الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في تحولات النقد والعقل وميلاد الحداثة

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2022 / 10 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في سياق نشاطها الثقافي الشهري. نظمت وحدة الدراسات الفلسفية والتأويلية في المعهد العالمي للتجديد العربي، ندوة فكرية بعنوان نقد العقل ونشوء الحداثة وذلك يوم الجمعة الموافق 28 أكتوبر 2022م ادراتها الدكتورة زهراء الطشم أستاذة الفكر الغربي المعاصر في الجامعة اللبنانية وتحدث فيها الباحث أشرف تلوش من جامعة مولاي إسماعيل المغربية وعقبت عليه طالبة الدكتوراه رشا مكي من جامعة المنيا المصرية. حرصت على حضورها بوصفي عضوا في الوحدة ومتخصصا في الفكر الغربي المعاصر فضلا عن كونها الندوة الوحيدة التي اتيحت فيها الفرصة للباحثين الشباب من النوع الاجتماعي على أهمية موضوعها التخصصي الشديد التعقيد. إذ أن العقل والحداثة هما جوهر المشروع الغربي ولحمه وسداها فكيف يمكن النظر اليه وتفسيره من أفقنا الثقافي العربي المغاير؟ والسؤال هو ما العلاقة بين العقل والحداثة؟ وايهما أسبق عن الأخر؟ هل الحداثة هي نتيجة من نتائج تمكين العقل وجعله معيارا لحقائق الواقع؟ أم أن نقد العقل وتمكينه هو من أنجب الحداثة ومشروعها المظفر في أوروبا الغربية؟ تلك هي المسألة؛ أنها مسألة المفاهيم المجردة وتعريف الكلمات التي نستعملها في دراساتنا الفلسفية تزداد، لاسيما مع مفاهيم أو مصطلحات تلقفناها من سياقات ثقافية مغايرة، إذ أن المفاهيم لا توجد في فلك الأفكار ومدونات اللغات فحسب، بل هي كائنات تاريخية شديدة الارتباط بسياقاتها الاجتماعية الثقافية المشخصة، ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة وسياق نمو وتجربة ممارسة وعلاقات قوة وسلطة معرفة ونظام خطاب ومدونة لغة وفضاء فكر وحساسية ثقافة وحقل تأويل وشفرة معنى وأفق دلالة.. الخ غير أن مشكلة الإنسان مع المفاهيم المجردة تكمن في اعتقاده بانه يعرفها بمجرد النطق وحينما يسأل نفسه عن معناها؟ يكتشف جهله بمعناها الحقيقي وتلك هي قضية سقراط الذي أكد أن الفلسفة هي التي تعلمنا جهلنا ومعرفة الإنسان بجهله الذاتي هو الخطوة الأولى لتفتح العقل وفهم العالم. إذ أن مفاهيم العقل والحداثة والتحديث والتقدم والنقد والتنوير والحرية هي مفاهيم كلية مجردة ولا وجود لها في الواقع المحسوس الملموس هي من استدعت الحاجة الملحة إلى الفلسفة منذ سقراط ولازالت تستدعيها إلى ابد الأبدين. ولا يوجد أي علم أخر يمكنه اشباع هذه الحاجة غير الفلسفة وتحديد المفاهيم وتعريفها هو الخطوة المنهجية الأولى في الدراسات الإنسانية والاجتماعية والثقافية، ذلك كون مفاهيمها ملتبسة وغامضة وغائمة، على الدوام، لأن موضوعها ذاته متحرك ومتغير باستمرار، (الإنسان في المجتمع والتاريخ ) إذ لا توجد نواة صلبة قابلة للتحديد والتعريف تصلح جوهراً للمفهومات التاريخية و الثقافية الإنسانية كتلك التي تستخدمها العلوم الطبيعية البحتة في دراسة ظواهرها وتفسير قوانين حركتها ك( الفيزياء والكيمياء والاحياء والرياضيات ) في الواقع لقد افزعني أن الندوة ركزت على موضوع نقد العقل عند كانط والجابري ولم تولي العناية الكافية بمشروع الحداثة والتحديث الأوروبي وبدى الأمر وكأن العقل معلقا في الفضاء الفكري وهذا هو ما حفزني للتداخل. إذ أكدت أن كانط ونقده الجذري للعقل المحض هو ثمرة سياق تاريخي طويل من التحولات والتغيير التي طالت كل مجالات الحياة الحديثة في شمال الأطلسي إذ أفضت التحولات التاريخية التي شهدتها أوروبا منذ بدء عصر النهضة، إلى تبلور مفهوم جديد لمعنى التاريخ وحركته وتطوره، هو مفهوم التقدم الإنساني الذي لا حدود له ويرى (تشارلز ريد) "انه ليس هناك فكرة اخطر من فكرة التقدم مارست تأثيراً كبيرا في الثقافة الحديثة أو من المرجح إن تمارس تأثيراً اكبر منها في المستقبل؛ فكيف ظهرت فكرة الحداثة بوصفها أفقًا عقليا ونفسيا وقيميا أو بحسب توماس كون بوصفها براداغيما جديدا ولد من رحم التحديث الغربي للحضارة؟ في الواقع لم تنشأ فلسفة التقدم ومفاهيمها الجديدة في الفراغ، بل نشأت في السياق التاريخي الحي لحركة المجتمع وتطوره، على الصعد الحضارية، والثقافية والمدنية كافة، وبهذا المعنى نفهم قول صاحب كتاب "فكرة التقدم" "انه ما كان لنظرية التقدم الإنساني أن تتوطد بالحجج المجردة، بل كان يحكم عليها من خلال الدليل الذي يقدمه التاريخ نفسه" أن الحاجة إلى رؤية فلسفية حداثية كانت تستمد مقوماتها وحوافزها مما كان يجري في العملية التاريخية في الحاضر الأوروبي من متغييرات وأحداث تقدمية وبما كان يبشر بها المستقبل هناك من آفاق ابعد غوراً أو أكثر تقدماً، وكانت قوى البرجوازية الصاعدة، ترى في التقدم مسيرتها وترسم عليه مستقبلها، إذ أخذت فكرة التقدم تنتشر وتشيع في نسيج الثقافة الأوروبية عقيدة عامة وفلسفة شاملة في ذلك العصر، وهذا ما يراه احمد محمود صبحي بقوله: "إن نظرية التقدم لم تكن مجرد أراء يرددها مفكرون وإنما كانت اقتناعاً عاما لدى أهل ذلك العصر" وإذا كانت فلسفة التقدم قد انطلقت من تأكيد قيمة الإنسان وقدرته على صناعة التاريخ، فأنها في بدء الأمر قد اكتسبت بعدين أساسين:- البعد الأول يتمثل في نقد كل ما يحول دون انطلاقة الإنسان ويكبل قواه وهذا ما شهده القرن السابع عشر، الذي يعد قرن تحطيم الأوثان، إذ كان ملتون في ملحمة "الفردوس المفقود" يهاجم بلا هوادة المؤسسات التقليدية، ويرى "أن أعظم عبء في العالم هو الخرافة، ليست المتعلقة بالطقوس الكنسية وحدها، بل بالآثام المتخلية وبفزاعات الإثم في البيت أيضا" وفي كتابه "الاوياثان" 1651 سار هوبز بهذه النزعة النقدية ضد الخرافات والأوثان إلى نهايتها المنطقية فالوثنية كما يقول هوبز عبارة عن عبادة الوثنيين لأفكارهم ذاتها، ولم تكن تلك العبادة ممكنة لولا أن الوثنيين الغارقين في ضلال الجهل لم يدركوا أن أفكارهم ليست مكتفية بذاتها، بل سببتها الأشياء الخارجية وتوسطتها ملكة التمثيل" لقد كانت الثورة النقدية الحاسمة ضد الخرافات والأفكار المطلقة قد اكتملت عند جون لوك وهيوم، وانتقلت إلى فرنسا إذ تلقفها الفلاسفة الماديون أمثال كوندياك وهلفسيوس ودولباخ، الذين ارجعوا كل أفكار الناس إلى الخبرة الحسية المادية، وفي كتابه "رسالة في الإحساسات عام 1754" يذهب كوندياك إلى أن أفكارنا تنتجها دائما قوى مادية لا وجود لـ عقل أو روح مستقل عن الحواس والخبرة الحسية. أن إعادة المكانة للإنسان الكائن الحاس وتأكيد أهمية العالم الحسي ونقد أفكار العرق المورثة وتحطيم الخرافات، كان له بالغ الأثر في صعيد تبلور فكرة التقدم التي وجدت أول صياغة لها على يد المفكر الفرنسي الديكارتي (فونتيل) في كراسه "محاورات الاموت عام 1683" الذي أكد فيه قدرة الإنسان الخلاقة على الحلم والتقدم والكمال، "فلا حدود لتقدم المعرفة الإنسانية والإنسان لن يشيخ بل يتجاوز نفسه باستمرار وفي كتابيه "استطراد حول القدماء والمحدثين وحول تعدد العوالم 1686 ذهب فونتيل إلى إن الإعجاب المفرط بالقدماء هو احد العوائق الرئيسة للتقدم الإنساني الذي يصعب إيقافه أبدا" وإذا كانت فلسفة التقدم قد انطلقت من نقد الماضي ونقد تقديس القدماء وتحطيم الأصنام، فأنما أرادت تمهيد السبيل لتصور جديد للتاريخ يقوم على أساس من تأكيد الحاضر واستشراف المستقبل، بل إن نقد الماضي وتقاليده الذي ساد في عصر التنوير كان شرطاً ضرورياً لتسويغ الحاضر وقيمة المعرفية والحضارية والمدنية. وكان المنور الفرنسي فولتير (1694-1778م) بين اشد المثابرين في هذا المشروع، وكان شعاره (اسحقوا الأباطيل) صيحة الحرب ضد المؤسسة التقليدية. ويعد فولتير أول من استخدم كلمة "فلسفة التاريخ" بالمعنى الحديث للكلمة، من حيث هي فرع جديد من فروع المعرفة الإنسانية، تدرس التاريخ دراسة عقلية ناقدة، ترفض الخرافات والأوهام والأساطير والمبالغات.وتعود أهمية فولتير هنا لما كان يمثله في عصر التنوير من قيمة نقدية مهمة، ففي شخصيته وأدبه الجاد والساخر وفي منهجه النقدي العنيف، وأسلوبه اللاذع وقوة أفكاره كان خير من عبر بعمق عن مزاج عصر التنوير وأتجاهاته التقدمية ، وكان شديد التفاؤل في قدرة الإنسان وعقله في التقدم، إذ يقول: "يمكننا إن نعتقد إن العقل والصناعة سوف يتقدمان دائما أكثر فأكثر وان الفنون المفيدة ستتحسن، وان المفاسد التي حلت بالإنسان سوف تختفي بالتدرج. ويرى فولتير أن الإنسان يتقدم من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية بفضل ما يمتلكه من عقل طبيعي وان الإنسان خير بطبعه هناك أمل في ارتقائه وبلوغه حد الكمال في حالة المدنية المنظمة تنظيماً عقلياً. وكان من أشد المنتقدين للتعصب والانغلاق العقائدي أما الفيلسوف الأخر الذي أجاد التعبير عن عقيدة التقدم الحديثة فهو كوندورسيه (1743-1794م) الذي عاش عهد الثورة الفرنسية عام 1789م هذه الثورة التي نادى لسان الكون في العالم من خلالها، لابـ "الخمول والانقباض" بل بالتحرر والتقدم والكمال، إذ ينزوي هذا الفيلسوف في فندق صغير خارج باريس هرباً من بطش الطاغية روبسبير، ليكتب "معالم صورة تاريخية لمظاهر التقدم في الفكر البشري" مشيراً إلى انه "ليس هناك حدود مرسومة لتقدم الملكات الإنسانية لأنه لا حد على الإطلاق لقبول الإنسان للكمال... وأن مسيرة الإنسان نحو الكمال لن تعرف حداً ولا نهاية... وسيأتي زمن لن تشرق فيه الشمس إلا على الأمم الحرة وحدها, الأمم التي لا تعترف بسيد أخر غير عقلها، ولن يجد الطغاة ولا العبيد ولا الكهنة وأتباعهم الأغبياء المنافقون أي مكان لهم، اللهم إلا على صفحات التاريخ وخشبة المسرح. في هذا السياق التاريخي والثقافي المحتدم يمكن لنا التفتيش عن العقل ومعانيه الحداثية و لاريب أن أحد المصادر الكبرى لقدرات الانسان العقلية والطبيعية ذاتها هي المذاهب الدينية والقانونية في حضارة من الحضارات وأهم هذه المصادر الصورة الميتافيزيقية الأوسع التي تجرى ضمنها أنماط الخطاب وتشكيل في فضائها أهم المفاهيم التي تشكل تصورات الانسان عن نفسه تشكيلاً عميقاً ،فأما أنها تدعم قواه العقلية أوتضيق عليها. وفي كل عصر من العصور يعاود العقل وظيفته في تأمل العالم ومحاولة فهمه من جديد عبر التساؤل المستمر ما الوجود ؟ يعني من نحن هنا والآن وماذا بوسعنا فعله وكيف نعيش عالمنا الراهن؟ وأجوبة الفلسفة القديمة لا يمكنها أن تسعفنا في تفسير عالمنا الجديد وفهمه. والحاجة إلى نقد العقل واوثانه واوهامه هي حاجة حيوية دائمة ذلك ينجم من طبيعة العقل ذاته فهو ليس مهجعا مهجورا لتخزين المعرفة والمفاهيم كما هو حال مخازن الاشياء والنقود والمجوهرات والبضائع. ومن الاخطاء الشائعة الاعتقاد بأن العقل هو عضو من اعضاء الجسم إذ يتم المطابقة عند البعض بين العقل والمخ أو الدماغ بمعنى واحد وهذا غير صحيح. فليس هناك شيئا ملموسا محسوسا اسمه العقل يمكن رؤيته ولمسه بالحواس المتاحة. العقل مفهوم مجرد وليس عضوا ماديا متعينا في الواقع بل هو مفهوم يطلق على ممارسة التفكير الواعي الذي يباشره الانسان في أثناء ممارسته لحياته اليومية وهو أهم وأخطر المفاهيم التي مارست تأثير ساحق على حياة المجتمع الانساني وتطوره ويتحدد نظام كل ثقافة أو حضارة من المعنى الذي تمنحه للعقل والموقف الذي تتخذه منه. وهذا أمر يطول شرحه. وكل جيل من الأجيال معني بتدبير العيش في حاضره هو لا ماضي اسلافه ومواجهة تحديات حاضره هو في ظل المعطيات والشروط والممكنات المتاحة في اللحظة الراهنة والمستقبل هو أمام الناس لا ورائهم.وتعد الفلسفة بما هي طريقة متميزة في ممارسة التفكير وإنتاج المعرفة واحدة من أهم مصادر المعرفة وادوات الفهم والتنوير إذ يشهد تاريخ الافكار بان حضور الخطاب الفلسفي الأصيل حيثما وجد عبر التاريخ كان الشرط الرئيس لنمو وتفتح وازدهار الثقافة والأفكار الخلاقة ونقصد بالثقافة هنا القوة الإبداعية في التاريخ علما وادابا وفنا ولا تطور ولا تقدم ولا نماء ولا ارتقاء بدون معرفة الطبيعة ومظاهرها وفهم قوانين حركتها والتنبؤ بنتائجها وتلك هي وظيفة العلوم الطبيعية ولا تطور ولا تقدم ولا نماء ولا ارتقاء في التاريخ والحضارة الا بمعرفة حقيقة الكائن الإنساني والمجتمع البشري بوصفهما لحمة التاريخ وسداه؛المعرفة القادرة على فهم حاجات الإنسان ودوافعه ومقومات الحياة الاجتماعية المدنية المستقرة وقوانين التاريخ وحركته والتنبؤ بمساراتها المستقبلية وتلك هي وظيفة العلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفة في قلبها بل هي أمها التي ابدعت اخصب وانضج المفاهيم الأساسية في تاريخ المعرفة الإنسانية( الوجود، الإنسان، العقل،الخير، الشر، العدل ، الحرية، الجمال ..الخ) وذلك منذ البواكير الاولى للفكر الفلسفي الشرقي واليوناني القديمين مرورا باللحظة العربية الإسلامية الخصيبة لحظة الترجمة والتفلسف في المشرق والمغرب العربي وانتهاء بالعصور الحديثة والمعاصرة. إذ لم تكن الحداثة الغربية في معناها الاوسع إلا مشروعا فلسفيا عقلانيا قرر اعادة تأسيس وبنا المجتمع من جميع جوانبه على أسس عقلانية. وقد شكلت الفلسفة الفضاء الرحب لانطلاق وتقدم حركة التنوير الاوربية منذ القرن السابع عشر الميلاد وفي سياقها ازهر المنورورون الكبار امثال فرانسيس بيكون وديكارت وهيوم ولوك وفولتير وروسو وديدرو وغيرهم وكان الالماني امانوئيل كانط ثمرة تيار التنوير الأنضج في مقاله ما التنوير؟ وربما كانت أهمية كانط تكمن هنا فيما أشار اليه الدكتور بن شرقي بن مزيان في مداخلته الآريبة البارحة إذ أشار إلى نقد كانط للمقولات الارسطية الصورية التي كبلت العقل على مدى الفين عام. ولأن العقل يبحث عن حقائق الأشياء انطلاقا من إقرار مسبق بالجهل كقاعدة عامة فإنه لا يتبنى ولا يزكي الأجوبة المعطاة، الجاهزة وهو ما يعني أن طريق العقل، على الأقل ضمن صيرورته الغربية، كانت طريقا لا دينية ذلك لأن اللاهوت يقفل ملف الحقيقة هذا بتنبيه لـ “حقائق منـزلة ومقدسة وفي عالم المقدسيات لا توجد تأملات وتساؤلات بل هناك اجابات جاهز وحمد وشكر. بينما عالم عالم الإنسان يزدهر الفكر والتساؤل والحوار وتتخصب المعرفة الإنسانية بقدرات منهجية جديدة قادرة على النفاد إلى بواطن الاشياء والظواهر. واذا كان باطن الأشياء مثل ظواهرها لما كان للإنسان بالعقل والتفكير حاجة. أن الوظيفة الاساسية للفلسفة هي نقد أوثان العقل الذي تحولت عبر الاستخدام الطويل إلى خرافات وأساطير وهذا ما يسمى بمفارقة المعتقد صورة بديهات ومسلمات لا يأتيها الباطل لا من خلفها ولا من بين أيديها؛ وكل حقيقة هي حقيقة اللغة نسي الناس أنها كذلك من طول الاستعمال كما يقول نيتشه. أن الفلسفة بوصفها حكمة العقل ودهشة الانفعال هي المعنية دائما بتحطيم الأوثان؛ اوثان العقل ذات وذلك بنقدها وبيان تارخانيتها وهذا هو معناها بوصفها الفكر الذي يفكر أو العقل الذي يعقل ذاته. قدرة الفكر على المزاوجة بين ملاحظة سلوكاته الذاتية” وسلوكات” الموضوعات الخارجية” السلوكات الذاتية للعقل هي عاداته وأعرافه أي، بكلمة، آليات اشتغاله. لكن لمعرفة هذه السلوكات لا بد من الإحاطة علما بصيرورة تطورها ، وهو ما دفع إلى نشوء الجينيالوجيا (علم نسابة الفكر البشري) وحدها الفلسفة هي من ستنطق الكلمات والمفاهيم والمصطلحات والافكار من أي جاءت وكيف ولدت وازهرت في سياقاتها الاجتماعية والتاريخية ولا يمكن فهم العقل بدون فهم اللغة إذ لا تفكير الا بالكلمات والصور الذهنية حتى في الأحلام. ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة وسياق نمو وازدهار وعلاقة قوة وسلطة وحقل دلالة وفضاء تلقي وحساسية ثقافة وابتسمية خطاب.اللغة هي العقل، والعقل ما يختزن من لغة مفهومية.حجم المفاهيم تحدد حجم العقل ونوعه.لا يمكن تخيل مفهوم لا أساس واقعياً له.يمكن ان نطلق الأسماء على تخيلاتنا.ولكن ليس كل اسم مفهوم.الغول اسم للمتخيل الذي ركبه العقل هوتصور وليس مفهوماً.لأن المفهوم تجريد،والتجريد فاعلية العقل في تحديد ماهية أشياء مشتركة وتعميمها بكلمة،والتجريد تجريد وقائع مادية أو معنوية.ولذلك كل قول لا يقوم على أساس المفاهيم والعلاقات بينها قول لا قيمة معرفية له. بحسب البرقاوي وعندما يتنكر الناس للعقل فإن مختلقات خيالهم تتضخم وينغمسون في مهاوي الأوهام والأخطاء.وربما كانت المقارنة بين نقد كانط للعقل الخالص ونقد محمد عابد الجابري للعقل العربي خارج أفق المعنى والتلقي إذ لم تشهد الحضارة العربية أي تحول تاريخي من البراديغم التقليدي إلى بادرايغيم جديد مختلف فمازلنا عند لحظة المعتزلة والاشاعرة ولم تحدث القطيعة الابستمولوجية المفترضة فالثقافة العربية الإسلامية مازالت تدور في فلك دائري وليس خطيا تقدميا وسبب ذلك هو غياب مفاهيم الطبيعة والقانون الطبيعي ،والانسان والضمير والعقل وحرية التفكير من آفق الثقافة الإسلامية أفضى بالمحصلة الأخيرة إلى العجز الكلي عن انجاز الطفرة العلمية الحديثة التي انحصرت في أوروبا الغربية واخفقت في حضارتنا العربية الإسلامية. كان العرب في كل حقول العلم .. في طليعة التقدم العلمي …إذ أن ما حققه العرب يثير الإعجاب إلى حد يدعو للتساؤل عن السبب الذي منعهم من اتخاذ الخطوة الأخيرة باتجاه الثورة العلمية الحديثة ؟ ويضيف ” كان العرب قد وصلوا إلى حافة أعظم ثورة فكرية حدثت في التاريخ، ولكنهم رفضوا الانتقال من العالم المغلق إلى الكون اللانهائي) حسب تعبير(Koyre كويري). وبما أنهم عجزوا عن اتخاذ هذه الخطوة الخطيرة في بداية العصر الحديث، فإن البلاد الإسلامية لا تزال تتمسك بالتقاويم القمرية” وفي سياق تناوله للبُنى الثقافية والمؤسسية التي حالت دون مقدرة العلم العربي على اتخاذ تلك الوثبة الحاسمة من الباراديم التقليدي المغلق إلى الباراديم الحديث الجديد توصل هب إلى نتائج بالغة الخطورة والأهمية اليكم بعضها:
1- لم يكن لعلماء الطبيعة العرب دور معترف به اجتماعياً وثقافياً وسياسياً يوازي دور الفقهاء من حيث السلطة والنفوذ، بل كانت بنية الفكر والعواطف في الإسلام في القرون الوسطى بشكل عام ذات طبيعة جعلت طلب العلوم الوضعية والعقلية وعلوم الأولين أمراً يثير الشكوك ويجلب لأصحابها كثيراً من المتاعب والتهم الخطيرة على حياتهم.
2- كانت سلطة الفقهاء وسطوتهم شاملة بحيث لم يتركوا شيئاً للعلماء والفلاسفة ليقولوه، بل إن الفلاسفة وعلماء الإنسانيات لم يكن لهم وظيفة ودور معترف بهما في المجتمع، ومن ثم لم تكن لهم حماية، إذا ما أردوا التعبير عن آرائهم بشأن القضايا الفكرية بحرية، كمسألة خلق العالم، والعلية الطبيعية، والحرية الإنسانية، وما إذا كان بإمكان الإنسان الوصول إلى المبادئ الأخلاقية عن طريق الرؤية العقلية بعبارة.
3- غياب فكرة العقل والعقلانية؛ إذ إن مصادر الشرع هي القرآن الكريم، والسنة، والإجماع، والقياس، وهذا ما أفضى إلى التخلص من العقل بوصفه مصدراً من مصادر التشريع، وقد أدى التضييق على العقل إلى إنكار النظرة العقلانية إلى الطبيعية؛ أي دراستها بوصفها موضوعًا قابلاً للفهم والسيطرة ،كما أن مفهوم العقل الذي شاع عند المسلمين ليس العقل الفعال عند أرسطو، ولا (النور الداخلي) عند فلاسفة النهضة، بل يطلقون كلمة العقل على الأفكار التي يؤمن بها عامة الناس. ويرى فضل الرحمن أن “اللاهوت احتكر في نهاية المطاف حقل الميتافيزيقيا كله وأنكر على الفكر الخالص حق النظر نظرة عقلانية في طبيعة الكون وطبيعة الإنسان ،لكن العلم الحديث لم يكن له أن يظهر ويزدهر دون توافر أطر ميتافيزيقية عامة ومعترف بها تقوم على فرضيات عن انتظام العالم الطبيعي وخضوعه لقوانين معينة وعلى الإيمان بقدرة الإنسان على فهم البنية الكامنة في الطبيعة وفهم القوانين التي تتحكم في الكون والحياة والإنسان واستيعابها والتنبؤ بنتائجها والسيطرة عليها، وربما هذا هو ماقصده ماكس بيرونتز بقوله: “أنه لا يزال هناك ما يقال بشأن اكتشاف السبب في أن هناك آخرين عميت بصيرتهم عن التقاط ما حاولت الطبيعة أن تقوله لهم، على الرغم من أنهم في الظاهر كانوا قادرين على ذلك”ويخلص (هف) إلى القول: “لقد ضيق مهندسو الشريعة واللاهوت في الحضارة العربية الإسلامية القدرات العقلية عند ألإنسان ورفضوا فكرة الفاعلية العقلية التي يتميز بها جميع بني البشر لصالح الرأي القائل إن على الإنسان أن يسير على نهج السلف وأن يتبع التقليد، وإن الأسلاف لم يتركوا شيئاً للآخلاف. أما الأوربيون القروسطيون فقد وضعوا تصوراً للإنسان والطبيعة كان فيه من العقل والعقلانية ما جعل النظرات الفلسفية واللاهوتية مجالات مدهشة من مجالات البحث التي كانت نتائجها لا هي بالمتوقعة ولا بالتقليدية.فمتى تطلق بومة منيرفا جناحيها للريح في فضاءات العالم العربي الإسلامي؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شولتز: المساعدات الأميركية لا تعفي الدول الأوروبية من الاستم


.. رغم التهديدات.. حراك طلابي متصاعد في جامعات أمريكية رفضا للح




.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة