ما يهمه في دراسة الحجر هو أثر الإنسان على هذا الحجر، كيف تحصل عليه ومن أي مصدر وكيف نحت وصنع منه أداة تمكنه من أداء وظيفة معينة، وكذلك خصائص هذا الإنسان الذي استعمله ومظهره وطوله ووزنه وحجم يده إن كان رجلا أو إمرأة، مستعملا اليد المنى أو اليسرى.. إلخ. فهذا الحجر لا يشير فقط إلى مكوناته المعدنية الجيولوجية ولم يعد موضوعا طبيعيا كحجر الجيولوجي، ولكنه أصبح موضوعا ثقافيا يشير إلى إنسان معين في فترة معينة من تاريخ البشرية. وعالم الآثار الذي يدرس هذا الحجر يرمي إلى فهم الإنسان الذي استعمل هذا الحجر ذات يوم في غرض من أغراضه. من هنا نرى أن العلوم الطبيعية والتجريبة لا تهدف أساسا إلى معرفة العالم أو فهمه كما سبق القول، إنها خطوة مهمة في الطريق إلى هذه المعرفة ولكنها غير كافية وتحتاج إلى المعرفة الإنسانية الأكثر شمولا والأكثر إرتباطا بالإنسان. فتكديس المعلومات وتراكم القوانين والنظريات العلمية وعظمة الإنجازات التكنولوجية لن يجعلها تتحول بمعجزة إلى معنى أو معرفة. فالأفعال الإنسانية مهما كانت لن تنتظم من تلقاء نفسها في مركب جوهري يدل بنفسه على معناه، لا بد من تدخل العقل الإنساني ليدرك أن كل فعل ذو "دلالة - معنى" في جوهره، وإذا غاب هذا المعنى تسقط وتتلاشى طبيعته كفعل إنساني. وربما يكون هذا التدخل هو ما يمكن تسميته بالفكر الفلسفي الذي يسعى إلى تحديد المبادئ العامة والوصول إلى معنى الإنسان والحياة والعالم، وإدراك جوهر الأشياء وماهيتها. الفلسفه إذا هي المجال "الوحيد" الذي يتحقق فيه العقل بكل إمكانياته ويعبر عن جوهره ويرسم خريطة البشرية ويخطط حدوده القصوى. وتاريخ الفلسفة هو بطريقة ما تاريخ العقل ذاته في محاولاته المتعددة واليائسة وربما المستحيلة لتجاوز ذاته والخروج من سجن الفكر المنغلق وفك الحصار وايجاد الأدلة على مشروعيته. وعندما نطرح هذا السؤال البسيط ما هو العقل؟ فإنه من الواضح أن العقل ذاته هو مصدر التساؤل، وهو الذي يتسائل عن ماهيته بواسطة اللغة، وسيلة التساؤل الوحيدة والممكنة والقادرة على إيصال الجمل الإستفهامية إلى الآخر ـ القارئ ـ العاقل بدوره والذي يستطيع أن يمارس عملية التفكير ويحاول الإجابة عن السؤال عن ماهية العقل. العقل إذا يسائل نفسه عن ماهيته، فكيف يستطيع العقل أن يتعالى عن ذاته ويعاين هويته ويحيط بها دون أن يتحول إلى "موضوع" للدراسة ويتشيأ. وهذه الحلقة المغلقة تبدو في كثير من الأحيان غير قابلة للكسر أو الإنقطاع. العقل لا يستطيع أن يفكر في ذاته وهو يفكر، كما أن العين البشرية لا تستطيع أن ترى ذاتها وهي "ترى" أي لا تستطيع أن ترى الرؤية ذاتها، كذلك العقل لا يستطيع أن يفاجئ نفسه وهو يفكر، فلا بد له من أن يستعين بمعارف سابقة، ليست مباشرة ليتصور نفسه وكيفية تواجده في العالم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقطاب طلابي في الجامعات الأمريكية بين مؤيد لغزة ومناهض لمع


.. العملية البرية الإسرائيلية في رفح قد تستغرق 6 أسابيع ومسؤولو




.. حزب الله اللبناني استهداف مبنى يتواجد فيه جنود إسرائيليون في


.. مجلس الجامعة العربية يبحث الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والض




.. أوكرانيا.. انفراجة في الدعم الغربي | #الظهيرة